________________________________________
بينا ذوائب من يحب بكفه ... حتى تعلق لحية الممدوح
انتهى. وهذا ذم ظرافة لا تحقيق، فعلى الأول المعول.
وإذ ذكرنا هذه الجملة من محاسن المخالص، تعين علينا أن ننبه على ضدها، ليتحرز المبتدي، ويتيقظ المنتهي من سنة الغفلة عن الوقوع في مثلها.
فمن قبيح التخلص قول أبي نواس من قصيدة في الفضل بن يحيى:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا
فإنه ما زاد على أن يجعله قوادا له، ولهذا استحق به السخط من ممدوحه.
حدثت رابعة البرمكية قالت: كنت يوما وأنا وصيفة على رأس مولاي الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، وبيدي مذبة أذب بها عنه، إذ استؤذن لمسلم بن الوليد الأنصاري فأذن له، فلما دخل أعظمه وأكرمه، واستنشده، ثم خلع عليه وأجازه وانصرف. فما قلت أنه جاز الستر حتى استؤذن لأبي نواس، فامتنع من الإذن له، حتى سأله بعض من كان في المجلس أن يأذن له ففعل على تكره منه، فلما دخل عليه ما علمت أنه رد عليه، ولا أمره بالجلوس، ولا رفع إليه رأسه. فلما طال عليه وقوفه قال: معي أبيات أفأنشدها؟ فقال: افعل، وهو في نهاية التكره له والتثقل منه.
فأنشده:
طرحتم من الترحال أمرا فغمنا ... ولو قد فعلتم صبح الموت بعضنا
فلما بلغ إلى قوله:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا
قطب في وجهه، وقال: امسك عليك لعنة الله، أعزب قبحك الله، وأمر بإخراجه محروما فأخرج، والتفت الفضل إلى أنس بن أبي شيخ فقال: ما رأيت مثل هذا الرجل، ولا أقل تمييزا لكلامه منه، فقال أنس: فإن اسمه كبير، فقال: عند من ويلك؟ هل هو إلا عند إسقاط مثله.
ويقال أن أبا نواس اعتذر عن ذلك وقال: ما أردت بالفضل في قولي (لعل الفضل يجمع بيننا) إلا معنى الإفضال لا الممدوح، وهو عذر غير واضح.
وتبعه المتنبي في معنى هذا المخلص وزاد عليه فجاء بالطامة الكبرى حيث قال:
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا
فأتى بما لا يحتمل التأويل والاعتذار، ولا يقال معه عثار.
وممن وقع في حبائل هذا القبح لما رام حسن التخلص، الشيخ عبد الرحمن بن المهدي العقبي من قصيدة في الشيخ عبد الرحمن المرشدي يهنئه بتقلده الإمامة والخطابة والفتوى في آخر عام تسعة عشر وألف:
أنا لم أدر ما الصبابة لولا ... نظرة الريم من خلال الحجال
منية دونها المنية والآجال نيطت بأعين الآجال
لو رثت لي لألصقتني بما بين مجال القروط والأحجال
غير أن الهوى شديد محال ... يفتك الريم فيه بالرئبال
لذت من حربه بسلم فما زا ... د سوى تيه عزة ودلال
أشكلت قصتي وها أنا أعدد ... ت لها رأي موضح الإشكال
غير أن هذا أخف من ذاك على كل حال، على أن الكل قبيح.
والأصل في هذا المعنى لقيس بن ذريح حين طلق زوجته لبنى فتزوجت غيره، ثم ندم على طلاقها وكان مشغوفا بها، فشبب بها وما زال يشكو لوعة فراقها في أشعاره حتى رحمه ابن أبي عتيق، فسعى في طلاقها من زوجها وأعادها إلى قيس، فقال يمدحه ويشكره:
جزى الرحمن أحسن ما يجازي ... على الإحسان خيرا من صديق
وقد جربت إخواني جميعا ... فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي ... أغصتني حرارتها بريقي
فلما سمعها ابن أبي عتيق قال لقيس: يا حبيبي امسك عن مدحك هذا، فما يسمعه أحد إلا ظنني قوادا.
ومن قبيح المخالص قول المتنبي أيضاً:
غدا بك كل خلو مستهاما ... وأصبح كل مستور خليعا
أحبك أو يقولوا جر نمل ... ثبير أو ابن إبراهيم ريعا
فإن هذا المخلص جمع بين الثقل والبرودة وتعسف المعنى، ومعناه أنه علق انقضاء حبها على أمر مستحيل عادة، وهو أن يجر النمل الجبل المسمى ثبير أو مستحيل ادعاء وهو خوف الممدوح. ومراده أن يقرر أن كلا من هذين الأمرين من المستحيلات.
وقوله أيضاً:
لا يجذبن ركابي نحوه أحد ... ما دمت حيا وما قلقن كيرانا
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
(1/247)
________________________________________
قال الصاحب بن عباد رحمه الله تعالى: في هذا البيت أراد أن يزيد على الشعراء في ذكر المطايا فأتى بأخزى الخزايا، ومن الناس أمه، فهل ينشط لركوبها، وللمدوح أيضاً عصبة لا يجب أن يركبوا إليه. فهل في الأرض أفحش من هذا التسحب، وأوضع من هذا التبسط.
ثم أراد أن يستدرك هذه الطامة بقوله:
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما يراه من الإحسان عميانا
وإذا انتقل الشاعر مما ابتدأ به الكلام إلى المدح ونحوه من غير ملائمة سمي اقتضابا، وافتطاما، وارتجالا، وهو مذهب العرب الجاهلية والمخضرمين الذين أدركوا الإسلام؛ كلبيد؛ وحسان، وكثير من الإسلاميين ومن المولدين يتبعونهم في ذلك، ويجرون على مذهبهم فيه.
كقول أبي تمام:
لو رأى الله أن في الشيب خيرا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا
ثم قال بعده من غير ملائمة:
كل يوم تبدي صروف الليالي ... خلقا من أبي سعيد رغيبا
وقوله من أخرى يمدح المعتصم بالله العباسي:
وقد طوى الشوق في أحشائنا بقر ... عين طوتهن في أحشائها الكلل
يخزي ركان النقا ما في مآزرها ... ويفضح الكحل في أجفانها الكحل
تكاد تنتقل الأرواح لو تركت ... من الجسوم إليها حيث تنتقل
طلت دماء هريقت عندهن كما ... طلت دماء هدايا مكة الهمل
هانت على كل شيء فهو يسفكها ... حتى المنازل والأحداج والإبل
ثم قال بعده من غير مناسبة، ولا تقريب:
بالقائم الثامن المستخلف أطأدت ... قواعد الملك ممتدا لها الطول
وهو في شعره كثير.
وكقول البحتري:
تمادت عقابيل الهوى وتطاولت ... لجاجة معتوب عليه وعاتب
إذا قلت قضيت الصبابة ردها ... خيال ملم من حبيب مجانب
يجود وقد ضن الألى شغفي بهم ... ويدنو وقد شطت ديار الحبائب
ترينيك أحلام النيام وبيننا ... مفاوز يستفرغن جهد الركائب
ثم قال بعده بلا مناسبة:
لبسنا من المعتز بالله نعمة ... هي الروض موليا بغزر السحائب
وقوله من أخرى في الفتح بن خاقان:
ويوم تثنت للوداع وسلمت ... بعينين موصول بلحظيهما *****
توهمتها ألوى بأجفانها الكرى ... كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر
ثم قال بعده:
لعمرك ما الدنيا بنا قصة الجدا ... إذا بقي الفتح بن خاقان والبحر
وهو في شعره: أكثر، حتى أن السليماني الشاعر عرض به في قوله:
يغتابني فإذا التفت أبان عن محض صحيح
وثبا كوثب البحتري ... من النسيب إلى المديح
وهو في شعر الشريف الرضي كثير جدا، ولا فائدة في إيراد شيء منه هنا، لأنه خارج عن البديع وما كان الغرض من إيراد هذه الجملة منه إلا بيانه بالتمثيل، والله أعلم.
تنبيه - ذهب أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي إلى أنه لم يقع في القرآن شيء من التخلص لما فيه من التكلف، وقال: إن القرآن إنما ورد على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم وقد أنكر عليه جماعة من العلماء ذلك، وغلطوه في قوله هذا، وقالوا: إن في القرآن من التخلصات العجيبة ما يحير العقول. فانظر إلى سورة الأعراف، كيف ذكر فيها الأنبياء، والقرون الماضية، والأمم السالفة؛ ثم ذكر موسى؛ إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) وجوابه تعالى عنه، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه لأمته بقوله: (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين) من صفاتهم كيت وكيت، وهم (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) ، وأخذ في صفاته الكريمة، وفضائله العظيمة. وفي سورية الكهف حكى قول ذي القرنين في السد (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا) ، فتخلص منه إلى وصف حالهم بعد دكه الذين هو من أشراط الساعة، ثم بالنفخ في الصور، ثم ذكر الحشر، ووصف مآل الكفار والمؤمنين؛ ومثل ذلك في القرآن كثير، والله أعلم.
وقد طال الكلام في هذا النوع، فلنتخلص إلى إثبات أبيات البديعيات.
فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
من كل معربة الألفاظ معجمة ... يزينها مدح خير العرب والعجم
(1/248)
________________________________________
هذا المخلص جار على الشرط الذي قرر في حسن التخلص، من كونه في بيت واحد، وأن يثب الشاعر من شطره الأول إلى الثاني، وهو كذلك. غير أن تمام معناه متعلق بما قبله، فهو غير صالح للتجريد. وقد مر أن أبيات البديعيات التزموا أن يكون كل بيت فيها شاهدا على نوعه بمجرد لا يتعلق بما بعده، ولا بما قبله، ومخلص الشيخ صفي الدين هذا إذا لم يذكر ما قبله كان ناقص المعنى؛ منخرم النظام، لا يظهر كمال حسنه، ولا تستحلي الأذواق طعم حلاوته؛ ما لم يؤت بمتعلقه وهو بيت القسم، وبيت الاستعارة، وبيت مراعاة النظير.
فيتعين إيرادها هنا لإيضاح ذلك، وهي:
لا لقبتني المعالي بابن بجدتها ... يوم الفخار ولا بر التقى قسمي
إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم
تجار لفظي إلى سوق القبول بها ... من لجة الفكر تهدي جوهر الكلم
من كل معربة الألفاظ معجمة ... يزينها مدح خير العرب والعجم
قال ابن حجة: وأين الشيخ صفي الدين من قول كمال الدين بن النبيه وقد تقدم:
يا طالب الرزق إن سدت مطالبه ... قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت
هذا المخلص لحسن تجريده يستغني به عن قصيدة. انتهى.
قلت: تقدم أن ابن النبيه تخلص قبل هذا البيت بقوله:
في أحسن الناس أشعاري إذا نسبت ... وفي أجل ملوك الأرض إن مدحت
فالمخلص هذا البيت لا ذاك، فلا يخفى عليك غباوة ابن حجة، وصلود زند فهمه.
ومخلص بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
يمم بنا البحر إن الركب في ظمأ ... فقلت سيروا فهذا البحر عن أمم
قد تقدم أن ابن جابر أتى في مطلعه بصريح المدح حيث قال:
بطيبة انزل ويمم سيد الأمم ... وانثر له المدح وانثر طيب الكلم
فأطلق التصريح وبين المدح، ونشر الكلم، فلم يبق لحسن التخلص محل ولا موقع، لأن معنى التخلص أن يكون من غزل ونسيب ونحو ذلك إلى المديح، لا من المديح إلى المديح - قاله ابن حجة بالمعنى - وأنا أقول: هذا اعتراض في غير محله، لأن ابن جابر وإن صرح بالمدح في مطلعه فقد انتقل بعده إلى الغزل والتشبيب كما يدلك عليه أبياته السابقة في الأنواع المتقدمة، ثم تخلص إلى المدح مرة أخرى، فالتخلص في محله، وكثير من الشعراء من يفعل ذلك، فلا يلتفت إلى كلام ابن حجة فإنه ليس بحجة.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
حسن التخلص من ذنبي العظيم غدا ... بمدح أكرم خلق الله كلهم
الشيخ عز الدين جاء بالاقتضاب وسماه حسن التخلص، فإنه قال قبل هذا البيت من غير فاصلة:
وارع النظير من القوم الآلى سلفوا ... من الشباب ومن طفل ومن هرم
فليس بين بيت التخلص بزعمه وبين هذا البيت علاقة أصلا، ولا أدنى ملائمة، ولا مناسبة، بل هو استئناف كلام آخر، فهو اقتضاب قطعا.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ومن غدا قسمه التشبيب في غزل ... حسن التخلص بالمختار من قسمي
أقول: قد تقرر أن حسن التخلص من المواضع التي ينبغي للشاعر التأنق فيها لفظا ومعنى، ولا ينبغي له أن يرتكب فيه ضرورة، لأنه مناف للتأنق المشروط فيه، وابن حجة قد ارتكب في مخلصه هذا الضرورة بحذف فاء الجواب المختص بالضرورة على الصحيح، لأنه كان ينبغي أن يقول: فحسن التخلص، لكنه حذف الفاء لإقامة الوزن ضرورة، كقول الآخر: (من يفعل الحسنات الله يشكرها) . قال ابن هشام في المغني: وعن المبرد: أنه منع ذلك حتى في الشعر وزعم أن الرواية (من يفعل الخير فالرحمن يشكره) .
ومخلص بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
راعي النظير طوى نشر العلى عملا ... رام التخلص بالمختار في الأمم
هذا المخلص أيضاً لا يظهر وجه المناسبة بينه وبين ما قبله، لأن قبله قوله:
خوافي الحب أورتها قوادمه ... من استعارة نار الهجر مع سدم
ومعنى هذا البيت بمعزل عن معنى بيت التخلص، فكأن انتقاله إلى المدح اقتضابا لا تخلصا، وإن سماه به ادعاء.
ومخلص بديعيتي قولي:
وقد هديت إلى حسن التخلص من ... غي النسيب بمدحي سيد الأمم
(1/249)
________________________________________
هذا البيت مستوف لشروط حسن التخلص لفظا ومعنى مع التصريح بذكر حسن التخلص في أثناء الشطر الأول، فلا عبرة بقول ابن حجة: جل القصد أن يكون التصريح به في الشطر الثاني، إذ لا يظهر لهذا الشرط فائدة. نعم التصريح به في أول البيت كما فعل الموصلي لا يتأتى معه الانتقال من الكلام الأول إلى المدح في بيت واحد.
ومخلص بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
تزداد حسنا وتزهو كلما وضعت ... في جيد أوصاف خير الخلق كلهم
هذا البيت أيضاً غير صالح للتجريد، لتعلقه بما قبله، وهو بيت القسم وبيت الاستعارة وهما:
لا أسفرت لي وجوه المشكلات ولا ... حللت عقدة معنى غير منفهم
إن لم أصغ ناظما عقدا فرائده ... وسائط كلها من جوهر الكلم
تزداد حسنا وتزهو كلما وضعت ... في جيد أوصاف خير الخلق كلهم
وكل من هذه الأبيات غير صالح للتجريد
الإطراد
محمد أحمد الهادي البشير ابن ... عبد الله فخر نزار باطرادهم
الإطراد في اللغة، مصدر أطرد الشيء: إذا تبع بعضه بعضا وجرى والأنهار تطرد أي تجري، وفي الاصطلاح، هو أن يجيء الشاعر باسم الممدوح ولقبه وكنيته وصفته وأبيه وجده وقبيلته غالبا، أو ما أمكن من ذلك مطردا متواليا في بيت واحد، من غير تعسف ولا تكلف، ولا انقطاع بألفاظ أجنبية لأنه مشتق من إطراد الماء.
كقول أبي تمام:
عبد المليك بن صالح بن علي بن قسيم النبي في نسبه
وأحسن ما قيل من ذلك، قول بعض المتأخرين في الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي:
مؤيد الدين أبو جعفر ... محمد بن العلقمي الوزير
هكذا حده الشيخ صفي الدين الحلي، ومثل له في شرح بديعيته، وهو أعم من حد الجمهور له، بأنه عبارة عن الإتيان باسم الممدوح أو غيره وأسماء آبائه على ترتيب الولادة من غير تكلف في السبك، حتى تكون الأسماء في تحدرها كالماء الجاري في إطراده، وسهولة انسجامه.
كقول الشاعر:
أن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
لكن قد تقدم أن الشيخ صفي الدين الحلي لخص بديعيته من سبعين كتابا في هذا الفن، اجتنى من ثمرات أوراقها ما شاء، فقوله عمدة في هذا الباب.
قال الشيخ بهاء الدين السبكي في عروس الأفراح: ومنهم من سمى الإطراد ذكر الأسماء مطلقا.
وكذلك صنع ابن رشيق في العمدة، فإنه جعل الإطراد في قول المتنبي:
وحمدان حمدون وحمدون حارث ... وحارث لقمان ولقمان راشد
انتهى. وأخذ الصاحب بن عباد رحمه الله تعالى على المتنبي في هذا البيت فقال: لم نزل مستحسنين لجمع الأسامي في الشعر.
كقول دريد بن الصمة:
قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب
واحتذى هذا الفاضل على طرقهم فقال:
وأنت أبو الهيجا بن حمدان يا ابنه ... تشابه مولود كريم ووالد
وحمدان حمدون وحمدون حارث ... وحارث لقمان ولقمان راشد
وهذا من الحكمة التي ادخرها أرسطاليس وأفلاطون لهذا الخلف الصالح. انتهى.
وأجاب عنه ابن فورجة فقال: أما سبك البيت، فأحسن سبك، يريد أنت تشبه أباك، وأبوك كان يشبه أباه، وأبوه كان يشبه أباه، إلى آخر الآباء. فليت شعري ما الذي استقبحه؟ فإن استقبح قوله: وحمدان حمدون وحمدون حارث، فليس في حمدان ما يستقبح من حيث اللفظ والمعنى، بل كيف يصنع والرجل اسمه هذا، والذنب في ذلك للآباء لا للمتنبي.
وهذا على نحو ما قال أبو تمام:
عبد المليك بن صالح بن علي بن قسيم النبي في نسبه
والبحتري حيث يقول:
علي بن عيسى بن موسى بن طلحة ... بن سائب بن مالك حين ينطق
انتهى. وهذا من ابن فورجة دفع بالضد، وتجاف عن الحق، فإن الصاحب إنما استقبح من هذا البيت غلق تركيبه، وثقله على السمع، ونبو الطبع عن سماعه، كما يشهد به الذوق. وقوله: إن سبكه أحسن سبك ليس بصحيح، والطبع السليم أعدل حكم في ذلك. وأغرب من ذلك تشبيهه ببيتي أبي تمام والبحتري، وأين هو منهما؟ ولكن حبك الشيء يعمي ويصم كما أن عين السخط تبدي المساويا.
(1/250)
________________________________________
ومن وشاهد هذا النوع قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. قال في النهاية: لأنه اجتمع له شرف النبوة والعلم، والكمال والجمال، والعفة وكرم الأخلاق، والعدل ورياسة الدنيا والدين، فهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، رابع أربعة في النبوة.
ويروى: أن سبرة بن عياش الجشمي أنشد عبد الملك بن مروان قصيدة دريد بن الصمة التي منها قوله:
قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذواب بن أسماء بن زيد بن قارب
فلما وصل إلى هذا البيت قال: لولا القافية لبلغ به آدم.
ومن شواهده الشعرية أيضاً قول الأعشى:
أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت الذي ترجو بقاءك وائل
وقول ابن دريد وجمع ثمانية أسماء في بيت واحد، ولم يقع في شواهد هذا النوع نظيره انسجاما وجمعا:
فنعم أخو الجلى ومستنبط الندى ... وملجأ محزون ومفزع لاهث
عياذ بن عمرو بن الحسين بن غانم بن زيد بن منظور بن زيد بن حارث
وقوله أيضاً في هذه القصيدة:
خليلي من شمس بن عمرو بن غانم ... ونصر بن زهران بن كعب بن حارث
وكان أبو تمام كثيرا ما يستعمل هذا النوع في شعره، فمنه قوله:
لمحمد بن الهيثم بن شبانة ... مجد إلى حيث السماك مقيم
وقوله:
عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد سهمكم لا يسهم
وقوله أيضاً، وهو أحسن مما تقدم له:
نوح صفا من عهد نوح له ... شرب العلى في الحسب الفارع
مطرد الآباء في نسبة ... كالصبح في إشراقة الساطع
مناسب تحسب من ضوئها ... منازلا للقمر الطالع
كالدلو والحوت وأشراطه ... والبطن والنجم إلى التالع
نوح بن عمر بن حوي بن عم ... رو بن حوي بن الفتى مانع
فأتى بستة من منازل القمر، وقابلها بستة من الأسماء، لولا أن نغص بذكر الفتى في سادس جد، وإن لم يرد فتى السن، وإنما أراد من الفتوة لكنه موهم. والتالع هو الدبران، كأنه تلع جيده أي مده.
ومنه قول بعضهم:
من يكن رام حاجة بعدت عن ... هـ وأعيت عليه كل العياء
فلها أحمد المرجى بن يحيى بن معاذ بن مسلم بن رجاء
وقول أبي سعيد الرستمي في تهنئة الصاحب بن عباد:
تهني ابن عباد بن عباس بن عب ... د الله نعمى بالكرامة تردف
وقول عبد الصمد بن بابك من أبيات: ت
لاموا على ظمأي إليك فلا دروا ... في ماء خدك ما حلاوة موردي
طورا أحيا بالأقاح وتارة ... في الخد بالريحان والورد الندي
وجه كما سفر الصباح وحوله ... حسنا بقايا جنح ليل أسود
وكأنما خاف العيون فألبست ... وجناته زردا مخافة معتد
أنى يخاف من استجار محبه ... بمحمد بن علي بن محمد
وقول سراج الدين عمر الوراق:
فله الجمال غدا بغير منازع ... ولي الجوى فيه بغير قسيم
وكذا العلى لمحمد بن محمد بن علي بن محمد بن سليم
وقول الأديب أبي الحكم مالك بن المرحل في أبي عبد الله بن يربوع:
صحبت عمري ناسا من ذوي حسب ... حازوا الثناء بموروث ومطبوع
فلم أجد فاضلا فيما صحبت سوى ... محمد بن أبي العيش بن يربوع
وقول أبي الحسن اللحام في أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن حامد:
محمد بن علي ... سبط الحسين بن حامد
وافى فسر ولي ... به وأكمد حاسد
وقول بعض شعراء المغرب في إدريس بن حمود خليفة الأندلس:
وكأن الشمس لما أشرقت ... فانثنت عنها عيون الناظرين
وجه إدريس بن يحيى بن علي بن حمود أمير المؤمنين
وقلت أنا وقد وصلت من هذا التأليف إلى هذا المحل سابع محرم الحرام:
ما عاد عاشوراء إلا همت ... عيني بدمع هاطل ساكب
وجدا علي بط الرسول الحسين بن علي بن أبي طالب
ومن شواهد بالألقاب قول البطائحي في المستظهر بالله العباسي:
أصبحت بالمستظهر بن المقتدي ... بالله ابن القائم بن القادر
مستعصيا أرجو نوال أكفه ... وبأن يكون على العشيرة ناصري
فيقر مع كبري قراري عنده ... ويفوز من مدحي بشعر سائر
وهذه الأمثلة كلها جارية عل المشهور في الإطراد من ذكر اسم الممدوح وأسماء آبائه فقط.
(1/251)
________________________________________
وأما الأمثلة الجارية على ما قرره الشيخ صفي الدين الحلي فيه من ذكر اسم الممدوح، ولقبه وكنيته، واسم أبيه وجده، أو ما أمكن من ذلك. فمنها ما ذكره أبو منصور الثعالبي في اليتيمة، ترجمة أبي علي الدامغاني حيث قال: لا أذكر أن أحدا ما الصدور يسع دعاءه ولقبه، وكنيته واسمه واسم أبيه وبلده بيت واحد من الشعر سواه.
فإن أبا القاسم الأليماني أنشدني لنفسه من قصيدة فيه، ومنها هذا البيت:
إلى الشيخ الجليل أبي علي ... محمد بن عيسى الدامغاني
وقول الأديب يعقوب بن أحمد النيسابوري في أبي القاسم الموسوي:
يقولون لي هل للمكارم والعلى ... قوام ففيه لو علمت دوامها
فقلت لهم والصدق خلق ألفته ... علي بن موسى الموسوي قوامها
وقوله فيه أيضاً:
يقول صديقي ألا دلني ... على برمك الجود أو حاتم
فقلت وأقسمت رب العلى ... علي بن موسى أبو القاسم
وقول أبي محمد الحسين بن أحمد الزيادي في الشيخ أبي علي الجشمي:
إن الدراية والرواية خاتم ... حقا أقول ولست فيه بزاعم
وأبو علي أحمد بن محمد بن عميرة الجشمي فص الخاتم
فأجابه الجشمي بقوله:
قد قلت عن حق فعوا ما قلت إذ ... ليس المقلد في الورى كالعالم
إن الزيادي الحسين أبا محمد بن أحمد شمس هذا العالم
وقول أبي الحسن الباخرزي في أبي القاسم الموسوي أيضاً:
وسقت الركائب حتى أنخن ... بسبط الأنامل سبط النبي
علي بن موسى مواسي العفاة ... أبي القاسم السيّد الموسوي
وقول بعضهم يهجو الشيخ زكي الدين بن أبي الإصبع:
عبد العظيم الزكي بن أبي افصبع رب القريض والخطب
يزعم أني بالهجو أذكره ... تعصبا منه ساعة الغضب
لكنني والطلاق يلزمني ... ما ملت فيه يوما إلى الكذب
نكت ابنه وأخته وخالته ... ونكتب قدما أخاه وهو صبي
وليس فيما أتيت مبتدعا ... قد كان هذا في سالف الحقب
ناك أبي أمه وجدته ... وعمته لله در أبي
ونحن في بيته على دعة ... والنيك ما بيننا إلى الركب
وهذه الأبيات - على ما فيها - في غاية السهولة والانسجام.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي جار على ما قرره هو في الإطراد، وهو:
محمد المصطفى الهادي النبي أجل المرسلين بن عبد الله ذي الكرم
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
قد أورث المجد عبد الله شيبة عن ... عمرو بن عبد مناف عن قصيهم
ابن جابر جرى في نظم هذا البيت على ما ذهب إليه بعضهم في الإطراد من أنه ذكر الأسماء مطلقا، وإليه جنح ابن رشيق في العمدة كما تقدم نقله عن عروس الأفراح. ولا مشاحة في الإصلاح، غير أن الخروج عن القول المشهور خلاف الأولى.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
محمد بن عبد الله شيبة جده بن عمرو كرام في اطرادهم
هذا البيت ظاهر التكلف، شديد التعسف، يأباه شرط الإطراد الذي هو عدم التكلف في السبك، لأنه إنما سمي اطرادا، لكون الأسماء في تحدرها كالماء الجاري في اطراده وانصبابه. والذي أقول: إن هذا البيت لو كان الماء لكان عكرا لا يسيغه شارب، كما لا يسيغه الآن سامع.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
محمد بن الذبيحين الأمين أبو البتول خير نبي في اطرادهم
وبيت بديعية الطبري قوله:
محمد نجل عبد الله نجل أبي ال ... عباس آبا كرام في اطرادهم
قوله: آبا، يريد به آباء جمع أب، فحذف الهمزة، وقصر المد لضرورة الوزن؛ فثقل لفظها؛ واستبشع التلفظ بها حتى لو وقعت في بحر صاف لكدرته؛ ولو ألقيت على جبل شامخ لضعضعته، على أن البيت برمته في غاية التكلف والتعسف.
وبيت بديعيتي هو قولي:
محمد أحمد الهادي البشير بن ... عبد الله فخر نزار باطرادهم
هذا البيت فيه أسماء الممدوح صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولقبان من ألقابه الشريفة وذكر أبيه، وذكر قبيلته، مع عدم ارتكاب ضرورة، ولا تكلف في النظم.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
محمد المصطفى بن المصطفين إما ... من الأنبياء رسول الله في الأمم
تذنيب - عد بعضهم من الإطراد مثل قول أبي تمام:
بكريها علويها صعبيها ال ... حصني شيبانيها الصنديدا
(1/252)
________________________________________
ذهليها مريها مطريها ... يمنى يديها خالد بن يزيدا
وهو غير معروف.
العكس عز الذليل ذليل العز مبغضه=فاعجب لعكس أعاديه وذلهم العكس في اللغة: ردك آخر الشيء إلى أوله، وفي الاصطلاح على نوعين لفظي ومعنوي. فاللفظي هو أن تقدم في الكلام جزأ ثم تعكس وتقدم ما أخرت، وتؤخر ما قدمت، ويسمى التبديل أيضاً، وهو على وجوه كما سيظهر لك من الأمثلة التي سنوردها نثرا ونظما.
فمنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: جار الدار أحق بدار الجار. رواه النسائي، وأبو يعلى في مسنده، وابن حيان في صحيحه عن أنس وأحمد في مسنده، وأبو داود والترمذي عن سمرة. قاله العلامة السيوطي في الجامع الصغير.
وابن حجة لبعد معرفته عن مثل ذلك جاء به بصيغة التمريض فقال: قيل: إنه ورد في الحديث، وذكر الحديث المذكور، وهو جهل منه.
وقول أبي الفتح البستي: عادات السادات سادات العادات. وقولهم: كلام الملوك ملوك الكلام. وقولهم: شيم الأحرار أحرار الشيم. وقولهم: كتب الأحباب أحباب الكتب.
وأنشد الشيخ شهاب الدين أبو الثناء محمود لنفسه في هذا النوع ما كتبه جوابا لصاحب اليمن عن هدية وردت منه قرين كتاب:
أتاني كتابك والمكرمات ... تسير لديه مسير السحب
لئن جاء في موكب من نداك ... فكتب الملوك ملوك الكتب
ومنه قول القاضي الأرجاني:
أنا أشعر الفقهاء غير مدافع ... في العصر لا بل أفقه الشعراء
شعري إذا ما قلت دونه الورى ... بالطبع لا بتكلف الإلقاء
أخذه الآخر فقال:
هو في الفقه شاعر لا يبارى ... وهو في الشعر أفقه الشعراء
لا إلى هؤلاء إن طلبوه ... وجدوه ولا إلى هؤلاء
غير أن ذلك مدح وهذا ذم.
ومنه قوله تعالى: (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) .
وقول الحماسي:
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا
وقول أبي هلال العسكري يصف الربيع:
لبس الماء والهواء صفاء ... واكتسى الروض بهجة وبهاء
فتخال السماء بالليل أرضا ... وترى الأرض في النهار سماء
وقول مجير الدين محمد بن تميم:
وليلة بتها من ثغر حبي ... ومن كأسي إلى فلق الصباح
أقبل أقحوانا في شقيق ... وأشربها شقيقا في أقاح
وقول بعضهم في رئيس ركب البحر:
ولما امتطى البحر ابتهلت تضرعا ... إلى الله يا مجري الرياح بلطفه
جعلت الندى من كفه مثل موجه ... فسلمه واجعل موجه مثل كفه
وقول عبد الرحمن بن الحسن القوشنجي
فو الله ما فارقت عهدة عقده ... ووالله ما أحللت عقدة عهده
وأني على هجرانه عبد وده ... فمن لي بمولى يرتضي ود عبده
وقول السيّد عز الدين المرتضى من قصيدة:
وعين شأني شأن لا أبوح به ... وشأن عيني عين ذات تهتان
ومنها:
لقد خبرت بني الدنيا فليس يرى ... إنسان عيني فيهم عين إنسان
ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اشكر لمن أنعم عليك، وانعم على من شكرك. وقوله عليه السلام أن الإنسان ليسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه.
وقول الحسن البصري: إن من خوفك حتى تلقى الأمن خير ممن آمنك حتى تلقى الخوف. وقول بعض الحكماء: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون. وقيل لحكيم: لم لا تمنع من يسألك؟ فقال: لئلا أسأل من يمنعني.
ولما قصد أبو تمام عبد الله بن طاهر بن الحسين بخراسان، وامتدحه بقصيدته التي أولها (أهن عوادي يوسف وصواحبه) أنكر عليه أبو سعيد الضرير، وأبو العميثل هذا الابتداء وقالا له: لم لا تقول ما يفهم؟ فقال لهما: لم لا تفهمان ما أقول فاستحسن منه هذا الجواب.
وقيل للحسن بن سهل: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.
وقال أبو العيناء لأبي الصقر بن بلبل وهو وزير: أنت والله تقرب منا إذا احتجنا إليك، وتبعد عنا إذا احتجت إلينا.
وقيل لأبي دواد الأيادي - ونظر إلى ابنته تسوس فرسه - لقد أهنتها يا أبا دواد، فقال: أهنتها بكرامتي، كما أكرمتها بهواني.
وقال الجرجاني لأبي علي الحاتمي: إنما تحرم لأنك تشتم، فقال: إنما أشتم لأني أحرم.
(1/253)
________________________________________
وقيل لمريض كيف أنت؟ فقال: أجد ما لا اشتهي، وأشتهي ما لا أجد، وأنا في زمان سوء، من وجد لم يجد، ومن جاد لم يجد.
وقال الأضبط:
ويجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
ويقطع الثوب غير لابسه ... يلبس الثوب غير من قطعه
ويروى لهارون الرشيد:
لساني كتوم لأسرارهم ... ودمعي بسري نموم مذيع
فلولا دموعي كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم يكن لي دموع
وأولع الشعراء بهذا المعنى فقال بعضهم:
لعمري لعمري بكم عامر ... ولا أشتهي العمر لولاكم
فلولاكم ما عرفنا الهوى ... ولولا الهوى ما عرفناكم
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
مسألة الدور جرت ... بيني وبين من أحب
لولا مشيبي ما جفا ... لولا جفاه لم أشب
وللشيخ نجيب الدين الشامي:
علة شيبي قبل إبانه ... هجر حبيبي في المقال الصحيح
ويدعي العلة في هجره ... شيبي ففي القولين دور صريح
وقال آخر:
مسائل دور شيب رأسي وهجرها ... وكل غدا عما به في الهوى ينبي
فأقسم لولا الهجر ما شاب مفرقي ... وتقسم لولا الشيب ما كرهت قربي
وما أحسن قول شمس الدين محمد بن التلمساني في هذا النوع:
يا بأبي معاطف وأعين ... يصول منها رامح ونابل
فهذه ذوابل نواضر ... وهذه نواظر ذوابل
غير أن النواضر الأولى بالظاد المعجمة لأنها من النضرة وهي النعمة، والنواظر الثانية بالظاء المشالة لأنها من النظر وهو البصر، ومثل ذلك مغتفر في مثل هذا المقام.
وقول المطوعي:
ألست ترى أطباق ورد وحولها ... من النرجس الغض الطري ورود
فتلك خدود ما عليهن أعين ... وتلك عيون ما لهن خدود
ومن بديع هذا النوع ما أنشده أبو منصور الثعالبي في اليتيمة لصاحب ابن عباد في وصف الزجاج والشراب:
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وكثير من ينسب هذين البيتين لأبي نواس، ولم أجدهما في ديوانه.
ولأبي الطيب المتنبي في هذا النوع:
فلا مجد في الدنيا لمن قل مال ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
فما ترزق الأيام من أنت حارم ... ولا تحرم الأقدار من أنت رازق
إذا حقدت لم يبق في قلبها رضى ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
وقال ابن نباتة السعدي:
ألا فاخش ما يرجى وجدك هابط ... ولا تخش ما يخشى وجدك رافع
فلا نافع إلا مع النحس ضائر ... ولا ضائر إلا مع السد نافع
وقال آخر وأجاد. وغلط ابن حجة في نسبته إلى المتنبي:
إن الليالي للأنام مناهل ... تطوى وتنشر دونها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار
وقال آخر:
النفس ملأى من المعالي ... والكيس صفر الجناب خالي
فليس مالي كمثل فضلي وليس فضلي كمثل مالي
ومن الطريف النادر في هذا الباب قول أبي الحسن الباخرزي من قصيدة بديعة في السيّد ذي المجدين أبي القاسم علي بن موسى الموسوي:
معاد معاديه مهما طوى ... على بغضه القلب قعر الطوي
وأمثل أحوال أعدائه ... وكلهم نهب داء دوي
عصي مكللة بالرؤوس ... وروس مكللة بالعصي
قال في الدمية: أنشدت هذه القصيدة الممدوح بها بحضرة أبي منصور محمد بن عبد الجبار السمعاني والمجلس غاص بالعام والخاص، فلما انتهيت فيها إلى قولي هذا صفق القاضي أبو منصور بيديه وقال: عين الله عليه، وأثنى علي في ذلك المجلس الغصان، بمثل ما أثنى به حسان على آل غسان.
ومن مستجاده قول القاضي أبي الفتح نصر بن سيار الهروي يصف نار السذق، وهو بفتح السين المهملة والذال المعجمة وبعدهما قاف، ليلة الوقود، فارسي معرب:
رب ليل كشعر ليلى ... سوادا
شق ***ابها عن الأرض نار
وترى الأرض كالسماء فكل ... قد تجلى خلالها أنوار
وشرار كأنهن نجوم ... ونجوم كأنهن شرار
وما ألطف قوله أيضاً في هذا المعنى، وإن لم يكن مما نحن فيه:
وليلة سامحتني ... بها نوائب دهري
بتنا نحث زجاجا ... ما بين خمر وجمر
فتلك ذائب جمر ... وذاك جامد خمر
(1/254)
________________________________________
ويعجبني من هذا الباب قول شرف السادة أبي الحسن البلخي:
أفدي بروحي من قلبي كوجنته ... في الوصف لا الحكم فالأحكام تفترق
أعجب لحرقة قلب ما له لهب ... ومن تلهب خد ليس يحترق
ومما انعقد الإجماع على حسنه من الأسماع، قول تميم بن مفرج الطائي، من خمرية له أولها:
قم واسقني قبل الصباح المسفر ... يوم الخميس على طلوع المشتري
وإذا لقيت الجمعة الزهراء فل ... يكن الغبوق على جبين أزهر
واستقبل اليوم السعيد بمقبل ... طلق وأدبر عن عذول مدبر
إن قيل أن الراح حرم شربها ... عن أهل دين محمد فتنصر
(عن) هنا بمعنى (على) وهما يتعاقبان، قال الله تعالى: (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) .
قوله المشار إليه في هذا النوع هو:
قل للغزالة وهي غير غزالة ... والجؤذر النعسان غير الجؤذر
لمذكر الخطوات غير مؤنث ... ومؤنث الخلوات غير مذكر
قال في دمية القصر: هذا بيت شعر يساوي بيت تبر، وفيه قلب يقبله كل قلب. ثم الموازنة بين الخطوات والخلوات في نهاية الحلاوة.
ومقول القول قوله بعده:
قومي إلى الشيء الذي بتنا به ... بالأمس بذاك الجوهر
وتسربلي قبل القيام وأسبلي ... ذاك العذار الجون ثم تزنري
فتنبهت هيفاء غير بطيئة ... عما التمست ولا سحوب المئزر
يعني أنها تشمرت للخدمة، فقلصت أذيالها، لا كالكسلان الذي يزود الأرض فضلة ردائه، إما لكسله، وإما لخيلائه.
وبعده:
تفتر عن برد وتنظم مثله ... عقدا وتنظر عن جفون فتر
وتيممت دنين في مطمورة ... كانا معا فيما أظن لقيصر
فتحتهما فكأنما فتحتهما ... عن لون ياقوت ونكهة عنبر
ومن المستطرف هنا إلى الغاية، قول شيخ الشيوخ بحماة، وهو لسان الحال، حال تأليف هذا الكتاب:
أفنيت عمري في دهر مكاسبه ... تطيع أهواءنا فيه وتعصينا
تسعا وعشرين مد الهم شقتها ... حتى توهمتها عشرا وتسعينا
وللشيخ صلاح الدين الصفدي:
قد فاق غصن النقا حبيبي ... وأخجل البدر في التمام
فذا قوام بلا محيا ... وذا محيا بلا قوام
وأنشد الشيخ سعد الدين التفتازاني لنفسه في شرح التلخيص عند الكلام على هذا النوع:
طويت بإحراز الفنون تجشما ... رداء شبابي والجنون فنون
فحين تعاطيت الفنون وخطها ... تبين لي أن الفنون جنون
وقال الشيخ صفي الدين الحلي:
لا تحقرن المال فالعين للإنسان كالإنسان للعين
وقال أيضاً:
عين النضار كناظر العين الذي ... يتأمل القاصي به والداني
ولرب إنسان بلا عين غدا ... وكأنه عين بلا إنسان
وقال أيضاً ناظما قول الحكيم المقدم ذكره:
إذا الجد لم يك لي مسعدا ... فما حركاتي إلا سكون
إذا لم يكن ما يريد الفتى ... على رغمه فليرد ما يكون
وقال آخر:
معشوقتي جارية ساقية ... ونزهتي ساقية جاريه
جارية أعينها جنة ... وجنة أعينها جاريه
وهذان البيتان حسنان لو سلما من الإيطاء في القافية.
وقلت أنا من قصيدة:
أجلواها والدهر طلق المحيا ... والقماري تنادم الأقمارا
في عذارى كأنهن رياض ... ورياض كأنهن عذارى
والشعر في هذا النوع كثير جدا، والاقتصار على هذه الجملة منه فيها مقنع.
وأما العكس المعنوي فهو من مستخرجات ابن أبي الإصبع، وحده بأن قال: هو أن يأتي الشاعر إلى معنى لغيره، أو لنفسه فيعكسه.
فمثال عكس الشاعر معنى غيره، قول علي بن الجهم يصف السحاب:
فمرت تفوت الطرف حتى كأنها ... جنود عبيد الله ولت بنودها
فات عكس فيه قول أبي العتاهية يصف الرايات:
ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب
وقول الآخر:
وربما فات بعض الناس أمرهم ... مع التأني وكان الحزم لو عجلوا
عكس فيه قول الأخطل:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وعكس الصابي قول البحتري في الوداع:
أقول له عند توديعه ... وكل بعبرته ملبس
لئن قعدت عنك أجسادنا ... لقد سافرت معك الأنفس
فقال الصابي ونبه على ذلك:
(1/255)
________________________________________
ولما حضرت لتوديعه ... وطرف النوى نحونا أشوس
عكست له بيت شعر مضى ... يليق به الحال إذ يعكس
لئن سافرت عنك أجسادنا ... لقد قعدت معك الأنفس
وقال بعضهم:
إذا ما رأيت فتى ماجدا ... فظن بعقل أبيه السخف
فقد يلد النجب غير النجيب ... وهل يلد الدر إلا الصدف
وعكسه الآخر فقال:
إذا ما رأيت فتى ماجدا ... فكن بابنه سيئ الاعتقاد
فلست ترى من نجيب نجيبا ... وهل تلد النار غير الرماد
ومن هذا الباب ما حكاه علي بن عبد الله الجعفري، من بني جعفر الطيار عليه السلام - وكان ممن حمله المتوكل من المدينة إلى سر من رأى، وحبسه مع الطالبيين - قال: - مكثت في الحبس مدة، فدخل علي يوما رجل من الكتاب فقال: أريد هذا الجعفري الذي تديث في شعره، فقلت له: إلي فأنا هو، فعدل إلي وقال لي: جعلت فداك أحب أن تنشدني بيتيك اللذين تديثت فيهما.
فأنشدته:
ولما بدا لي أنها لا تودني ... وأن هواها ليس عني بمنجلي
تمنيت أن تهوى سواي لعلها ... تذوق حرارات الهوى فترق لي
قال: فكتبهما، ثم قال: اسمع - جعلت فداك - بيتين قلتهما في الغيرة، فقلت: ما هما؟ فأنشدني:
ربما سرني صدودك عني ... فلا طلابيك وامتناعك مني
حذار أن أكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التمني
انتهى. فهذان البيتان عكس فيهما هذا الكاتب قول الجعفري.
ومنه أيضاً ما حكاه محمد بن يحيى التغليب قال مررت بجعفر بن عفان الطائي يوما وهو على باب منزله فسلمت عليه فقال: مرحبا يا أخا تغلب اجلس، فجلست فقال لي: أما تعجب من ابن أبي حفصة حيث يقول:
أنى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
فقلت بلى والله، أني لأتعجب منه، وأكثر اللعنة له. فهل قلت في هذا شيئا؟ قال نعم قلت:
لم لا يكون وإن ذاك لكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
للبنت نصف كامل من ماله ... والعم متروك بغير سهام
ما للطليق وللتراث وإنما ... صلى الطليق مخافة الصمصام
وعلى ذلك قال صالح بن عطية الأضجم لما قال مروان بن أبي حفصة: عاهدت الله أن أغتاله فأقتله أي وقت أمكنني ذلك، وما زلت ألاطفه وأبره، وأكتب أشعاري، حتى خصصت به فأنس بي جدا، وعرف ذلك بنو حفصة جميعا فأنسوا بي، ولم أزل أطلب له غرة حتى مرض من حمى أصابته، فلم أزل أظهر الجزع عليه والإشفاق حتى خلا لي البيت يوما، فوثبت عليه فأخذت بحلقه، فما فارقته حتى مات، وخرجت وتركته؛ فخرج إليه أهله بعد ساعة فوجدوه ميتا، وارتفعت الصيحة؛ فحضرت وتباكيت، وأظهرت الجزع عليه، حتى دفن وما فطن بما فعلت أحد، ولا اتهمني. انتهى. ذكر ذلك في الأغاني.
وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح اللامية، حكى ابن رشيق في الأنموذج: أن عبد الرحمن بن محمد الفراسي جلس مع بعض شيوخ تونس، وكان الشيخ نهاية في المجون، فاجتاز بهم رجل، فسأل عن دار ابن عبدون؛ فأقبل الشيخ عليه فقال: هي في تلك الرابعة حيث يقوم أيرك، فقال الفراسي: والله لأنظمنه فما رأيت مثل هذا المعنى.
وأنشأ من وقته يقول:
إن شئت أن تعرف عن صحة ... دار الذي يعزى لعبدونه
فامش فإن أيرك أبصرته ... قام فإن الباب من دونه
قال: وقد عكست أنا هذا المعنى فقلت:
أقول لمن يسائل عن محلي ... تقدم وامش من خلف السواري
ومر فحيث ما تلقى حكاكا ... بسرمك لا تعد فثم داري
انتهى. ومثال عكس الشاعر معنى نفسه قول بعضهم:
وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا
وقول الآخر وأجاد:
ها قد غدا من ثياب الشعر في كفن ... وقد تعفت معاني وجهه الحسن
وكان يعرض عني حين أبصره ... فصرت أعرض عنه حين يبصرني
وأحسن منه قول نجم الدين يعقوب بن صابر المنجنيقي:
وجارية من بنات الحبوش ذات جفون صحاح مراض
تعشقتها للتصابي فشبت ... غرما ولم أك بالشيب راضي
وكنت أعيرها بالسواد ... فصارت تعيرني بالبياض
وأرباب البديعيات إنما بنو أبياتهم على النوع الأول من العكس.
فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:
(1/256)
________________________________________
أبدى العجائب فالأعمى بنفثته ... غدا بصيرا وفي الحرب البصير عمي
هذا البيت مع خفة هذا النوع لا يخلو من نوع ثقل وعقادة في التركيب.
وبيت ابن جابر أرشق منه حيث يقول:
فاتبع رجال السرى في البيد واسر له ... سرى الرجال ذوي الألباب والهمم
فالعكس في رجال السرى، وسرى الرجال يحكم الذوق السليم بخفته ورشاقته، وتعنت ابن حجة عليه - على جاري عادته - فقال: إن هذا البيت لم يخلص من العكس هنا، إذ ليس فيه نكتة تلم له مع البديع شملا. انتهى.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
خير المقال مقال الخير فاصغ ودع ... عكس الصواب مع التبديل تستقم
اعترض ابن حجة على هذا البيت بكونه أجنبيا من مدح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. قال: وليس له أدنى تعلق ببيت المديح الذي قبله، والذي بعده، ثم قال: وغالب مديحه النبوي في هذه القصيدة على هذا النمط وأطال الكلام في ذلك بما يوقف عليه في شرحه.
قلت: وكأن الشيخ عز الدين إنما خاطب ابن حجة بهذا البيت.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
عين الكمال كمال العين رؤيته ... يا عكس طرف من الكفار عنه عمي
صدر هذا البيت كامل، وأما عجزه فتعجز الجبال الرواسي عن تحمل ثقله.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
رب الجمال جمال الرب بعثته ... يا عكس منكرها والنار في ضرم
حبس عنان القلم عن الكلام، أولى من إطلاقه في هذا المقام.
وبيت بديعيتي هو قولي:
عز الذليل ذليل العز مبغضه ... فاعجب لعكس أعاديه وذلهم
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
أفدي ظباه فكم عظمن ذا صغر ... في الله قدرا وكم صغرن ذا عظم
الترديد
هو القسيم له أو في القسيم على ... نفي القسيم ولا ترديد في القسم
الترديد - عبارة عن أن يعلق المتكلم لفظة من كلامه بمعنى، ثم يرددها بعينها معلقة بمعنى آخر كقوله تعالى: (حتى نؤتى مثل (ما) أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته) فالجلالة الأولى مضاف إليها متعلقة بمعنى، والثانية مبتدأ بها متعلقة بمعنى آخر. ومثله قوله تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر) فليلة القدر الأولى مبتدأ عند الجمهور خبره (ما) الاستفهامية، قدم للزومه الصدر، وبالعكس عند سيبويه، وهي متعلقة بمعنى التعظيم، وليلة القدر الثانية مبتدأ خبرها ما بعدها، وهي متعلقة بمعنى الإخبار عنها بكونها خيرا من ألف شهر.
ومثلوا له من الشعر بقول الحسن بن هاني وهو أبو نواس:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
فقوله: مسها، مسته: ترديد.
والأحسن، التمثيل له بقول محمد بن هاني المغربي:
وقد أهبط الغيث غض الجميم ... غض الأسرة غض الندى
يعني أن المطر لكثرة وقوعه هدل الروض وأنزله، والجميم بالجيم: النبت الكثير، أو الناهض المنتشر، والأسرة هنا مستعارة من قولهم: لمعت أسرة وجهه؛ وهي الخطوط التي تجتمع في الجبهة وتتكسر.
ومثله قوله أيضاً:
ويأبى لك الذم طيب النجار ... وطيب الخلال وطيب الشيم
وقوله من أخرى:
أقول وقد شق أعلى السحاب ... وأعلى الهضاب وأعلى الربى
إذا الودق في مثل هذا الرباب ... وذا البرق في مثل هذا السنا
وقول بدّر الدين بن مخزوم:
عزيز قوم عزيز الجار والشرف ... عبد العزيز غدا يلقاه خير وفي
وقول بعضهم في سوداء:
ومسكية النشر مسكية ال ... عذارين مسكية المنظر
تثنى وقامتها للقضيب ... وتنظر واللحظ للجؤذر
وأحسبها في خلال الحديث ... تنثر عقدا من الجوهر
فكل من هذه الألفاظ المرددة في هذه الأبيات تتعلق في كل موضع بمعنى غير الآخر، والفرق بين هذا النوع وبين التكرار: أن اللفظة التي تتكرر ولا تفيد معنى زائدا غير معنى الأولى هي التكرار، واللفظة التي تردد فتفيد بمتعلقها معنى آخر غير معنى الأولى هي الترديد.
قال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته: وإن اتفق للشاعر توجيه اللفظة المرددة واشتراكها بمعنى آخر كان أبلغ. انتهى.
قلت: ولا يخفى أنه حينئذ يكون من باب الجناس التام.
ومثاله قول الشيخ الإمام عز الدين بن أبي الحديد في إحدى علوياته:
(1/257)
________________________________________
إمام هدى بالقرص آثر فاقتضى ... له القرص رد القرص أبيض أزهرا
فلفظة القرص في أول البيت مراد بها قرص الشعير الذي آثر به المسكين، والأسير، واليتيم. وفي آخره: قرص الشمس في ردها له.
ومنه قول بعضهم في وصف كتاب:
كتاب كوشي الروض حظت سطوره ... يد ابن هلال عن فم ابن هلال
أراد بابن هلال الأول: أبا الحسن علي بن هلال، المعروف بابن البواب الكاتب المشهور، قال ابن خلكان: لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كتب مثله، ولا قاربه. وبابن هلال الثاني: أبا إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع. وعلى ذلك بنى فحول أرباب البديعيات أبياتهم.
فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي (ره) قوله:
له السلام من الله السلام وفي ... دار السلام تراه شافع الأمم
السلام الأول: من التسليم، والثاني: من أسمائه تعالى، والثالث: بمعنى السلامة، سميت الجنة بذلك، لأن الصائر إليها يسلم من كل آفة وغير ذلك.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
له الجميل من الرب الجميل ... على الوجه الجميل بترديد من النعم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
أبدى البديع له الوصف البديع وفي ... نظم البديع حلا ترديده بفمي
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
هو الجواد رسول للجواد بمض ... مار الجواد له الترديد بالنعم
الجواد الأول بمعنى السخي، والثاني: من أسمائه تعالى، والثالث: الفرس الرائع، ولكن انظر، ما معنى قوله: بمضمار الجواد؟ فإني لا أرى له هنا معنى.
وبيت بديعيتي هو قولي:
هو القسيم له أو في القسيم على ... نفي القسيم ولا ترديد في القسم
القسيم الأول بمعنى الجميل - من القسامة وهو الحسن - والثاني بمعنى القسم بالكسرة وهو النصيب - نص عليه في القاموس -، والثالث بمعنى المقاسم. والمعنى: أن له أوفى النصيب من كل فضل وشرف، مع نفي المقاسم له في ذلك. وقولي: ولا ترديد في القسم: تذييل، والمعنى: أن القسم مقضية قضاء فصل لا ترديد فيها.
وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:
جلت فتوحا وجلت معشرا كفرا ... طردا وجلت دياجي الأعصر الدهم
هذا البيت غير صالح للتجريد لتعلق معناه ببيت العكس قبله، والضمير في جلت عائد إلى الظبا في البيت المذكور. والترديد في لفظة جلت، فالأولى بمعنى عظمت، والثانية بمعنى أخرجت من الجلاء وهو الخروج من البلد - والثالثة بمعنى كشفت، يقال: جلى الشيء أي كشفه، ومنه جلى الصبح الظلام.
المناسبة
زاكي النجار علو المجد ناسبه ... زاهي الفخار كريم الجد ذو شمم
المناسبة على ضربين: معنوية ولظفية، والمعنوية هي التناسب في المعاني ويندرج فيها مراعاة النظير، والتوشيح - وقد تقدما - وتناسب الأطراف، وائتلاف المعنى مع المعنى - وسيأتيان إن شاء الله تعالى _. وتوهم ابن حجة أن المناسبة المعنوية أمر غير ذلك، وعرفها بتعريف تناسب الأطراف الذي سماه بعضهم بتشابه الأطراف المعنوي، ومثل لها بأمثلته، وبأمثلة مراعاة النظير، وخلط بين النوعين. ونظمته أنا في بديعيتي وستراه إن شاء الله تعالى. وأما مراعاة النظير، والتوشيح، وائتلاف المعنى مع المعنى فقد نظموه كما مر، ويأتي.
وأما المناسبة اللفظية، وهي المقصودة هنا بالذكر، فهي عبارة عن الإتيان بكلمات متزنات، أما مقفاة وتسمى التامة، أو غير مقفاة وتسمى الناقصة.
فالأولى كقوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون. وإن لك لأجرا غير ممنون) .
ومن أمثلته في الشعر قول مروان بن أبي حفصة:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وقول السلامي:
ظلت تزف له الدنيا محاسنها ... وتستعد له الألطاف والتحفا
من عارض وكفا أو بارق خطفا ... أو طائر هتفا أو سائر وقفا
وقول أبي سعيد الرستمي:
يرد سناك البدر والبدر زاهر ... ويقفو نداك البحر والبحر زاخر
والثانية كقوله تعالى: (وظل ممدود. وماء مسكوب) .
وقول محمد بن هاني المغربي:
تأتي له خلف الخطوب عزائم ... تذكي لها خلف الصباح مشاعل
(1/258)
________________________________________
فكأنهن على العيون غياهب ... وكأنهن على النفوس حبائل
فقوله (على العيون) موازن (على النفوس) و (غياهب) موازن (حبائل) وهي مناسبة ناقصة لعدم التقفية.
ويجمع النوعين قول أبي تمام:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
فبين (مها) و (قنا) مناسبة تامة، وبين (الوحش) و (الخط) و (أوانس) وذوابل) مناسبة غير تامة.
ومثله قول البحتري:
فأحجم لما لم يجد فيك مطعما ... وأقدم لما لم يجد عنك مهربا
فبين (أحجم) و (أقدم) مناسبة تامة، وبي (مطعما) و (مهربا) مناسبة ناقصة.
وقل ابن المغلس من قصيدة في أبي نصر سابور:
أن يواجه فطود حلم ركين ... أو يفاوض فبحر علم غزير
أو يجد واهبا فغيث مطير ... أو يصل واثبا فليث هصور
ومثل ذلك في الشعر أكثر من أن يحصى.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
مؤيد العزم والإبطال في قلق ... مؤمل الصفح والهيجاء في ضرم
المناسبة اللفظية في هذا البيت ناقصة، وقد بينها ف شرحه بقوله (مؤيد العزم) مناسب (مؤمل الصفح) في الزنة، وقوله (والإبطال) موازن (والهيجاء) وقوله (في قلق) موازن (في ضرم) .
وتشدق ابن حجة هنا فقال: عجبت منه إذ لم يحتج في بيته إلى المناسبة المعنوية، وأتى باللفظية، كيف رضي لنفسه بقول القائل:
إذا كنت ما تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وزان وما أنا شاعر
وهذا قلة أدب من ابن حجة، والشيخ صفي الدين أجل مقاما في الأدب من أن يتمثل في حقه بمثل هذا البيت. فإنه لو أراد أن ينظم المناسبة المعنوية التي حدها هذا المتفيهق بحد تناسب الأطراف لم يعجزه ذلك. والذي أراه أن الشيخ صفي الدين جنح إلى أن هذه المناسبة داخلة في التوشيح ولذلك لم ينظمها في بديعيته كما سنبين ذلك في تناسب الأطراف إن شاء الله تعالى.
على أنا لو أردنا أن نجعل بيته هذا جامعا للمناسبة المعنوية بالمعنى المذكور، وللمناسبة اللفظية معا لأمكن على أكمل وجه وأبينه وأوضحه من غير تكلف، وذلك أن ابن حجة فسر المناسبة المعنوية (التي قال أن الشيخ صفي الدين لم يحتج إليها) بقوله: هي أن يبتدي المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه في المعنى دون اللفظ. انتهى. وهذا هو معنى تناسب الأطراف. وأدخله الخطيب في مراعاة النظير وقال: إن بعضهم سماه تشابه الأطراف، إذ علمت ذلك فالشيخ صفي الدين ابتدأ كلامه بقوله: (مؤيد العزم) ثم تممه بقوله: (والهيجاء في ضرم) فحصلت المناسبة بين ذكر تأييد العزم، وبين ذكر الهيجاء حال كونها مضطرمة على أتم وجه ولا غبار عليه فذهب كلام ابن حجة جفاء.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
ألم ترى الجود يجر في يديه ألم ... تسمع مناسبة في قوله نعم
هذا البيت عار من المناسبة اللفظية بالكلية كما لا يخفى، وأما المعنوية بالمعنى المذكور فقال ابن حجة: أنها ليست فيه أيضاً، وليس كذلك، بل هي ظاهرة فيه، فإن ابتداء كلامه بقوله (ألم تر الجود يجري في يديه) يناسب إتمامه بلفظة (نعم) وهي وإن كانت لمطلق التصديق والوعد، إلا أن الشعراء إذا ذكروها في المدح لا يريدون بها إلا الوعد في العطاء.
كما قال:
ما قال لاقط في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم
وقال الآخر:
أدام قول نعم حتى إذا اطردت ... نعماه من غير وعد لم يقل نعما
فالمناسبة المعنوية المذكورة ظاهرة لا تخفى إلا على غبي مثل ابن حجة.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
فعلمه وافر والزهد ناسبه ... وحلمه ظاهر عن كل مجترم
قال في شرحه: هذا البيت جمعت فيه بين المناسبة المعنوية واللفظية التامة المشتملة على الوزن والتقفية، فقولي (علمه) يناسبه (حلمه) وزنا وقافية، و (وافر) مثل (ظاهر) وزنا قافية، والمناسبة المعنوية ابتدأت بها في أول الشطر الثاني من البيت بذكر (الحلم) ، ثم تممت كلامي بقولي (عن كل مجترم) ، فجعلت المناسبة المعنوية بين الحلم وذكر الاجترام. انتهى.
(1/259)
________________________________________
وأنا أقول: أما المناسبة اللفظية التامة فيه فظاهرة، وأما المناسبة المعنوية فليست بتامة، لأنه كان ينبغي أن يبتدي بذكر الحلم في أول البيت، لأنه هو أول الكلام المبتدأ به، لا أول الشطر الثاني، فقوله: ابتدأت بها في أول الشطر الثاني مغالطة منه.
وبيت بديعية الطبري قوله:
أكرم به شرفا مناسبا ترفا ... أعظم به شغفا عفوا لمجترم
أما أنا فقد سئمت من الكلام على ضد البديع في هذه البديعية، ومن ذاق من الأدب شيئا لا يخفى عليه مثل ذلك.
وبيت بديعيتي هو قولي:
زاكي النجار علو المجد ناسبه ... زاهي الفخار كريم الجد ذو شمم
أنا لم أقصد في هذا البيت سوى المناسبة اللفظية التامة وهي بين (زاكي) و (زاهي) وبين (النجار) و (الفخار) وبين (علو المجد) و (كريم الجد) وأما المناسبة المعنوية بالمعنى المذكور، فقد أسكنتها في بيت على حده ويتمها تناسب الأطراف كما ستراه، على أن إمكان القول بها في هذا البيت ظاهر، فإن ابتداء الكلام بقولي (زاكي النجار) يناسبه إتمامه بقولي (ذو شمم) لأن النجار هو الأصل، والشمم ارتفاع قصبة الأنف وحسنها واستواء أعلاه، أو هو دليل على كرم الأصل وعراقة النسب، ولذلك يمدح به.
قال حسان:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
وقال كعب بن زهير:
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
وضده الغطس وهو دليل اللؤم وخسة الأصل، ولذلك قال من عكس بيت حسان:
سود الوجوه لئيمة أحسابهم ... فطس الأنوف من الطراز الآخر
فظهر أن زكاء الأصل يناسبه قولي: ذو شمم فصح في البيت المناسبة المعنوية أيضاً وإن لم تكن مقصودة.
وبيت الشيخ شرف الدين المقري قوله:
ففي السماحة غيث جاد من ديم ... وفي الحماسة ليث جال في أجم
هذا البيت يشتمل على المناسبة اللفظية التامة والناقصة، فبين قوله (غيث) و (ليث) و (ديم) و (أجم) مناسبة تامة، وبين (السماحة) و (الحماسة) وقوله (جاد) و (جال) مناسبة ناقصة.
الجمع
أفضاله ومعاليه ورفعته ... جمع من الفضل فيه غير منقسم
الجمع هو أن يجمع المتكلم بين نوعين فصاعدا في نوع واحد، بأن يعمد إلى شيئين مختلفين مثلا فيثبت لهما جهة جامعة يتحدان بها، كقوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) جمع المال والبنون وهما نوعان متباينان في نوع واحد وهو الزينة، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، أي بأسرها. وحذافير الشيء: نواحيه، جمع حذفار، ومعناه: أن من رزق الأمن من كل بلاء يتقيه، والعافية من كل داء يؤذيه؛ وأعطي بلغة يومه الذي هو فيه، فقد أحاط بما يهمه في الدنيا أطرافه ونواحيه. فجمع هذه الأمور الثلاثة في أنها أصل المقاصد الدنيوية.
ومن أمثلته في الشعر قول أبي العتاهية:
علمت يا مجاشع بن مسعده ... أن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده فجمع أمورا ثلاثة مختلفة تحت نوع واحد وهي المفسدة.
ومثله قولي:
إن المكارم والفضائل والندى ... طبع جبلت عليه غير تطبع
والمجد والشرف المؤمل والعلى ... وقف عليك وليس بالمستودع
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
آراؤه وعطاياه ونقمته ... وعفوه رحمة للناس كلهم
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
قد أحرز السبق والإحسان في نسق ... والعلم والحلم قبل الدرك للحلم
وبيت بديعية الموصلي قوله:
للفصل والفضل والألطاف منه يرى ... والحلم والعلم جمع غير منخرم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
آدابه وعطاياه ورأفته ... سجية ضمن جمع فيه ملتئم
وبيت بديعية الطبري:
كل من الأنس والأملاك مندرج ... والجن تحت لواه يوم جمعهم
وبيت بديعيتي هو قولي:
أفضاله ومعاليه ورفعته ... جمع من الفضل فيه غير منقسم
وبيت بديعية المقري هو قوله:
قضى وولى وفاضت نفسه وعفا ... عدلا وليس بعافي الحكم والحكم
(1/260)
________________________________________
قال في شرحه: قوله (قضى وولى وفاضت نفسه وعفا) أجاب عن الجميع بقوله (عدلا) هذا نصه. ولا أقبح من قوله: وفاضت نفسه فإن مثل هذه العبارة لا تليق في مرثية صديق فضلا عن المديح النبوي. وأغرب من ذلك تفسيره (عفا) بقوله: يجوز أن يكون بمعنى عفا عن المسيء، وإن يكون بمعنى ذهب. نعوذ بالله من آفة الغفلة والله أعلم.
انتهى الجزء الأول من شرح البديعة.
أنوار الربيع في أنواع البديع الجزء الرابع
الانسجام
أوصافه انسجمت للذاكرين لها ... في هل أتى في سبا في نون والقلم
الانسجام في اللغة: الانصباب, وفي الاصطلاح أن يكون الكلام عذب الألفاظ, سهل التركيب؛ حسن السبك, خالياً من التكلف والعقادة؛ يكاد يسيل من رقته؛ وينحدر انحدار الماء في انسجامه, لا يتكلف فيه بشيء من أنواع البديع إلا ما جاء عفواً من غير قصد. وإذا قوي الانسجام في النثر جاءت فقراته موزونة من غير قصد, كما وقع في كثير من آيات القرآن العظيم, حتى وقع فيه من جميع البحور المشهورة أبيات, وأشطار أبيات.
فمن بحر الطويل, من صحيحه "فمن شاء فليؤممن ومن شاء فليكفر".
ومن مخرومه ويسمى الأثلم "منها خلقناكم وفيها نعيدكم".
ومن بحر المديد "واصنع الفلك بأعيننا" وتفعليه: فاعلاتن فعلن فعلن.
وغلط ابن حجة في قوله: إنه من العروض الثانية المحذوفة من المديد. بل هو من العروض الثالثة المحذوفة المخبونة, لأن العروض الثانية المحذوفة لها ثلاثة أضرب, وكل منها وزن العرض فيه فاعلن, والعروض في الآية وزنه فعلن كما رأيت في تفعيله, لا فاعلن؛ وغلط في التمثيل لذلك أيضاً بقول الشاعر:
اعلموا إني لكم حافظ ... شاهداً ما كنت أو غائبا
لأن هذا شاهد الضرب الثاني من العروض الثانية المحذوفة, وقد علمت أن وزن الآية ليس من هذا العروض, وهذا يدلك على أن ابن حجة كان راجلاً في هذا العلم أيضاً. وأعجب من ذلك أنه لم يدرك بسليقته أن وزن البيت زائد على وزن الآية.
ومن بحر البسيط "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً". ومثله "فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم".
ومن بحر الوافر وهو بيت تام: "ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنينا" ومنه "ويعلم ما جرحتم بالنهار".
ومن بحر الكامل من مخرومه "سيعملون غداً من الكذب". ومنه "والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".
ومن بحر الهزج "تا لله لقد آثرك الله علينا". ومثله "ألقوه على وجه أبي يأت بصيراً".
ومن بحر الرجز "دانيةً عليهم ظلالها وذلِلت قطوفها تذليلاً". ومنه "فعميت عليهم الأنباء".
ومن بحر الرمل "قتل الإنسان ما أكفره". ومنه "بدت البغضاء من أفواههم". ومن مجزوه "وجفان كالجواب وقدور راسيات". ونظيره "أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم". ومثله "ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك".
ومن بحر السريع "واصبر وما صبرك إلا بالله". ومثله "ألا إلى الله تصير الأمور". ومثله "ذلك تقدير العزيز العليم" ومنه "أو كالذي مرّ على قريةٍ".
ومن بحر المنسرح "إنا خلقنا الإنسان من نطفة" وتفعليه: مستفعلن مفعولات مستفعلن.
ومن بحر الخفيف "ربنا إننا إليك أنبنا". ومنه "لا يكادون يفقهون حديثا". ومنه "قال يا قوم هؤلاء بناتي".
ومن بحر المضارع من مخرومه "يوم التناد. يوم تولون مدبرينا". وتفعيله: مفعول فاعلات مفاعيل فاعلاتن.
ومن بحر المقتضب "في قلوبهن مرض". وتفعليه: فاعلات مفتعلن.
ومن بحر المجتث "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم".
ومن بحر المتقارب "ولا تبخسوا الناس أشياءهم".
ومنه "وأملي لهم إن كيدي متين".
ومن بحر المتدارك "أم تأمرهم أحلامهم" وتفعليه: فعلن فعلن فعلن فعلن. وهذا البحر لم يذكره الجليل, واستدركه الأخفش والمحدثون فسمي متداركاً, ومحدثا, ومخترعا؛ ويسميه أهل الأندلس مشي البريد.
ومن بحر الدوبيت وهو المسمى عند العجم الرباعي, والترانة, وهو بحر مخترع مستحدث لطيف "إن كان الله يريد أن يغويكم" ومثله "ما كان عليهم من سلطان". وقد أكثر المتأخرون من العرب والعجم من النظم على هذا البحر لعذوبته, وسلاسته. وزعم بعضهم أنه مأخوذ من الكامل بطريقة متكلفة, وبعضهم أوصل أوزانه إلى عشرة آلاف.
(1/261)
________________________________________
ومن بحر المواليا وهو مشهور عند المتأخرين, واصله من البسيط "والطير محشورة كل له أواب". ومنه "لو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا".
وسبب تسميته بالمواليا, ما يحكى من أن الرشيد لما قتل جعفر البرمكي أمر أن لا يرثى بشعر, فرثته جارية له بهذا الوزن, حيث لم يكن من الشعر المعروف, وهي تندب وتقول: يا مواليا, فسمي بذلك.
ويقال: أن أول بيت قالته في هذا الوزن هذا البيت:
يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس ... أين الذي قد حموك بالقنا والترس.
قالت تراهم رمم تحت الأراضي درس ... سكوت بعد فصاحة السنتهم خرس
ويستعذب في هذا الوزن اللحن, وكونه ملحوناً أحسن من كونه معرباً.
وإذا تأملت اشتمال القرآن العظيم على جميع أوزان هذه البحور المذكورة, بل وعلى غيرها مما لم نذكره علمت أن ذلك كله مندرج تحت قوله - علت كلمته وعظمت قدرته - "ما فرطنا في الكتاب من شيء". سبحانه "لا إله إلا هو إليه المصير".
ومن النثر المسجم الذي جاء موزوناً من غير قصد لقوة الانسجام, قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
أنا النبي لا كذب ... أنا عبد المطلب
قيل: وقوله أيضاً صلى لله عليه وآله وسلم,_
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
والصواب ما ذكره الجلال السيوطي, قال: قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر, حدثني محمد بن عبد الله, عن الزهري؛ عن عروة, قال: خرج سلمة بن هشام, وعياش بن ربيعة, والوليد بن الوليد مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فطلبهم ناس من قريش ليردوهم فلم يقدروا عليهم.
فلما كانوا بظهر الحرة قطعت إصبع الوليد بن الوليد فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت.
فدخل المدينة فمات بها. انتهى.
وعلى هذا فيحتمل أن الوليد قصد بذلك الشعر, فلا يكون مما نحن فيه.
ومنه قول إبراهيم بن العباس الصولي الشاعر المشهور فيما كتبه عن الخليفة إلى بعض البغاة الخارجين يتهددهم ويتوعدهم: أما بعدد فإن لأمير المؤمنين أناة, فإن لم تغن عقب بعدها وعيداً, فإن لم يغن أغنت عزائمه والسلام. فإن هذا النثر مع وجازته وإبداعه في غاية الانسجام.
وينشأ منه بيت يشعر وهو:
أناة فان لم تغن عقب بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه
وأما الانسجام في النظم فأمر يضيق عن الإحاطة به نطاق الحصر والإحصاء, ويقصر دون منال جله - فضلاً عن كله - باع الضبط والاستقصاء, غير أنا نورد منه هنا نبذاً مستطرفة, وقطعاً من رياض محاسن الشعر مقتطفة, ونبتدئ فيه من شعراء الجاهلية إلى شعراء أهل العصر.
فمنه قول امرئ القيس في معلقته:
تسلمت عمايات الرجال علن الصبا ... وليس فؤادي عن هواك بمنسل
ومنها:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وقوله من أخرى:
وظلت في دمن الديار كأنني ... نشوان باكره صبوح مدام
هذا البيت لو مزج بأرق شعر لمهيار الديلمي أو من هو في طبقته لامتزج امتزاج الراح بالماء القراح.
ومثله قوله أيضاً:
حلت لي الخمر وكنت امرءاً ... عن شربها في شغل شاغل
وقوله:
وكل مكارم الأخلاق صارت ... إليه همتي وبه اكتسابي
فقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقوله:
ولو أنني أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنني أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
هذا ما وقع عليه الاختيار من ديوانه في هذا النوع من غير استقصاء له.
ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
فما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النحل
وقوله أيضاً:
قوم سنان أبوهم حيث تسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأخلاقهم أو مجدهم قعدوا
وقوله أيضاً:
لعمرك والخطوب مغيرات ... وفي طول المعاشرة التقالي
لقد باليت مظعن أم أو في ... ولكن أوفى لا تبالي
وقوله:
قد جعل المبتغون الخير من هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا
(1/262)
________________________________________
من يلق يوماً على علاته هرما ... يليق السماحة منه الندى خلقا
وفي معلقته أبيات تدخل في هذا الباب تقدم ذكرها في نوع المثل.
ومنه قول عبيد بن الأبرص الأسدي:
لا يبلغ الباني ولو ... رفع الدعائم ما بيننا
كم من رئيس قد قتل ... ناه وضيم قد أبينا
إنا لعمرك ما يضا ... م حليفنا أبداً لدينا
وأوانس مثل الدمى ... حور العيون قد استبيان
وقوله في مطلع قصيدة: طاف الخيال علينا ليلة الوادي=من أم عمرو ولم يلمم بميعاد ومنها:
اذهب إليك فإني من بني أسد ... أهل القباب وأهل الجود والنادى
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وقوله من مجمهرته التي كان يخطب بها في الجاهلية:
وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
ساعد بأرض تكون فيها ... ولا تقل إنني غريب
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
ومنه قول عنترة بن شداد العبسي من معلقته:
وإذا شربت فإنني مستهلك ... ما لي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
وقوله أيضاً من أخرى:
أمن سمية دمع العين مذروف ... لو أن ذا منك قبل اليوم معروف
كأنها يوم صدت ما تكلمني ... ظبي بعسفان ساجي الطرف مطروف
العبد عبدكم والمال مالكم ... فهل عذابك عني اليوم مصروف
وهذه الأبيات مع بديع انسجامها, فيها من أنواع البديع لزوم مالا يلزم, وقد جاء فيها عفواً من غير قصد.
وقوله وقد لامته أمه على لقاء الحروب:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها أن المنية منهل ... لابد أن أسقى بذاك المنهل
فاقني حياءك لا أبالك وأعلمي ... أني امرؤ سأموت أن لم أقتل
عن ابن عائشة قال: انشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قول عنترة من هذه القصيدة:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى نال به كريم المأكل
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما وصف ليل أعربي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.
قلت: وهذا البيت يروى في معلقته أيضاً, وينشد بدل (المأكل) , (المطعم) .
ومنه قول الحارث بن حلزة في أول معلقته:
آذنتنا بينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
آذنتنا ببينها ثم ولت ... ليت شعري متى يكون اللقاء
ومنها:
وثمانون من تميم بأيدي ... هم رماح صدورهن القضاء
وقوله وهي من جيد الشعر:
من حاكم بيني وبين الدهر ... مال علي عمداً
أودى بسادتنا وقد ... تركوا لنا حلقاً وجردا
خيلي وفارسها ورب أبي ... ك كان أعز فقدا
فلو أن ما يأوي إلي ... أصاب من ثهلان هذا
فضعي قناعك إن ري ... ب الدهر قد أفنى معدا
ومنها البيت المشهور وهو:
والنوك خير ظلال العيش ... ممن عاش كدا
ومنه قول النابغة الذبياني في النعمان بن الحارث وهو غلام:
هذا غلام حسن وجهه ... مقتبل الخير سريع التمام
للحارث الأكبر والحارث إلا ... ... صغر والحارث خير الأنام
ثم لهند ولهند فقد ... أسرع في الخيرات منه أمام
هي أمامة أم عمرو الأصغر بن المنذر بن امرئ القيس بن النعمان الشقيقة.
خمسة أباء هم ما هم ... أكرم من يشرب صوب الغمام
وقوله وهو من المرقص والمطرب:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر المريض إلى وجود العود
وقوله من قصيدة طويلة:
لولا حبائل من نعم علقت بها ... لأقصر القلب عنها أي إقصار
نبئت نعما على الهجران عاتبة ... سقيا رعيا لذاك العاتب الزاري
أقول والنجم قد مالت أواخره ... إلى المغيب تبين نظرة حار
ألمحة من سنا برق رأى بصري ... أم وجه نعم بدالي أم سنا نار
بل وجه نعم بدا والليل معتكر ... فلاح ما بين أثواب وأستار
ومنه قول المنخل اليشكري وكان نديماً للنعمان بن المنذر, فاتهمه بامرأته المتجردة, وقيل وجده معها فقتله. وهذا يعد في المرقص المطرب من مشهور شعره:
إن كنت عاذلتي فسيري ... نحو العراق ولا تحوري
(1/263)
________________________________________
لا تسألي عن جل مالي ... وانظري كرمي وخيري
وفوارس كأواحر ال ... نار أحلاس الذكور
شدوا دوابر بيضهم ... في كل محكمة التقير
واستلأموا وتلببوا ... إن التلبب للمغير
وعلى الجياد المضمرات ... فوارس مثل الصقور
يخرجن من خلل الغبار ... يجفن بالنعم الكثير
أقررت عيني من أو ... لئك والفوائح بالعبير
وإذا الرياح تناوحت ... بجوانب البيت الكبير
ألفيتني هش اليدين ... بمري قد حي أو شجيري
ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء ترفل ... في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتها فتنفست ... كتنفس الظبي الغريرٍ
فدنت وقالت يا منخ ... ل هل بجسمك من فتور
ما شف جسمي غير جسمك ... فاهدئي عني وسيري
يا هند هل من نائل ... يا هند للعاني الأسير
وأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري
ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير والكبير
فإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فأنني ... رب الشويهة والبعير
يا رب يوم للمنخل ... قد لها فيه قصير
وقول عبد الله بن العجلان شاعر جاهلي, وهو أحد من قتله العشق:
فارقت هنداً طائعاً ... فندمت عند فراقها
فالعين تذري عبرة ... كالدر من آماقها
خود رداح طفلة ... ما الفحش من أخلاقها
ولقد ألذ حديثها ... وأسر عند عناقها
وقوله أيضاً وهو من المطرب:
خليلي زورا قبل الشحط النوى هنداً ... ولا تأمنا من دار ذي لطف بعدا
ومرا عليها بارك الله فيكما ... وإن لمت تكن هند لوجهكما قصدا
وقولا لها ليس الطريق أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
والبيتان الأخيران يرويان من قصيدة للمرقش الأكبر.
حدث أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني قال: عن إسحاق بن حميد (كاتب أبي الرازي, قال: غنى علوية الأعسر يوماً بين يدي المأمون:
تخيرت من نعمان عود أراكة ... لهند فمن هذا يبلغه هندا
فقال المأمون: اطلبوا لهذا البيت ثانياً, فلم يعرف وسأل كم من بحضرته من أهل الأدب والرواة والجلساء عن قائل هذا الشعر فلم يعرفه أحد. وقلد المأمون أبا الرازي كور دجلة وأنا أكتب له, ثم نقله إلى اليمامة والبحرين. وقال إسحاق بن حميد) : فلما خرجنا ركبت مع أبي الرازي في بعض الليالي في قبة على جمازة, فابتدأ الحادي يحدو بقصيدة طويلة, وإذا البيت الذي كنت أطلب له أخاً ثابت فيها, فسألته عنها, فذكر إنها للمرقش الأكبر. فاخترت منها وكتب بها إلى المأمون فسر بذلك, وأمر المغنين أن يصنعوا فيها ألحاناً ويغنون بها. انتهى.
قلت: واخترت أنا من الأبيات التي اختارها إسحاق هذه الأبيات:
خليلي عوجا بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا
وقولا لها ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
تنقيت من نعمان عود أراكة ... لهند فمن هذا يبلغه هندا
ستبلغ هندا إن سلمنا قلائص ... مهاري يقطعن الفلاة بنا وخدا
فناولتها المسواك والقلب خائف ... وقلت لها يا هند أهلكتنا وجدا
فمدت يداً في حسن دل تناولا ... إليه وقالت ما أرى مثل ذا يهدى
وأما ما وقع من الانسجام في أشعار المخضرمين, وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام, فمنه قول الأعشى يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله يدا
نبي يرى مالاً ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وانجدا
له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم ما نعه غدا
ومنها:
شباب وشيب وافتقار وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا
وما زلت أبغي المال مذ كنت يافعا ... وليدا وكهلا حيث شبت وأمردا
وقوله:
ودع هريرة أن المركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجل الوحل
(1/264)
________________________________________
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
ويقال أن أغنج بيت قالته العرب قوله من هذه القصيدة:
قالت هريرة لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل
ومنه قول لبيد بن ربيعة العامري من قصيدة:
أحمد الله فلا ند له ... عنده الخير وما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
فإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل
ومنها:
أعمل العيس على علاتها ... إنما ينجح إخوان العمل
وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
أي لا تحدث نفسك بعدم الظفر أبداً, بل بشرها بحصول الأمل فإن صدقها بالجبن عن ملاقاة الأهوال يثبطها عن بلوغ الآمال.
وقوله من معلقته:
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها
لا يطبعون ولا يبور فعالهم ... بل لا تميل مع الهوى أحلامها
فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها
وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأوفر حظنا قسامها
فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها
ومنه قول النابغة الجعدي من قصيدة أولها:
خليلي عوجا ساعة وتهجرا ... ولو ما على ما أحدث الدهر أو ذرا
ومنها:
وإن جاء أمر لا تطيقان دفعه ... فلا تجزعا مما قضى الله واصبرا
ألم تريا أن الملامة نفعها ... قليل إذا ما الشيء ولى وأدبرا
ومنها:
أتيت رسول الله إذ قام للهدى ... يتلو كتاباً كالمجرة نيرا
خليلي قد لاقيت ما لم تلاقيا ... وسيرت في الآفاق ما لم تسيرا
تذكرت والذكرى تهيج لدى الهوى ... ومن عادة المحزون أن يتذكرا
وعنه أنه قال: لما أنشدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولي من هذه القصيدة:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فأين المظهر يا أبا ليلى؟ فقلت: الجنة, فقال: قل إن شاء الله.
ولما أنشد قوله منها أيضاً:
لا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أجدت, لا يفضض الله فاك. فبقيت أسنانه إلى آخر عمره كأنها اللؤلؤ المنظوم, ولم تسقط له سن.
وعمر النابغة المذكور عمراً طويلاً في الجاهلية والإسلام, وكان أكبر من النابغة الذبياني, واختلف في عمره, قال الأصبهاني: والحق ما نقله ابن قتيبة: إنه عاش مائتين وعشرين سنة, وحضر صفين مع علي عليه السلام.
ولما خرج علي عليه السلام إلى صفين خرج معه النابغة, فساق به قوماً فقال:
قد علم المصران والعراق ... أن عليا فحلها العتاق
أبيض جحجاح له رواق ... وأمه غالى بها الصداق
أكرم من شد بها نطاق ... أن الألى جاروك لا أفاقوا
لهم سياق ولكم سياق ... قد علمت ذالكم الرفاق
سقتم إلى نهج الهدى وساقوا ... إلى التي ليس لها عراق
في ملة عادتها النفاق
العتاق بضم العين المهملة - كغراب - العتيق وهو الفحل النجيب.
ومنه قول حسان بن ثابت الأنصاري من قصيدة قالها يوم الفتح:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برج الخفاء
بأن سيوفنا تركتك عبدا ... وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
وقوله من أخرى وهي مشهور شعره:
لله در عصابة نادمته ... يوماً بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
(1/265)
________________________________________
ولقد طالعت طيوان حسان فلم أر له أسجم من قصيدته التي يفتخر فيها بقومه, ويعدد أفعالهم, وقد عن لي إثباتها هنا برمتها, لأنها جميعها داخلة في نوع من الانسجام.
وديوان حسان قليل الوجود, وهذه القصيدة لم أرها في غير ديوانه وهي:
أنسيم ريقك أخت آل العنبر ... هذا أم استنشأته من مجمر
أبديد ثغرك ما أرى أم لمحة ... من بارق أن معدن من جوهر
أودعتني ببريق ثغرك حرقة ... ألهبت جمرتها بطرف أحور
ونشرت فرعك فوق متن واضح ... وطويت كشحك فوق خصر مضمر
قولي لطرفك أن يكف عن الحشا ... سطوت نيران الهوى ثم اهجري
وانهي جمالك أن ينال مقاتلي ... فينال قومك سطوة من معشري
إني من القوم الذين جيادهم ... طلعت كسرى بريح صرصر
وسلبن تاج الملك قسرا بالقنا ... وأخذن قهرا درب آل الأصفر
آباي من كهلان أرباب العلى ... وبنو الملوك عمومتي من حمير
قدنا من اليمن الجياد فما انثنت ... حتى حوت بالصين مهجة بعبر
ورمت سمرقندا بكل مثقف ... لهج باحشاء الفوارس أسمر
ووطئن أرض الشام ثم وفارسا ... بالحرث اليمني وابن المنذر
صبحت بلاد الهند بالبيض التي ... صبحت بها كسرى صبيحة دستر
ونصرن في الأحزاب حزب محمد ... وكسون مومة ثوب موت أحمر
وطلعن من رجوي حنين شزبا ... يحملن كل سليل طبيب العنصر
يلقى الرماح الشاجرات بنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر
ويقول للطرف أصطبر لشبا القنا ... فهدمت ركن المجد إن لم تعقر
وإذا تأمل شخص ضيف طارق ... متسربل أثواب محل مقتر
أو ما إلى الكوماء هذا طارق ... نحرتني الأعداء إن لم تنحري
من قد ولدنا من نجيب قسور ... دامي الأظافر أو ربيع ممطر
سلكت أنامله بقائم مرهف ... وبنثر فائدة وذروة منبر
كم فوق وجه الأرض من ذي ثروة ... لولا فواضل رفدنا لم يذكر
لولا صوارم يعرب ورماحها ... لم تسمع الآذان صوت مكبر
نحن الذين نذل أعناق القنا ... ونعز بالمعروف قل المعسر
قحطان قومي ما ذكرت فخارهم ... إلا علوت على سنام المفخر
السابقون إلى المكارم والعلى ... والحائزون غدا حياض الكوثر
فإذا أردت بأن ترى مسعاتنا ... فصل النواظر بالسماك الأزهر
لو أمت الجوزاء أن تعلوا على ... أدنى ذؤابة مجدنا لم تقدر
ثم الصلاة على النبي وآله ... ما لاح برق في غمام ممطر
هذه القصيدة من الرقة والانسجام والجزالة بمحل يشهد به الذوق السليم ولو قلت أنها أرق من كثير من شعر أبي تمام والبحتري لما أبعدت.
ومثلها قوله أيضاً من أخرى:
إن الذوائب من نهر أخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الآله وبالأمر الذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حالوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يجهلون وأن حاولت جهلهم ... في فضل أحلامهم عن ذاك متسع
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطبعون ولا يرديهم الطمع
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
ومنه قول الحطيئة بضم الحاء المهملة على زنة جهينة, يمدح آل الشماس
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو مدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم أن بنوا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها ... وإن أنعموا لأكدروها لا كدروا
وإن قال مولاهم على كل حادث ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا
مطاعين في الهيجا مكاشيف الدجى ... بنى لهم آباؤهم وبنى الجد
وقوله يمدح بغيض بن شماس السعدي:
تزور امرءاً يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المكارم يحمد
يرى البخل ولا يبقي على المرء ماله ... ويعلم أن البخل غير مخلد
(1/266)
________________________________________
كسوب ومتلاف إذا ما سألته ... تهلل واهتز اهتزاز المهند
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
ومنه قول كعب بن زهير في بردته وأولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول
ومنها:
ولا تمسك بالعهد الذي زعمت ... إلا كما تمسك الماء الغرابيل
فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
ومن مديحها:
وقال كل خليل كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم ... فكلما قدر الرحمن مفعول
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
فقد أتيت رسول الله معتذرا ... والعذر عند رسول الله مقبول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب وإن كثرت في الأقاويل
والغاية فيها قوله: إن الرسول لنور يستضاء به=مهند من سيوف الله مسلول وقوله أيضاً:
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل
وقال ابن هشام: ومما يستحسن من شعر كعب قوله:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واحدة والهم منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حين ينتهي الأثر
ونمنه قول أمية بن أبي الصلت وهو ممن أدرك زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسلم يمدح عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنَّ شيمتك الحياء
وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذب والسناء
كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الكريم ولا مساء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرُّضه الثناء
وعلى ذكر هذه الأبيات سئل عطاء، ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: خير الدعاء دعائي ودعاء الأنبياء من قبلي وهو لا إله إلا الله وحده وحده، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير؟ فقال: هذا.
كما قال أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
أفيعلم ابن جدعان ما يراد منه بالثناء عليه ولا يعلم الله ما يراد منه بالثناء عليه؟ وينسب هذا الجواب إلى سفيان بن عيينة كما في الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني والله أعلم.
ومنه قول فروة بن مسيك المرادي شاعر مخضرم من أهل اليمن, وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
فإن نغلب فغلابون قدما ... وإن نهزم فغير مهزمينا
وما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
كذاك الدهر دولته سجال ... تكر صروفه حينا فحينا
فلو خلد الملوك إذن خلدنا ... ولو بقي الكرام إذن بقينا
إذا ما الدهر جر على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
وقد تمثل ببعض هذه الأبيات الحسين بن علي عليهما السلام بكربلاء يوم قتله ومنه قول نهشل الدارمي وهو من المخضرمين أيضاً. كان شاعراً شريفاً في قومه, وكان مع علي عليه السلام في حروبه:
إنا محيوك يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة ... يوما سراة كرام الناس فادعينا
وهي من قصيدة مشهورة مثبتة في أشعار الحماسة لأبي تمام.
ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخراً وهو غاية في الانسجام:
أعيناي جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجري الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا
(1/267)
________________________________________
إذا القوم مدوا بأيديهم ... إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا
يحمله القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا
ترى الحمد يهوي إلى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا
إذا ذكر المجد ألفيته ... تأزر بالمجد ثم أرتدى
وأما ما وقع من الانسجام في أشعار الإسلاميين, فمنه قول الفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام, وهي قصيدة مشهورة لا يسقط منها بيت واحد. وأما انسجامها فغاية لا تدرك, وعقيلة لا تملك, وقد جنبها حوشي الكلام, وجاء فيها ببديع الانسجام. ومن رأى سائر شعر الفرزدق, ورأى هذه القصيدة ملك نفسه العجب, فإنه لا مناسبة بينها وبين سائر قوله, نسيبا ومدحا وهجاء, على أنه نظمها بديهة وارتجالا, ولا شك أن الله سبحانه أيده في مقالها, وسدده حال ارتجالها, ومع شهرة هذه القصيدة فقد آثرنا إيرادها هنا تبركاً بها وبممدوحها عليه السلام, لئلا يخلو هذا الكتاب منها. ولنذكرها برواية الشيخ الأجل السيد الإمام العالم الحافظ الفقيه الزاهد جمال الدين شيخ الإسلام أوحد الأنام فخر الأئمة مسند العصر أبي طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم السلفي الأصبهاني وهي: بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا الشيخ حسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي رحمه الله بقراءتي عليه, في جمادى الأخرى من سنة خمس وتسعين وأربعمائة ببغداد, قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن علي الوراق قراءة عليه, قال: أخبرنا أبوا أحمد عبه السلام بن الحسين بن محمد بن عبد الله طيفور البصري اللغوي, قال: قرأت على أبي عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب المتوثي بالبصرة سنة أربع وخمسين وثلاثمائة على باب داره, وكتبه عن كتاب إملاء أملاه من أصله, ثم قرأته بعد ذلك بعشر سنية عشية الجمعة لست بقين من شعبان سنة أربع وستين وثلاثمائة على أبي الحسين محمد ابن محمد بن جعفر بن لنكك اللغوي على باب داره, ولم يكن له أصل يرجع إليه, وذكر أنه قد سمعه, قالا: حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن دينار, قال: حدثنا عبيد الله بن محمد - يعني بن عائشة - قال: حدثني أبي وغيره, قال: حج هشام بن عبد الملك في زمن عبد الملك أو الوليد, فطاف بالبيت, فجهد إلى الحجر ليستلمه فلم يقدر عليه, فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه أهل الشام, إذ أقبل علي بن الحسين بن علي عليهم السلام من أحسن الناس وجهاً, وأطيبهم ريحاً, فطاف بالبيت, فكلما بلغ إلى الحجر تنحى له الناس حتى يستلمه. فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه, مخافة أن يرغب فيه أهل الشام, وكان الفرزدق حاضراً فقال الفرزدق: لكني أعرفه, قال الشامي: من هو يا أبا فراس؟.
فقال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
روى ابن لنكك (الظاهر) بظاء معجمة, وروى المتوثي بطاء غير المعجمة.
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضي حياء ويغضي من مهابته ... ولا يكلم إلا حين يبتسم
من جده دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمته دانت له الأمم
ينشق نور الهدى عن نور غرته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم
مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
الله شرفه قدما وفضله ... جرى بذاك له في لوحه القلم
فليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
ليس هذا البيت في رواية المتوثي, وعرفه ابن لنكك
كلتا يديه غياث عم نفعهما ... يستو كفان ولا يعروهما العدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والكرم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم
لا يخلف الوعد ميمون نقيبته ... رحب النفاء أريب حين يعتزم
(1/268)
________________________________________
عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنه الغيابة والإملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كلوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم ... سيان ذلك أن أثروا وإن عدموا
وروى ابن لنكك (لا يقبض) .
يستدفع السوء والبلوى بحبهم ... ويسترب به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذك الله ذكرهم ... في كل بدء ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالندى هضم
أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأولية هذا أوله نعم
من يعرف الله يعرف أولوية ذا ... والدين من بيت هذا ناله الأمم
قال: فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة وبلغ ذلك علي بن الحسين عليهما السلام: فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم وقال: اعذرنا يا أبا فراس, فلو كان عندنا أكثر من هذا وصلناك, فردها الفرزدق وقال: يا بن رسول الله, ما قلت الذي قلت إلا غضباً لله عز وجل ولرسوله, وما كنت لا رزأ عليه شيئاً, فقال: شكر الله لك ذلك, غير أنا أهل بيت إذا أنفذنا أمراً لم نعد فيه, فقبلها.
وجعل يهجو هشاما وهو في الحبس, فكان مما هجاه به:
أيحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيد ... وعينا له حولاء باد عيوبها
وقوله أيضاً وهو من المطرب:
حبيب دعا والرمل بيني وبينه ... فاسمعني سقيا لذلك داعيا
فكان جوابي أن بكيت صبابة ... وفديت من لو يستطيع فدائيا
لذكرى حبيب لم أزل مذ هجرته ... أعد له بعد الليالي لياليا
ومثله قوله أيضاً:
والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليل يصيح بحافتيه نهار
ومنه قول جرير وهو معدود من الطرب في هذا الباب:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لا يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
وقوله أيضاً:
لعمرك لولا اليأس ما انقطع الهوى ... ولولا الهوى ما حن من واله قلبي
سقى الرمل جون مستهل ربابه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل
وقوله أيضاً:
يا أخت ناجية السلام عليكم ... قبل الرحيل وقبل لوم العذل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الفراق فعلت ما لم أفعل
وقوله وبعضه من المرقص, وبعضه من المطرب:
سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يورم كل مرام
ذم المنازل بعد منزلة الهوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
وإذا أتيت على المنازل باللوى ... فاضت دموعك غير ذات نظام
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
تجري السواك على أغر كأنه ... برد تحدر من متون غمام
ومنه قول الأخطل وكان نصرانياً من بني تغلب:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذاخراً يكون كصالح الأعمال
وقوله أيضاً:
وإذا دعونك عمهن فإنه ... نسب يزيدك عندهن خبلاً
وإذا وزنت حلومهن مع الصبا ... رجح الصبا بحلومهن فمالا
ومنه قول سحيم عبد بني الحسحاس عندما باعه مولاه وكان عبداً أسوداً نوبيا:
أشوقا ولما تمض لي بعد ليلة ... فكيف إذا سار المطي بكم عشر
وما كنت أخشى مالكاً أن يبيعني ... بشيء ولو كانت أنامله صفرا
أخوكم ومولاكم وصاحب سركم ... ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا
البيت الأول يعد من المرقص المطرب. سحيم هذا أقدم عصراً ممن قبله من الإسلاميين لأنه أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأنشد عمر بن الخطاب قوله:
عميرة ودع أن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال له عمر: لو قلت شعرك كله مثل هذا لأعطيتك عليه ومن مشهور شعره ما تمثل به إبراهيم بن المهدي (حين قال له المأمون بعد الظفر به: إنه الخليفة الأسود يا عم, يهزأ به) وهو:
(1/269)
________________________________________
أشعار عبد بني الحسحاس قمن له ... عند الفخار مقام الأصل والورق
إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما ... أو أسود اللون إني أبيض الخلق
ومن دقيق شعره الذي يعد من المطرب في هذا الباب قوله في أخت مولاه وقد مرضت:
ماذا يريد السقام من قمر ... كل جمال لوجهه تبع
ما يرتجى ... خاب
من محاسنها
أما له في القباح متسع
وأنشد عمر بن الخطاب أيضاً قوله:
توسدني كفا وتثني بمعصم ... علي وتلوي رجلها من ورائيا
فقال له عمر: ويلك إنك مقتول, فكان كذلك. فإنه لما أكثر تعرضه للنساء وتشبيبه بهن قال مولاه لقومه: إن هذا العبد قد فضحنا, فقالوا اقتله ونحن طوعك فمسكوه.
فمرت به امرأة كان بينها وبينه مودة فهجرها فضحكت شماتة فقال:
فإن تضحكي مني فيا رب ليلة ... تركتك فيها كالقباء المفرج
ولما أرادوا قتله نادى ما منكم امرأة إلا وقد أصبتها, فقتلوه.
ومنه قول ذي الرمة غيلان:
إذا هبت الأرواح من كل جانب ... به آل مي هاج قلبي هبوبها
هوى تذرف العينان منه وإنما ... هوى كل نفس حيث حل حبيبها
وقوله أيضاً:
وإلا يكن إلا تعلة ساعة ... قليل فإني نافع لي قليلها
ومنه قول جميل بثينة وهو من المرقص المطرب:
ولما تراجعنا الذي كان بيننا ... جرى الدمع من عيني بثينة كالكحل
كلانا بكى أو كاد يبكي صبابة ... إلى إلفه واستعجلت عبرة قبلي
يقولون مهلاً يا جميل وإنني ... لا قسم مالي عن بثينة من مهل
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها ... ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي
وقوله أيضاً: ألا هل إلى إلمامة أن ألمتها=بثينة يوماً في الحياة سبيل
فإن هي قالت لا سبيل فقل لها ... عناء على العذري منك طويل
وما شرقي بالماء إلا تذكرا ... لماء به أهل ****** نزول
يحرمه لمع الأسنة فوقه ... فليس الظمآن إليه سبيل
فيا أثلاث القاع من بطن توضح ... حنيني إلى أطلالكن طويل
ويا أثلاث القاع قلبي موكل ... بكن وصبري دونكن قليل
ويا أثلاث القاع قد مل صحبتي ... مسيري فهل في ظلكن مقيل
فاشرب من ماء الحجيلاء شربة ... يداوى بها قبل الممات عليل
أريد انصبابا نحوكم فيصدني ... ويمنعني دين علي ثقيل
أحدث نفسي عنك أن لست راجعاً ... إليك فحزني في الفؤاد دخيل
قال صاحب الأغاني: ولجميل قصيدة يائية من الطويل, والناس يخلطون بين أبياتها وبين أبيات يائية المجنون وهي:
ألا طال كتماني بثينة حاجة ... من الحاج ما تدري بثينة ما هي
أخاف إذا أنبأتها أن تضيعها ... فتتركها ثقلاً علي كما هيا
أغرك إني لا بخيل عليكم ... ولا مفحش فيما لديك التقاضيا
أعد الليالي ما نأيت ولم أكن ... لما مر من دهري أعد اللياليا
ذكرتك بالديرين يوماً فأشرقت ... بنات الهوى حتى بلغن التراقيا
إذا اكتحلت عيني بعينك لم يزل ... قريرا وجلت غمرة عن فؤاديا
فأتت التي إن شئت كدرت عيشتي ... وإن شئت بعد الله أنعمت باليا
وأنت التي ما من صديق ولا عدى ... يرى نضو ما أبقيت ألا رثى ليا
وأخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الضيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت ... فما للنوى ترمى بليلى المراميا
وإني لتثنيني الحفيظة كلما ... رأيتك يوماً إن أبثك ما بيا
وما زلت بي يا بثن حتى لو أنني ... من الشوق استبكي الحمام بكى لي
إذا خدرت رجلي وقيل شفاؤها ... دعاء حبيب كنت أنت دعائيا
وما زادني النأي المفرق بيننا ... سلوا ولا طول التلاقي تقاليا
ولا زادني الواشون إلا صبابة ... ولا كثرة الناهين إلا تماديا
ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني ... أظل إذا لم أسق ريقك صاديا
لقد خفت أن ألقى المنية بغتة ... وفي النفس حاجات إليك كما هيا
وممن خلط بين أبيات هذه القصيدة وأبيات قصيدة المجنون, ابن حجة في شرح بديعيته, وجعل أول قصيدة المجنون قول جميل هذه القصيدة:
(1/270)
________________________________________
وخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
ظنا منه أن ليلى هذه صاحبة المجنون, وليس كذلك, بل هي من أخوات بثينة, وتيماء من منازل بني عذرة الذي هم قوم جميل وبثينة لا من منازل بني عامر قوم المجنون وصاحبته ليلى, كما نص عليه الأصبهاني في الأغاني.
ومنه قول كثير عزة وهو معدود من المرقص:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الاباطح
وقيل هذان البيتان من أبيات ليزيد بن الطثرية, وقيل لعقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى وهو الذي ذكره الشريف المرتضى رضي الله عنه في الغرر والدرر.
وقوله:
وادنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الاباطح
تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح
أأقيل أن جريرا ساير رواية كثير قاصدين الشام, فطرب وقال: أنشدني لأخي بني مليح - يعني كثيراً - فلما انتهى إلى هذين البيتين قال: لولا أنه لا يحسن بشيخ مثلي النخير لنخرت حتى يسمعني هشام على سريره.
ومن مشهور شعره كثير وجيده الفائق قصيدته التالية, وهي غاية في باب الانسجام, وهي:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجعات القلب حتى تولت
فلا يحسب الواشون أن صبابتي ... بعزة كانت غمرة فتجلت
فوالله ثم الله ما حل قبلها ... ولا بعدها من خلة حيث حلت
وما مر من يوم علي كيومها ... وأن عظمت أيام أخرى وجلت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها ... كناذرة نذرا فأوفت وبرت
فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
ولم يلق إنسان من الحب منعة ... بغم ولا عمياء إلا تجلت
أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها ... وحلت تلاعا لم تكن قبل حلت
أريد ثواء عندها وأظنها ... إذا ما أطلنا عندها المكث ملت
فوالله ما قاربت إلا تباعدت ... بهجر ولا أكثرت إلا أقلت
يكلفها الغيران شتمي وما بها ... هواني ولكن للمليك استذلت
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت
فان تكن العتبى فأهلا ومرحبا ... وحقت لها العتبى علينا وقلت
وإن تكن الأخرى فان وراءنا ... مهامه لو سارت بها العيس كلت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية أن نقلت
فما أنا بالداعي لغزة بالردى ... ولا شامت أن نعل عزة زلت
وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت عنها برهة وتخلت
لكالمرتجى ظل الغمامة كلما ... تبوء منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها غمامة ممحل ... رجاها فلما جاوزته استهلت
كأني أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصم لو تمشي بها العصم زلت
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن مل منها ذلك النيل ملت
فما أنصفت أما النساء فبغضت ... إلي وأما بالنوال فضنت
فوا عجبا للقلب كيف اغتراره ... وللنفس لما وطنت كيف ذلت
وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا ... فلما تواثقنا شددت وحلت
وكنا سلكنا في صعود من الهوى ... فلما توافينا ثبت وزلت
فإن سأل الواشون كيف سلوتها ... فقل نفس حر سليت فتسلت
وللعين تذراف إذا ما ذكرتها ... وللقلب وسواس إذا العين ملت
فكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... وأخرى رمى فيها الزمان فشلت
ولي عبرت لو يدمن قتلنني ... توالي التي ما بالتي قد تولت
فليت قلوصي عند عزة قيدت ... بحبل ضعيف بان منها فضلت
وأصبح في القوم المقيمين رحلها ... وكان لها باغ سواي فبلت
تمنيتها حتى إذا ما رأيتها ... رأيت المنايا شرعاً قد أظلت
أصاب الردى من كان يبغي لها الردى ... وجن اللواتي قلن عزة جنت
عليها تحيات السلام هدية ... لها كل حين مقبل حيث حلت
ومنه قول مجنون ليلى واسمه قيس بن الملوح
تعلقت ليلى وهي ذات ذوائب ... ولم يبد للأتراب من صدرها حجم
(1/271)
________________________________________
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
وقوله أيضاً:
إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هي اليوم شتى هي أمسى جميع
مضى زمن والناس يستشفعون بي ... فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع
أعائدة يا ليل أيامنا الألى ... بذي الرمث أم ما إن لهن رجوع
وقوله أيضاً:
قضى الله حب العامرية فاصطبر ... عليه وقد تجري الأمور على قدر
ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
وقوله أيضاً:
أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
وقوله أيضاً:
وداع داعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أشجان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري
ومنه قول صاحبته ليلى فيه:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة ... متى رحل قيس مستقل فراجع
بنفسي من لا يستقل بنفسه ... ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع
ومنه قول عبد الله بن الدمينة:
قفي قبل وشك البين يا ابنة مالك ... ولا تحرمينا نظرة من جمالك
قفي يا أميم القلب نقضي لبانة ... قبيل النوى ثم افعلي ما بدا لك
سلي البانة الغناء بالأجرع الذي ... به البان هل حييت أطلال دارك
ومنها:
تعاللت كي أشجي وما بك علة ... تريدين قتلي قد ظفرت بذلك
تقولين للعواد كيف ترونه ... فقالوا قتيلاً قلت أيسرها لك
لئن ساءني أن نلتني بمساءةٍ ... لقد سرني أني خطرت ببالك
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني ... فافرح أم صيرتني في شمالك
حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان العباس بن الأحنف إذا سمع شيئاً يستحسنه أطرفني به, وأفعل مثل ذلك, فجاني يوماً فوقف بين الناس. وأنشد لابن الدمينة:
إلا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجدا على وجد
أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غض النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن ... جزوعاً وأبديت الذي لم تكن تبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وأن النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من أهواه ليس بذي ود
ثم ترنح ساعة, وترجح أخرى, ثم قال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا الشعر؟ فقلت: لا, أرفق بنفسك.
والدمينة بضم الدال المهملة, وفتح الميم وسكون المثناة التحتية وفتح النون, تصغير دمنة وهي أمه, وعهدي ببعض الطلبة المتزيدين لا يعرف كيف ينطق بهذا اللفظ لحيرته في ضبطه والله الموفق.
ومنه قول بشار بن برد وهو من مخضرمين الدولتين الأموية والعباسية:
عبد إني إليك بالأشواق ... لتلاق كيف لي بالتلاق
أنا والله اشتهى سحر عيني ... ك وأخشى مصارع العشاق
وقوله أيضاً وهو من المطرب:
أيها الساقيان صبا شرابي ... وأسقياني من ريق بيضاء رود
إن دائي الظما وإن شفائي ... رشفة من رضاب ثغر برود
ولها مضحك كغر الأقاحي ... وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبة القل ... ب ونالت زيادة المستزيد
ثم قالت نلقاك بعد ليال ... والليالي يبلين كل جديد
عندها الصبر عن لقائي وعندي ... زفرات يأكلن قلب الجليد
وقوله أيضاً:
عذيري من العذال إذ يعذلونني ... سفاها وما في العاذلين لبيب
يقولون لو عزيت قلبك لارعوى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب
ومن المرقص قوله من أرجوزة:
يا طلل الحي بذات الصمد ... بالله خبر كيف كنت بعدي
أوحشت من دعد وترب دعد ... سقيا لأسماء ابنة المرشد
صدت بخد وجلت عن خد ... ثم انثنت كالنفس المرتد
عهدي بها سقيا له من عهد ... تخلف وعدا وتفي بوعد
ومنه قول العباس بن الأحنف وهو من المبرزين في هذا الباب:
وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... جنوناً فزدني من حديثك يا سعد
هواها هوى لا يعرف القلب غيره ... وليس له قبل وليس له بعد
(1/272)
________________________________________
وقوله:
أيها النائمون حولي أعينو ... ني على الليل حسبة وائتجارا
حدثوني عن النهار حديثا ... وصفوه فقد نسيت النهارا
وقوله:
لو كنت عاتبة لسكن روعتي ... أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة ... صد الملول خلاف صد العاتب
ما ضر من قطع الرجاء بهجره ... لو كان عللني بوعد كاذب
وقوله:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالحب غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
وقوله:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوما فقل أنا ظالم
فإنك أن لا تغفر الذنب في الهوى ... يفارقك من تهوى وأنفك راغم
وقوله:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
فاستنهضوني فلما قمت منتصبا ... بثقل ما حملوني منهم قعدوا
لا خرجن من الدنيا حبهم ... بين الجوانح لم يشعر به أحد
وقوله:
يا أيها الرجل المعذب نفسه ... أقصر فإن شفاءك الإقصار
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عينا للدموع تعار
وقوله:
إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة ... فلا خير في ود يكون بشافع
وأقسم ما تركي عتابك عن قلى ... ولكن لعلمي أنه غير نافع
واني إن لم ألزم الصبر طائعا ... فلا بد منه مكرها غير طائع
وقوله:
أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق
وقوله:
تعب يطول مع الرجاء الذي الهوى ... خير له من راحة في اليأس
لولا محبتكم لما عاتبتكم ... ولكنني عندي كبعض الناس
حكى عمر بن شبة قال: مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم سنة ثمان وثمانين ومائة, ومات في ذلك اليوم الكائي النحوي, والعباس بن الأحنف وهشيمة الخمارة, فرفع ذلك إلى الرشيد, فأمر المأمون أن يصلي عليهم, فخرج فصفوا بين يديه فقال: من هذا الأول؟ فقالوا: إبراهيم الموصلي, فقال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف, فقدم فصلى عليه. فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال: يا سيدي كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقديم على من حضر؟ قال: بقوله:
وسعى بها ناس قالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد
نجدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد
ثم قال: أتحفظهما؟ فقلت: نعم وأنشدته, فقال لي المأمون: أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدم؟ فقلت: بلى والله يا سيدي. انتهى.
قلت: هكذا أورد هذه الحكاية غير واحد من المؤرخين, غير أن ابن خلكان وغيره تعقب صحتها بأن الكسائي توفي بالري سنة تسع وثمانين ومائة, وقيل بطوس سنة اثنين أو ثلاث وثمانين ومائة, والعباس توفي سنة اثنين وتسعين لأن الرشيد مات ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين بمدينة طوس. قال ابن خلكان: وقال غيره: ومما يكذب هذه الحكاية أن المأمون ما كان ممن يقدم العباس بن الأحنف على مثل الكسائي وهو شيخه وأستاذه, مع منزلته عند الرشيد والله أعلم.
ومنه قول مسلم بن الوليد من قصيدته التي لقب بها صريع الغواني أولها:
أديرا علي الكاس لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي
فما جزعي أني أموت صبابة ... ولكن على من لا يحل لها قتلي
كتمت تباريح الصبابة عاذلي ... فلم يدر ما بي واسترحت من العذل
أحب التي صدت وقالت لتربها ... دعيه الثريا منه أقرب من وصلي
أماتت وأحيت مهجتي فهي عندها ... معلقة بين المواعيد والمطل
سأنقاد للذات متبع الهوى ... لا مضى هماً أو أصيب فتى مثلي
هل العيش ألا أن تروح مع الصبا ... وتغدو صريح الكأس والأعين النجل
يقال أنه أنشدها بحضرة الرشيد فلما بلغ هذا البيت سماه صريع الغواني.
ومنه قول أبي نواس:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... ودواني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
(1/273)
________________________________________
من كف ذات حر في زي ذكر ذكر ... لها محبان لوطي وزناء
قامت بإبريقها والليل متعكر ... فلاح من وجهها في البيت لألاء
فأرسلت من فم الإبريق صافية ... كأنما أخذها بالعقل إعفاء
رقت عن الماء حتى لا يلائمها ... لطافة وجفا عن شكلها الماء
فلو مزجت بها نورا لمازجها ... حتى تولد أنوار وأضواء
دارت على فتية ذل الزمان لهم ... فما يصيبهم إلا بما شاؤا
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة ... كانت تحل بها هند وأسماء
فقل لم يدعي في الحب فلسفة ... حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
وقوله:
قامت بكأس إلى ناش على طرب ... كلاهما عجب في منظر عجب
قامت تريني وأمر الليل مجتمع ... صبا تولد بين الماء والعنب
كأن صغري وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
ويتعلق بهذا البيت حكاية لطيفة, وبحث نحوي.
أما الحكاية فهي ما ذكره المؤرخون, من أن المأمون ليلة دخوله ببوران بنت الحسن بن سهل فرش له حصير منسوج بالذهب, فلما وقف عليه نثرت على قدميه لآلي كثيرة, فلما رأى تساقط اللآلي المختلفة على الحصير المنسوج بالذهب قال: قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذا الحال حين قال في صفة الخمر والحباب (كأن صغرى وكبرى من فواقعها) .
وأما البحث فهو أنه يجب استعمال (فعلى أفعل) بأل, أو بالإضافة, وقد استعملها أبوا نواس بدونهما فهو لحن. وأجاب بعضهم بأن (من) زائدة, فصغرى وكبرى مضافان, على حد قوله: بين ذراعي وجبهة الأسد. ورد بان (من) لا تقحم في الإيجاب. ولا مع تعريف المجرور.
والجواب الصحيح: أن اسم التفضيل المجرد إذا قصد أصل الفعل لا المفاضلة, فتكون (صغرى) , و (كبرى) في البيت بمعنى صغيرة, وكبيرة, فلا لحن فتأمل.
وقال أبي نواس أيضاً:
كأن ثيابه أطلع ... ن من أزراره قمرا
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
بعين خالط التفتير من ... أجفانها الحورا
وخد سابري لو تصوب ... ماؤه قطرا
ومنه قول الحسين بن الضحاك الملقب بالخليع:
إذا ما الماء أمكنني ... وصفو سلافة العنب
صببت الفضة البيضا ... ء فوق قراضة الذهب
وقوله:
وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني وما أراك أراكا
وإذا ما تنفس النرجس الغض توسمنته بسيم شذاكا
خدع للمنى تعللني فيك ... بإشراق ذا وبهجة ذاكا
لا دومن يا حبيبي على العه ... د لها وذاك إذ حكياكا
وقوله:
بأبي زور تلفت له ... وتنفست عليه صعدا
بينما أضحك مسروا به ... إذ تقطعت عليه كمدا
وقوله:
تمنيت أن أسقى بعينيه شربة ... تذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله عيشا لم أبت فيه ليلة ... من الدهر إلا من حبيب على وعد
وقول أبي العتاهية:
لهفي على الزمن القصير ... بين الخورنق والسدير
إذ نحن في غرف الجنا ... ن نعوم في بحر السرور
في فتية ملكون عنا ... ن الدهر أمثال الصقور
ما منهم إلا الجسور ... على الهوى غير الحصور
يتعاورون مدامة ... صهباء من حلب العصير
عذراء رباها شعاع ال ... شمس في حر الهجير
لم تدن من نار ولم ... يعلق بها وضر القدور
ومقرطق يمشي أمام القوم ... كالرشأ الغرير
بزجاجة تستخرج السر ... الدفين من الضمير
زهراء مثل الكوكب ال ... دري في كف المدير
تدع الكريم ليس يد ... ري ما قبيل من دبير
ومخصرات زرننا ... بعد الهدو من الخدور
ريا رواد فهن يل ... بسن الخواتم في الخصور
غر الوجوه محجبا ... ت قاصرات الطرف حور
متغمسات في النعي ... م مضخمات بالعبير
يرفلن في حلل المحا ... سن والمجاسد والحرير.
ومن الانسجام المرقص قول ديك الجن الحمصي:
أنظر إلى شمس القصور وبدرها ... وإلى خزاماها وبهجة زهرها
لم تبل عينك أبيضا في أسود ... جمع الجمال كوجهها في شعرها
وردية الوجنات يختبر اسمها ... من نعتها من لا يحيط بخبرها
وتمايلت فضحكت من أردافها ... عجبا ولكني بكيت لخصرها
(1/274)
________________________________________
تستقيك كأس مدامة من كفها ... وردية ومدامة من ثغرها
وهذه الأبيات قالها في جارية نصرانية من أهل حمص عشقها ودعاها إلى الإسلام فأسلمت فتزوجها, ثم بلغه أنها تهوى غلاماً فقتلها, وقال فيها:
يا طلعة طلع الحمام عليها ... وجنى لها ثمر الردى بيديها
رويت من دمها الثرى ولطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها
مكنت سيفي من مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خديها
فوحق نعليها وما وطيء الحصى ... شيء أعز علي من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الغبار عليها
لكن ضننت على سواي بحبها ... وأنفت من نظر الغلام إليها
وقوله أيضاً:
بها غير معذور فداو خمارها ... وصل بعشيات الغبوق ابتكارها
ونل من عظيم الوزر كل عظيمة ... إذا ذكرت خاف الخفيظان نارها
وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغر ... ولا تسق إلا خمرها وعقارها
فقام تكاد الكأس تحرق كفه ... من الشمس أو من وجنتيه استعارها
موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
ظللنا بأيدينا نتعتع روحها ... فتأخذ من أقدامنا الراح ثارها
ويحكى أنه لما اجتاز أبو نواس بحمص قاصداً مصر لامتداح الخصيب سمع ديك الجن بوصوله فاستخفى منه خوفاً من أن يظهر لأبي نواس, لكونه قاصراً بالنسبة إليه, فقصده أبو نواس في داره وهو بها, فطرب الباب, واستأذن عليه, فقالت الجارية: ليس هو هنا, فعرف مقصده فقال لها قولي له: أخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك:
موردة في كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
فلما سمع دين الجن ذلك خرج إليه واجتمع به وأضافه.
ومن بديع الانسجام ما أنشده إسحاق الموصلي لبعض الأعراب:
ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... على الغصن ما هيجت حين غنت
تغنت بصوت أعجمي فهيجت ... من الشوق ما كانت ضلوعي أجنت
فلو قطرت عين امرء من صبابة ... دما قطرت عيني دما فألمت
فما سكنت حتى أويت لصوتها ... وقلت ترى هذي الحمامة جنت
ولي زفرات لو يدمن قتلنني ... بشوق إلى نأي التي قد تولت
فيا محيي الموتى أقدني من التي ... بها نهلت نفسي سقاما وعلت
لقد بخلت حتى لوني سألتها ... قذى العين من سافي التراب لضنت
فقلت ارحلا يا صاحبي فليتني ... أرى كل نفس أعطيت ما تمنت
حلفت لها بالله ما أم واحد ... إذا ذكرته آخر الليل حنت
وما وجد أعرابية قذفت بها ... صروف النوى من حيث لم تك ظنت
إذا ذكرت ماء العضاه وطيبه ... وبرد الحمى من بطن خبت أرنت
بأكثر مني لوعة غير أنني ... أجمجم أحشائي على ما أجنت
ومنه قول إسحاق الموصلي:
إذا مضر الحمراء كانت أرومتي ... وقام بنصري خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعدا غير قائم
ومنه قول محمد بن كناسة:
في انقباض وحشمة فإذا ... لاقيت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
قيل: أنشد محمد بن كناسة هذين البيتين إسحاق الموصلي, فقال له الموصلي: وددت أني نقص من عمري سنتان وإني كنت سبقت إلى إلى هذين البيتين فقلتهما.
ومن المرقص في باب الانسجام قول عمر بن أبي ربيعة من قصيدة:
أتاني رسول من ثلاث خرائد ... ورابعة تستكمل الحسن أجمعا
تنوعتن حتى عاود القلب سقمه ... وحتى تذكرت الحديث المودعا
فقلت لمطريهن في الحسن إنما ... ضررت فهل تستطيع نفعا فتنفعا
وهيجت قلبا كان قد ودع الصبا ... وأشياعه فاشفع عسى أن تشفعا
لئن كان ما قد قلت حقا فما أرى ... كمثل الألى أطريت في الناس أربعا
ومنا وهو الغاية التي لا تدرك:
فلما توافقنا وسلمت أشرقت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
قربن أسباب الهوى لمتيم ... يقيس ذراعاً كلما قسن إصبعا
وقوله أيضاً:
ردوا التحية أيها السفر ... وقفوا فإن وقوفكم أجر
ماذا عليكم في وقوفكم ... ريث السؤال سقاكم القطر
بالله ربكم أما لكم ... بالمشعرين وأهله خبر
(1/275)
________________________________________
مكية هام الفؤاد بها ... نسي العزاء فماله صبرا
قدرت له حيناً لتقتله ... ولكل ما هو كائن قدر
فالشهر مثل اليوم إن حضرت ... واليوم إن غابت به شهر
زهراء آنسة مقبلها ... عذب كأنه مذاقه الخمر
وإذا تجلت في الظلام جلت ... دجن الظلام كأنها البدر
نظرت إليك بعين مغزلة ... حوراء خالط طرفها فتر
وقوله أيضاً كما في تاريخ ابن خلكان ولم أجدها في ديوانه:
حي طيفا من الأحبة زارا ... بعد ما صرع الكرى السمارا
طارقا في المنام تحت دجى الليل ضنينا بأن يزور نهارا
قلت ما بالنا جفينا كنا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا
قال أنا كما عهدت ولكن ... شغل الحلي وأهله أن يعارا
وقوله وقد تزوج سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري محبوبته الثريا:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
ومنه قول يزيد بن الطثرية:
عقيلية أما ملاث إزارها ... فدعص وأما خصرها فبتيل
تقيظ أكناف الحمى ويظلها ... بنعمان من وادي الأراك مقيل
أليس قليلا نظرة أن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل
فيا خلة النفس التي ليس دونها ... لنا من أخلاء الصفاء خليل
ويا من كتمنا حبها لم يطع به ... عدو ولم يؤمن عليه دخيل
أما من مقام أشتكي غربة النوى ... وخوف العدى فيه إليك سبيل
فديتك أعدائي كثير وشقتي ... بعيد وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلة ... فأفنيت علاتي فكيف أقول
فما كل يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يول لي إليك رسول
صحائف عندي للعتاب طويتها ... ستنشر يوماً والعتاب طويل
فلا تحملي إثمي وأنت ضعيفة ... فإن دمي يوم الحساب ثقيل
ومن الفائق قول أبي تمام:
وما حسرتي إن كدت أقضي إنما ... حسرات قليب إنني لم أفعل
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
وقوله وهو من المطراب:
استزارته فكرتي في المنام ... فأتاني في خفية واكتتام
ألليالي أحفى بقلبي إذا ما ... جرحته النوى من الأيام
يا لها زورة تلذذت الأر ... واح فيها سرا من الأجسام
مجلس لم يكن لنا فيه عيب ... غير أنا في دعوة الأحلام
وقوله أيضاً:
أنت في حل فزدني سقما ... أفن صبري وأجعل الدمع دما
وأرض لي الموت بهجريك فإن ... ألمت نفسي فزدني ألما
محنة العاشق في ذل الهوى ... فإذا استودع سرا كتما
ليس منا من شكا علته ... من شكا ظلم حبيب ظلما
ومثله قوله أيضاً:
الحسن جزء من وجهك الحسن ... يا قمرا موفيا على غصن
وإن كنت في الحسن واحدا فأنا ... يا واحد الحسن واحد الحزن
كل سقام تراه في أحد ... فذاك فرع والأصل في بدني
كوامن الحب قبل كونك في ... أفئدة العاشقين لم تكن
وقوله أيضاً:
إذا راح مشهور المحاسن أو غدا ... بلين على لحظ العيون الغوامز
فمن لم تفز عيناه منه بنظرة ... فليس بخير في الحياة بفائز
إذا ما انتضى سيف الملاحة طرفه ... ونادى قلوب القوم هل من مبارز
عجزت فألقى السلم قلبي لطرفه ... على أنه عن غيره عير حاجز
وقوله من قصيدة:
ومعرس للغيث تخفق فوقه ... رايات كل دجنة وطفاء
نشرت حدائقه فصرن مآلفا ... لطرائف الأنواء والأنداء
فسقاه مسك الطل كافور الصبا ... وانحل فيه خيط كل سماء
عني الربيع بروضه فكأنما ... أهدى إليه الواشي من صنعاء
صحبته بمدامة صحبتها ... بسلافة الخلطاء والندماء
بمدامة تغدو المنى لكؤسها ... خولا على السراء والضراء
راح إذا ما الراح كن مطيها ... كانت مطايا الشوق في الأحشاء
عنبية ذهبية سكبت لها ... ذهب المعاني صاغة الشعراء
صعبت وراض المزج سيء خلقها ... فتعلمت من حسن خلق الماء
(1/276)
________________________________________
خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء
وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت كذلك قدرة الضعفاء
ومن مديحه المرقص قوله رحمه الله:
بيمين أبي إسحاق طالت يد العلى ... وقامت قناة الدين واشتد كاهله
هو اليم من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والبر ساحله
تعود بسط الكف حتى لواته ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
ومنه قول أبي عبادة البحتري وعد من المرقص أيضاً:
أشرب على زهر الرياض تشوبه ... زهر الخدود وزهرة الصهباء
من قهوة تنسي الهموم وتبعث ال ... شوق الذي قد ضل في الأحشاء
يخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء
ولها نسيم كالرياض تنفست ... في أوجه الأرواح والأنداء
وفواقع مثل الدموع ترددت ... في صحن خد الكاعب العذراء
يسقيكها رشأ بالكاد يزيدها ... سكرا بفترة مقلة حوراء
يسعى بها وبمثلها من طرفه ... عوداً وإبداء على الندماء
وقوله وهو أول قصيدة يمدح بها الفتح بن خاقان:
بنا أنت من مجفوة لم تعتب ... معذورة في هجرها لم تؤتب
نازحة والدار منها قريبة ... وما قرب ثاو في التراب مغيب
قضت نوب الأيام فيها بفرقة ... متى ما تغالب بالتجلد تغلب
فإن أبك لأشفي الغليل وأن أدع ... أدع لوعة في القبلب ذات تلهب
ألا لا تذكرني الحمى إن ذكره ... جوى للمشوق المستهام المعذب
أتت دون ذاك الدهر أيام جرهم ... وطارت بذاك العيش عنقاء مغرب
ويا لائمي في عبرة قد سفحتها ... لبين وأخرى قبلها للتجنب
تحاول مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب مني مذهبا غير مذهبي
وما كبدي بالمستطيعة للأسى ... فأسلو ولا قلبي كثير التقلب
ولما تزايلنا عن الجزع وانثنى ... مشرق ركب مصعدا عن مغرب
تبينت أن لا دار من بعد عالج ... تسر وأن لا خلة بعد زينب
لعل وجيف الركب في غلس الدجى ... وطي الفيافي سبسبا بع سبسب
يبلغني الفتح بن خاقان أنه ... نهاية آمالي وغاية مطلبي
حكي أنه سبب نظم البحتري لهذه القصيدة أنه ماتت للمتوكل جارية بارعة الجمال اسمها شجر الدر, فحزن المتوكل لموتها حزناً شديدا وتركها بغير دفن أياماً لشدة وجده عليها, ولم يستطع أحد من الوزراء أن ينصحه في ذلك, ولا قدر أحد من الشعراء أن يرثيها. فتقد الفتح بن خاقان إلى أبي عبادة البحتري بنظم قصيدة يكون نسيبها متعلقاً بشجر الدر ومديحها فيه, وأن ينشدها بين يدي المتوكل. فنظم هذه القصيدة وحظر بين يدي المتوكل, فأخذ في إنشادها والمتوكل يهتز لها طربا, ويستعيد كل بيت منها استحسانا, إلى أن بلغ قوله: يبلغني الفتح بن خاقان - البيت - فقال المتوكل: ويحك يا أبا عبادة انتقلت مما يطرب إلى ما ينصب. ثم أجازه كل من الخليفة والوزير جائزة سنية, وحصل للمتوكل بذلك سلوة, والله أعلم.
ومن المطرب قوله أيضاً:
بات نديما لي حتى الصباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح
كأنما يضحك عن لؤلؤ ... منضد أو برد أو أقاح
تحسبه نشوان إمارنا ... للفتر في أجفانه وهو صاح
بت أفديه ولا أرعوي ... لنهي ناه عنه أو لحي لاح
أمزج كأسي بجنى ريقه ... وإنما أمزج راحا براح
يساقط الورد علينا وقد ... تبلج الصبح نسيم صباح
أغضيت عن بعض الذي يتقى ... من حرج في حبه أو جناح
سحر العيون النجل مستهلك ... لبي وتوريد الخدود الملاح
وقوله:
يا عارضا متلفعا ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده
لو شئت عدت بلاد نجد عودة ... فنزلت بين عقيقة وزروده
لتجود في ربع بمنعرج اللوى ... قفر تبدل وجشه من غيده
رفع الفراق قبابهم وتحملوا ... بفؤاد مختبل الفؤاد عميده
وأنا الفداء لمرهف غض الصبا ... يوهيه حمل وشاحه وعقوده
قصرت تحيته فجاد بخده ... يوم الوداع لنا وضن بجيده
عنيت به عين الرقيب فلم تدع ... من نيله المطلوب غير زهيده
(1/277)
________________________________________
ولو استطاع لكان يوم وصاله ... للمستهام مكان يوم صدوده
وقوله في غلام له اسمه نسيم, باعه فاشتراه أبو الفضل الحسن بن وهب ثم ندم على بيعه وتتبعته نفسه:
دعا مقلتي تجري على الجور والقصد ... أظن نسيما قارف الهجر من بعدي
خلا ناظري من طيفه بعد شخصه ... فيا عجبا للدهر فقداً على فقد
خليل هل من نظرة توصلانها ... إلى وجنات ينتسبن إلى الورد
وقد يكاد القلب يفقد دونه ... إذا اهتز في قرب من العين أو بعد
بنفسي حبيب نقلوه عن اسمه ... فبات غريبا في رخاء وفي سعد
فبا حائلا عن ذلك الاسم لا تحل ... وإن جهد الأعداء عن ذلك العهد
كفى حزنا أنا على الوصل نلتقي ... فواقا فتثنينا العيون إلى الصد
فلو تمكن الشكوى لخبرك البكا ... حقيقة ما عندي وإن جل ما عندي
هوى لا جميل في بثينة ناله ... بمثل ولا عمرو بن عجلان في هند
أبا الفضل في تسع وتسعين نعجة ... غنى لك عن ظبي بساحتنا فرد
أتأخذه مني وقد أخذ الجوى ... مآخذه مما أسر وما أبدي
وقلت أسل عنه والجوانح دونه ... وكيف سلو ابن المفرغ عن برد
ابن المفرغ هذا هو يزيد بن زياد بن مفرغ واسمه ربيعة, وإنما لقب مفرغا لأنه راهن على سقاء من لبن يشربه كله فشربه حتى فرغه فسمي مفرغا وقيل في سبب لقبه بذلك غير هذا, وكان يزيد المذكور شاعراً غزلا محسنا من شعراء الصدر الأول في زمن معاوية بن أبي سفيان, وبرد الذي ذكره البحتري غلام له كان رباه مع قينة له تسمى الأراكة, وكان شديد الضن بهما, وله فيهما أشعار والله أعلم.
ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
عزيز أسى من داؤه الحق النجل ... عياء به مات المحبون من قبل
فمن شاء فلينظر إلي فمنظري ... نذير إلى من ظن أن الهوى سهل
وما هي إلا لحظة بعد لحظة ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي ... فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
ومن جسدي لم يترك الحب شعرة ... فما فوقها إلا وفيها له فعل
ومنها:
كأن رقيباً منك سد مسامعي ... عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
كأن سهاد الليل يعشق مقلتي ... فبينهما في كل هجر لنا وصل
وقوله:
من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب
إن كنت تسأل شكا في معارفها ... فمن بلاك بتسهيد وتعذيب
ومنها:
سوائر بما سارت هوادجها ... منيعة بين مطعون ومضروب
وربما وخدت أيدي المطي بها ... على نجيع من الفرسان مصبوب
كم زورة لك في الأعرب خافية ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها ... وحالفوها بتقويض وتطنيب
ومنها:
فؤاد كل محب في بيوتهم ... ومال كل أخيذ المال محروب
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
ومنها:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
قال الثعالبي في اليتيمة: وناهيك بهذه الأبيات جزالة وحلاوة, وحسن معان, وله طريقة طريفة في وصف البدويات قد تفرد بحسنها, وأجاد ما شاء فيها.
ومنها قوله:
هام الفؤاد بأعرابية سكنت ... بيتا من القلب لم تمدد له طنبا
مظلومة القد في تشبيهه غصنا ... مظلومة الريق في تشبيهه ضربا
وقوله:
إن الذين أقمت واحتملوا ... أيامهم لديارهم دول
الحسن يرحل كلما رحلوا ... معهم وينزل حيثما نزلوا
في مقلتي رشأ تديرهما ... بدوية فتنت بها الحلل
ومنها:
ما أسارت في العقب من لبن ... تركته وهو المسك والعسل
وقوله أيضاً, قال الثعالبي: وهي مما يتغنى به لرشاقتها وبلوغها كل مبلغ من حسن اللفظ وجودة المعنى واستحكام الصنعة:
قد كان يمنعني الحياء من البكا ... والآن يمنعه البكا أن يمنعا
حتى كأن لكل عظم رنة ... في جلده ولكل عرق مدمعا
(1/278)
________________________________________
سفرت وبرقعها الحياء بصفرة ... سترت محاجرها ول تك برقعا
فكأنها والدمع يقطر فوقها ... ذهب بسمطي لؤلؤ قد رصعا
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلية فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معاً
وقوله:
فليت هوى الأحبة كان عدلا ... فحمل كل قلب ما أطاقا
ومنها:
وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السقم المحاقا
وبين الفرع والقدمين نور ... يقود بلا أزمتها النياقا
وطرف أن سقى العشاق كاسا ... بها نقص سقانيها دهاقا
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا
وقوله:
كأنما قدها إذا انقلبت ... سكران من خمر طرفها ثمل
يجذبها تحت خصرها كفل ... كأنه من فراقها وجل
وقوله:
مثلت عينك في حشاي جراحة ... فتشابها كلتاهما نجلاء
نفذت على السابري وربما ... تندق فيه الصعدة السمراء
وقوله وهو من المرقص:
كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا
لبسن الوشي لا متجملات ... ولكن لكي يصن به الجمالا
وضفرن الغدائر لا الحسن ... ولكن خفن في الشعر الضلالا
وهذا من إحسانه المشهور الذي لا يشق غباره في والله أعلم.
ومن الانسجام البديع قول سيف الدولة بن حمدان رحمه الله تعالى في جارية له من بنات ملوك الروم, كان لا يرى الدنيا إلا بها, ويشفق من الريح الهابة عليها, فحسدها سائر خطاياه على لطف محلها منه, وأزمعن على إيقاع مكروه بها من سم وغيره, وبلغ سيف الدولة ذلك فأمر بنقلها إلى الحصون احتياطاً على روحها وقال:
راقبتني العيون فيك فأشفق ... ت ولم أخل قط من إشفاق
ورأيت العذول يحسدني في ... ك اغتباطا يا أنفس الاعلاق
فتمنيت أن تكوني بعيدا ... والذي بيننا من الود باق
رب هجر يكون من خوف هجر ... وفراق يكون من خوف فراق
وقوله أيضاً:
تجنى علي الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبني ظلما وفي شقه العتب
وأعرض لما صار قلبي بكفه ... فهلا جفاني حين كان لي القلب
إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنى له ذنبا وإن لم يكن ذنب
وقوله أيضاً:
أقبله على جزع ... كشرب الطائر الفزع
رأى ماء فأطعمه ... وخاف عواقب الطمع
فصادف فرصة فدنا ... فلم يلتذ بالجرع
وقول أبي فراس بن حمدان وهو ابن عم سيف الدولة. قال الثعالبي في ترجمته: كان فرد دهره, وشمس عصره أدبا وفضلا, وبلاغة وبراعة, وفروسية وشجاعة, وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة, والسهولة والجزالة, والعذوبة والفخامة, والحلاوة والمتانة, ومعه رقة الطبع وسمة الظرف وعزة الملك, ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز, وأبو فراس بعده أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام. وكان الصاحب يقول: بديء الشعر بملك, وختم بملك, يعني امرأ القيس وأبا فراس. وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز ويتحامى جانبه, فلا ينبري لمباراته, ولا يجتري على مجاراته, وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيباً له وإجلالاً لا إغفالاً وإخلالاً. وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس, ويميزه بالإكرام على سائر قومه. انتهى.
وقوله المشار إليه هو:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ... ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى ... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
معللتي بالوصل والموت دونه ... إذا مت عطشانا فلا نزل القطر
بدوت وأهلي حاضرون لأنني ... أرى أن دارا لست من أهلها ققر
وحاربت قومي في هواك وأنهم ... وإياي لولا حبك الماء والماء والخمر
وإن كان ما قال الوشاة ولم يكن ... فقد يهدم الإيمان ما شيد الكفر
وفيت وفي بعض الوفاء مذلة ... لإنسانة في الحي شيمتها الغدر
وقور وريعان الصبا يستفزها ... فتأرن أحيانكما يارن المهر
(1/279)
________________________________________
تسائلني من أنت وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حالة نكر
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى ... قتيلك قالت أيهم فهم كثير
فأيقنت أن لا عز بعدي لعاشق ... وأن يدي مما علقت به صفر
فلا تنكريني يا ابنة العم إنني ... ليعرف ما أنكرته البدو والحضر
وقلبت أمري لا أرى لي راحة ... إذا البين أنساني ألح بي الهجر
فعدت إلى حكم الزمان وحكمها ... لها الذنب لا تجزي به ولي العذر
واني لحراب بكل مخوفة ... كثير إلى نزالها النظر الشزر
فأظمأ حتى ترتوي البيض والقنا ... واسغب حتى يشبع الذيب والنسر
ويا رب دار لم تخفني منيعة ... طلعت عليها بالردى وأنا والفجر
وما حاجتي بالمال أبغي وفوره ... إذا لم أفر عرضي فلا وفر الوفر
وقال أصيحا بي الفرار أو الردى ... فقلت هما أمران أحلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ=فليس له بر يقيه ولا بحر
هو الموت فاختر ما علا لك ذكره ... ولم يمت الإنسان ما حيي الذكر
ولا خير في دفع الردى بمذلة ... كما ردها يوما بسوءته عمرو
فإن عشت فالطعن الذي تعرفونه ... وتكل القنا والبيض والضمر الشقر
وإن مت فالإنسان لا بد ميت ... وإن طالت الأيام وانفسح العمر
يمنون أن خلوا ثيابي وإنما ... على ثياب من دمائهم حمر
وقائم سيف فيهم اندق نصله ... وأعقاب رمح فيهم حطم الصدر
سيذكرني قومي إذا جد جدها ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ولو سد غير ما سددت اكتفوا به ... وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
وهي من غرر قصائده, ومع شهرتها فهذا المقدار كاف منها.
وقوله من أخرى:
وطال الليل بي ولرب دهر ... نعمت به لياليه قصار
وندماني السريع إلى ندائي ... على عجل وأقداحي الكبار
وكم من ليلة لم أرو منها ... حننت لها وأرقني أدكار
قضاني الدين ماطله وأوفى ... إلي بها الفؤاد المستطار
فبت أعل خمر من رضاب ... لها سكر وليس لها خمار
إلى أن رق ثوب الليل عنا ... وقالت قم فقد برد السوار
وقوله في النسيب:
من أين للرشأ الغرير الأحور ... في الخد مثل عذراء المتحدر
قمر كأن بعارضيه كليهما ... مسكا تساقط فوق ورد أحمر
وقوله أيضاً:
تبسم إذ تبسم عن أقاح ... وأسفر حين أسفر عن صباح
وأتحفني براح من رضاب ... وراح من جنى خد وراح
فمن لألاء غرته صباحي ... ومن صهباء ريقته اصطباحي
وقوله أيضاً:
أساء فزادته الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان منه حبيب
يعد علي الواشيان ذنوبه ... ومن أين للوجه المليح ذنوب
وقوله وهو من المطرب:
قمر دون حسنه الأقمار ... وكثيب من النقا مستعار
وغزال فيه نفار وما ين ... كر من شيمة الظباء النفار
لا أعاصيه في اجتراح المعاصي ... في هوى مثله تطيب النار
قد حذرت الملاح دهرا ولكن ... ساقني نحو حبه المقدار
كم أردت السلو فاستعطفتني ... رقية من بين أصحابي
وقوله وهو من المرقص:
هبت لنا ريح شآمية ... متت إلى القلب بأسباب
أدت رسالات الهوى بيننا ... فهمتها من بين أصحابي
قال في اليتيمة: كان الصاحب يستطرف هذين البيتين ويستملحهما ويكثر الإعجاب بهما. انتهى.
قلت: ورأيت في كتب كثير من الأدباء المتأخرين كابن حجة والنواجي نسبة هذين البيتين إلى أبي نواس, وهو غلط, والصواب أنهما لأبي فراس, وأظن القائل بذلك تصحف عليه أبو فراس بأبي نواس, فإن صورتها في الخط قريبة والله أعلم.
وقوله رحمه الله تعالى:
قد كنت عدتي التي أسطوبها ... يدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال البارد
(1/280)
________________________________________
وجميع شعر أبي فراس من الجيد الحسن, وهو كما قال فيه بعض العلماء: لو سمعته الوحش أنست, أو خوطب به الخرس نطقت, أو استدعي به الطير نزلت.
ومن بديع الانسجام قول أبي زهير مهلهل بن نصر بن حمدان:
وقد علمت بما لاقته منا ... قبائل يعرب وابنا نزار
لقيناهم بأرماح طوال ... تبشرهم بأعمار قصار
وقوله وهو مما يتغنى به:
وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ
فنعم ظلمتك فاغفري لي زلتي ... هذا مقام المستجير العائذ
وقول أبي المطاع بن ناصر الدولة بن حمدان:
إني لأحسد (لا) في أسطر الصحف ... إذا رأيت عناق اللام للألف
وما أظنهما طال اجتماعهما ... إلا لما لقيا من شدة الشغف
وقوله أيضاً:
أفدي الذي زرته بالسيف مشتملا ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلعت نجادي للعناق له ... حتى لبست نجادا من ذوائبه
وقوله وهو من المرقص:
قالت لطيف خيال زارها ومضى ... بالله صفه ولا تنتقص ولا تزد
فقال خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
قالت صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت في كبدي
وقول أبي وائل الحمداني لما أسر:
يا خليلي أسعداني فقد عي ... ل اصطباري على احتمال البلية
غربة قارظية وغرام ... عامري وحنة علويه
وقول أبي العاشر:
أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي ... والخيل من تحت الفوارس تنحط
لقرأت منها ما تخط يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنة تنقط
وقوله أيضاً وأجاد: سطا علين امن حاز الجمال سطا=ظبي من الجنة الفردوس قد هبطا
له عذران قد خطا بوجنته ... فاستوقفا فوق خديه وما انبسطا
وظل يخطو فكل قال من شغف ... يا ليته في سواد الناظرين خطا
وحدث بعضهم قال: دخلت إلى أبي العاشر أعوده من علة عرضت له فقلت له: ما يجد الأمير؟ فأشار إلى غلام بين يديه كان رضوان غفل عنه فابق من الجنة, وأنشد:
أسقم هذا الغلام جسمي ... بما بعينيه من سقام
فتور عينيه من دلال ... أهدى فتورا إلى عظامي
وامتزجت روحه بروحي ... تمازج الماء بالمدام
وهؤلاء آل حمدان رضوان الله عليهم, ما منهم إلا شجاع مدقع وفصيح مصقع, وفيهم يقول الثعالبي: كان بنو حمدان ملوكاً؛ أوجههم للصباحة, وألسنتهم للفصاحة, وأيديهم للسماحة, وعقولهم للرجاحة.
وقال: اخبرني جماعة من أهل الأدب؛ أن المتنبي لما عوتب في آخر أيامه على تراجع شعره قال: قد تجوزت في قولي, وأعفيت طبعي, واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان. انتهى.
ومن الانسجام المرقص قول أبي الفرج الببغاء:
يا سادتي هذه روحي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع
قد كنت أطمع في روح الحياة لها ... فالآن إذ بنتم لم يبق لي طمع
لا عذب الله روحي بالبقاء فما ... أظنني بعدكم بالعيش أنتفع
ومثله قول الوأواء الدمشقي:
بالله ربكما عوجا على سكني ... عاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضا بي قولا في كلامكما ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه
فان بدا لكما من سيدي غضبا ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه
ومثله قول أبي طالب الرقي:
ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق
وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على زجاج أزرق
والفجر فيه كأنه قطر الندى ... ينهل من سيح الغمام المغدق
وقوله أيضاً:
ومعير وجه البدر ما في وجهه ... والغصن ما في قده المتأود
رمدت جفوني من تورد خده ... فكحلتها من عارضيه بأثمد
ومن البديع في هذا الباب قول تميم بن أبي تميم معد بن تميم صاحب مصر:
ما بان عذري فيه حتى عذرا ... ومشى الدجى في خده فتحيرا
همت تقبله عقارب صدغه ... فاستل عارضه عليها خنجرا
والله لولا أن يقال تغيرا ... وسلا وإن كان التسلي أجدرا
لا عدت تفاح الخدود بنفسجا ... لثما وكافور الترائب عنبرا
وفاة ابنه:
نحن بنو المصطفى ذوو محن ... يجرعها في الحياة كاظمنا
عجيبة في الأنام محنتنا ... أولنا مبتلى وخاتمنا
(1/281)
________________________________________
يفرح هذا الورى بعيدهم ... طرا وأعيادنا مآتمنا
وعدوا من الانسجامات المطربة قول محمد بن صالح العلوي:
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهنا لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمتع أركانه
فبدا لينظر أين لاح فلم يطق ... نظرا إليه وصده سبحانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه
ومن الانسجامات المرقصة قول أبي الحسين علي بن محمد الحماني العلوي:
يا شادنا أفرغ من فضه ... في خده تفاحة غضة
كأنما القبلة في خده ... للحسن من رقته عضه
يهتز أعلاه إذا ما مشى ... وكله في لينه قبضه
أرحم فتى لما تملكته ... أقر بالرق فلم ترضه
وقوله أيضاً رحمه الله:
بأبي فم شهد الضمير ... قبل المذاق بأنه عذب
كشهادتي لله خالصة ... قبل العيان بأنه الرب
والعين لا تغني بنظرتها حتى يكون دليلها القلب
وقوله في الفخر:
لنا من هاشم هضبات مجد مطنبة بأبراج السماء
تطوف بنا الملائك كل يوم ... ونكفل في حجور الأنبياء
ويهتز المقام لنا ارتياحا ... ويلقانا صفاه بالصفاء
ومنه قول ابن المعتز:
سقى المطيرة ذات الظل والشجر ... ودير عبدون هطال من المطر
وطالما نبهتني للصبوح بها ... في غرة الفجر والعصفور لم يطر
أصوات رهبان في دير صلاتهم ... سود المدارع نعارين في *****
مزترين على الأوساط قد جعلوا ... على الرؤوس أكاليلا من الشعر
كم فيهم من مليح الوجه مكتحل ... ب***** يطبق جفنيه على حور
لاحظته بالهوى حتى استطاب له ... طوعا وأسلفته الميعاد بالنظر
وجاءني في قميص الليل مستترا ... مستعجل الخطو من خوف ومن حذر
فقمت أفرش خدي في الطريق له ... ذلا وأسحب أذيالي على الأثر
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
وقوله وهو من المطرب في هذا الباب:
ومقرطق يسعى إلى الندماء ... بعقيقة في درة بيضاء
والبدر في أفق السماء كدرهم ... ملقى على ياقوته زرقاء
كم ليلة قد سرني بمبيته ... عندي بلا خوف من الرقباء
مهفهف عقد الشراب لسانه ... فحديثه بالرمز والإيماء
حركته بيدي وقلت له انتبه ... يا فرحة الخلطاء والندماء
فأجابني والخمر يخفض صوته ... بتلجلج كتلجلج الفأفاء
إني لأفهم ما تقول وإنما ... غلبت علي سلافة الصهباء
دعني أفيق من الخمار إلى غد ... واحكم بما تختار يا مولائي
وقوله وهو من المرقص:
ما أقصر الليل على الراقد ... وأهون السقم على العائد
تفديك ما أبقيت من مهجتي ... لست لما أوليت بالجاحد
كأنني عانقت ريحانة ... تنفست في ليلها البارد
فلو ترانا في قميص الدحى ... حسبتنا في جسد واحد
ومنه قول ابن الرومي:
بلد صبحت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد
وإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد
وقول السري الرفاء:
قامت وخوط البانة ال ... مياس في أثوابها
ويهزها سكران سك ... ر شرابها وشبابها
تسمى بصهبائين من ... ألحاظها وشرابها
فكأن كأس مدامها ... لما ارتدت بحبابها
توريد وجنتها إذا ... ما لاح تحت نقابها
وقوله أيضاً:
ومن وراء سجوف الرقم شمس ضحى ... تجول في جنح ليل مظلم داج
مقدودة خرطت أيدي الشباب لها ... حقين دون مجال العقد من عاج
قال الثعالبي: عهدي بأبي بكر الخوارزمي يحن على هذا الوصف.
وقوله وهو من المطرب:
قم فانتصف من صروف الدهر والنوب ... واجمع بكأسك شمل اللهو والطرب
أما ترى الصبح قد قامت عساكره ... في الشرق ينشر أعلاما من الذهب
والجو يختال في حجب ممسكة ... كأنما البرق فيها قلب ذي رعب
تجنبتك صروف الدهر فانصرفت ... وقابلتك سعود العيش عن كثب
(1/282)
________________________________________
فاخلع عذارك واشرب قهوة مزجت ... بقهوة الفلج المعسول والشنب
فالعيش في ظل أيام الصبا فإذا ... ودعت طيب الشباب الغض لم يطب
توج بكأسك قبل الحادثات يدا ... فالكأس تاج يد المثري من الأدب
وقوله وهو من المرقص:
خذوا من العيش فالأعمار فانية ... والدهر منصرف والعمر منقرض
في حامل الكأس من بدر الدجى خلف ... وفي المدامة من شمس الضحى عوض
كأن نجم الثريا كف ذي كرم ... مبسوطة للعطايا ليس تنقبض
دارت علينا كؤوس الراح مترعة ... وللدجى عارض في الجو معترض
حتى رأيت نجوم الليل غائرة ... كأنهن عيون حشوها مرض
ومنه قول الخباز البلدي
ذرى شجر للطير فيها تشاجر ... كأن صنوف النور فيها جواهر
كأن القماري والبلابل فوقها ... قيان وأوراق الغصون ستائر
شربنا على ذاك الترنم قهوة ... كأن على حافاتها الدر دائر
ومما وقع الاتفاق على أنه من الانسجام المرقص قول الوزير المهلبي:
تصارمت الأجفان منذ ضرمتني ... فما نلتقي إلا على عبرة تجري
وقوله أيضاً:
قال لي من أحب والبين قد وجد ... ودمعي مواصلا لشهيقي
ما الذي في الطريق تصنع بعدي ... قلت أبكي عليك طول الطريق
ومنه قول أبي إسحاق إبراهيم الصابي:
لست أشكو هواك يا من هواه ... كل يوم يروعني منه خطب
مر ما مر بي من أجلك حلو ... وعذابي في مثل حبك عذب
وقوله أيضاً:
أيها اللائم المضيق صدري ... لا تلمني فكثرة اللوم تغري
قد أقام القوام حجة عشقي ... وأبان العذار في الحب عذري
وقوله أيضاً:
إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد ... حفنا عليك به ظلما وعدوانا
لأن أحسن ما نلقاه مكتسيا ... وأنت أحسن ما نلقاك عريانا
ومنه قول القاضي التنوخي:
غصن تأود فوق دعص من نقا ... ليل تبلج عن نهار مسفر
كالشمس إلا أنه متنفس ... عن مسكة متبسم عن جوهر
وأطال من ليلي وقصر ليله ... إني سهرت وأنه لم يسهر
وقول أبي نصر الخبزارزي:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأحسن من مولى تمشى إلى عبد
أتى زائرا من غير وعد وقال لي ... أصونك عن تعليق قلبك بالوعد
فما زال نجم الكأس بيني وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطورا على تقبيل نرجس ناظر ... وطورا على تعضيض تفاحة الخد
وقوله أيضاً:
شاقني الأهل ولم تشقني الديار ... والهوى صائر إلى حيث صاروا
جيرة فرقتهم غربة البين ... وبين القلوب ذاك الجوار
كم أناس زعوا لنا حين غابوا ... وأناس جفوا وهم حضار
عرضوا ثم أعرضوا واستمالوا ... ثم مالوا وأنصفوا ثم جاروا
لا تلهم على التجني فلو لم ... يتجنوا لم يحسن الاعتذار
وقوله أيضاً: قالوا عشت صغيرا قلت أرتع في=روض المحاسن حتى يدرك الثمر
ربيع حسن دعاني لافتتاح هوى ... لما تفتح منه النور والزهر
ومن بديعه قول أبي طاهر الواسطي قال الثعالبي (وهو أحسن وأبلغ ما سمعته في طول الليل) :
عهدي بنا ورداء الصبح يجمعنا ... والليل أطوله كاللمح بالبصر
فالآن ليلي مذ غابوا فديتهم ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر
وقول أبي عبد الله الحامدي
يا راحلا ترك البكاء مباحا ... ما رحت أنت بل اصطباري راحا
إن أخلفتني فيك أسباب المنى ... وغدوت لي سقما وكنت صلاحا
فلقد عهدتك مسعدا لي في الهوى ... وعهدت وجهك في الظلام صباحا
وقول ابن نباتة السعدي:
يا من أضر بحسن الشمس والقمر ... ولم يدع فيهما للناس من وطر
نفسي فداؤك من بدر على غصن ... تكاد تأكله عيناي بالنظر
وقوله وهو من المطرب
سقى الله أرضاً لا أبوح بذكرها ... فتعرف أشجاني بها حين تذكر
سوى أنها مسكية الترب ريحها ... ترف وتندى والهواجر تزفر
نمت بها يجلو علي كؤوسها ... أغر الثنايا واضح الجيد أحور
فوالله ما أدري أكانت مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر
إذا صبها جنح الظلام وعبها ... رأيت رداء الليل يطوى وينشر
(1/283)
________________________________________
وقوله وهو من المرقص:
خلقنا بأطراف القنا في صدورهم ... عيونا لها وقع السيوف حواجب
بقوا قبلنا مرد العوارض وانثنوا ... وأوجههم منها لحى وشوارب
وقوله في فرس أغر محجل أهداه إليه سيف الدولة:
قد جاءنا الطرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه
أولاية وليتنا فبعثته ... رمحا سبيب العرف عقد لوائه
نختال منه على أغر محجل ... ماء الدياجي قطرة من مائه
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه وخاض في أحشائه
متمهلا والبرق من أسمائه ... متبرقعا والحسن من أكفائه
لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه
لا يكمل الطرف المحاسن كلها ... حتى يكون الطرف من إسرائه
وقال فيه أيضاً:
وأدهم يستمد الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريا
سرى خلف الصباح يطير مشيا ... ويطوي خلفه الأفلاك طيا
فلما خاف وشك الفوت منه ... تشبث بالقوائم والمحيا
ومن المرقص البديع قول السلامي:
تبسطنا على الآثام لما ... رأينا العفو من ثمر الذنوب
ومثله قوله:
الكأس للسكر التبري صائفة ... والماء للحبب الدري نظام
بتنا نكفكف بالكاسات أدمعنا ... كأننا في حجور الروض أيتام
وقوله:
نفرغ أكياسنا في الكؤوس ... نبيع العقار ونشري العقارا
حمدنا الهوى ونسينا الفراق ... ومن يشرب الخمر ينس الخمارا
وقوله من قصيدة يمدح بها عضد الدولة:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر
وبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار وهي الدنيا ويوم هو الدهر
قال القاضي ابن خلكان في تاريخه بعد إنشاد هذه الأبيات: وعلى الحقيقة هذا الشعر هو ***** الحلال كما يقال.
وقد أخذ هذا المعنى القاضي أبو بكر الأرجاني فقال:
يا سائلي عنه لما جئت أمدحه ... هذا هو الرجل العاري من العار
كم من شنوف لطاف من محاسنه ... علقن منه على آذان سمار
لقيته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار
ولكن أين الثريا من الثرى, وهذا المعنى موجود في الشطر الأخير من بيت المتنبي وهو:
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
لكنه ما استوفاه, فإنه ما تعرض إلى ذكر اليوم الذي جعله السلامي هو الدهر, ومع هذا فليس عليه طلاوة ببيت السلامي. انتهى.
ومن المطرب أيضاً قوله:
عدل ****** فمن يجور ... ودنا فأين بنا تسير
عوضت من عيس تدور ... بنا الفلا كأسا تدور
وشربت ما وسع الصغير ... وزدت ما حمل الكبير
نبهت ندماني وقد ... عبرت بنا الشعرى العبور
والبدر في أفق السما ... ء كروضة فيها غدير
هبوا فقد عيي الرقيب ... فنام وانتبه السرور
وأشار إبليس فقل ... نا كلنا نعم المشير
صرعى بمعركة تعف ... الوحش عنها والنسور
نوار روضتنا خدو ... د والغصون بها خصور
والعيش آنس ما يكون ... إذا تهتكت الستور
هبوا إلى شرب المدا ... م فإنما الدنيا غرور
طاف السقاة بها كما ... أهدت لك الصيد الصقور
عذراء يكتمها المزا ... ج كأنها فيه ضمير
وتظن تحت حبابها ... خدا تقبله ثغور
حتى سجدنا والإمام ... أما منا بم وزير
ومن الانسجام المطرب قول ابن سكرة الهاشمي في غلام بيده غصن منور:
غصن بان أتى وفي اليد منه ... غصن فيه لؤلؤ منظوم
فتحيرت بين غصنين في ذا ... قمر طالع وفي ذا نجوم
وقوله أيضاً:
الليالي تسوء ثم تسر ... وصروف الزمان ما تستقر
غير أني عن الحوادث راض ... بعد سخط والعيش حلو ومر
كنت صبا بواحد ثم ثني ... ت فلي بالجميع وصل وهجر
من كمثلي وعن يميني شمس ... تتجلى وعن يساري بدر
ذا على خده من الحسن سطر ... وعلى طرف ذا من الغنج سحر
بت يجري علي من ريق هذين ... وكأسي شهد ومسك وخمر
وقال:
(1/284)
________________________________________
أنا والله سيدي ... آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
ومنه قول أبي الحسن علي بن هارون المنجم وهو مما يتغنى به:
بيني وبين الدهر فيك عتاب ... سيطول إن لم يغنه الإعتاب
يا غائبا بوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتك إياب
لولا التعلل بالرجاء تقطعت ... نفس عليك شعارها الأوصاب
لا يأس من فرج الإله فربما ... يصل القطوع ويقدم الغياب
وقوله:
سقى الله أياما لنا ولياليا ... مضين فلا يرجى لهن رجوع
إذ العيش صاف والأحبة جيرة ... جميعاً وإذ كل الزمان ربيع
وإذ أنا أما للعواذل في الصبا ... فعاص وأما للهوى فمطيع
قال الصاحب رحمه الله تعالى: هذا الشعر إن شئت كان أعرابياً في شملته, وإن أردت كان عراقيا في حلته.
وقوله من قصيدة صاحبية:
ولما تنسمنا صبا صاحبيه ... تعيد عجاج الجو وهو عبير
تركنا الظي الرمضاء وهي حديقة ... ندى وحصى المزاء وهي شذور
ونلنا هشيم النبت وهو منور ... وجزنا قتاد الأيك وهو حرير
وزير ومما يعجب الناس أنه ... وزير عليه للسماح أمير
ويخطب من فوق الثريا بفخره ... فلا تعجبوا أن الخطيب خطيرا
وقوله من أخرى فيه وهي من قلائده:
هذا فؤادك نهبا بين أهواء ... وذاك رأيك شورى بين آراء
هواك بين العيون النجل مقتسم ... داء لعمرك ما أدواه من داء
لا تستقر بأرض أو تسير إلى ... أخرى بشخص غريب عزمه نائي
يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبال ... عذيب يوما ويوما بالخليصاء
وتارة تنتحي نجدا وآونه ... شعب العقيق وطورا قصر تيماء
قال أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي: عهدي بأبي محمد الخازن ماثلاً بين يدي الصاحب ينشده هذه القصيدة, فرأيت الصاحب مقبلا عليه بمجامعه, حسن الإصغاء إليه, مستعيدا لأكثر أبياته, مظهرا من الإعجاب به والاهتزاز لهل ما تعجب الحاضرون منه.
فلما بلغ قوله:
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعض أسمائي
أطلعت شعري وألقت شعرها طربا ... فألفا بين إصباح وإمساء
زحف عن دسته طربا. فلما بلغ قوله بالمدح:
لو أن سبحان باراه لا سحبه ... على خطابته أذيال فأفاء
أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها ... إليه مستبقات أي إلقاء
فساس سبعتها منه بأربعة ... أمر ونهي وتثبيت وإمضاء
كذاك ألوى الهدى منه بأربعة ... كفر وجبر وتشبيه وإرجاء
جعل يحرك رأسه مستحسنا. فلما قال:
نعم تجنب (لا) يوم العطاء كما ... تجنب ابن عطاء لثغة الراء
استعاده وصفق بيديه. فلما ختمها بهذه الأبيات:
أطري وأطرب بالأشعار أنشدها ... أحسن ببهجة إطرابي وإطرائي
ومن منائح مولانا مدائحه ... لان من زنده قدحي وإيرائي
فخذ إليك ابن عباد محبرة ... لا البحتري يدانيها ولا الطائي
قال: أحسنت أحسنت والله أنت. وتناول النسخة, وتشاغل بإعارتها نظره, ثم أمر له بخلعة وحملان وصلة.
ومن البديع المطرب قول أبي عثمان سعيد بن هاشم الخالدي:
أدن من الدن يا فداك أبي ... وأشرب وسق الكبير وانتخب
أما ترى الطل كيف يلمع في ... عيون نور يدعو إلى الطرب
في كل عين للطل لؤلؤة ... كدمعة في جفون منتحب
والصبح قد جردت صوارمه ... والليل قد هم منه بالهرب
والجو في حلة ممسكة ... قد كتبتها البروق بالذهب
فهاتها كالعروس محمرة ال ... خدين في معجز من الحبب
كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب
في كف را عند الصدود وقد ... غضبت من حبه على الغضب
فلو ترى الكأس حين يمزجها ... رأيت شيئاً من أعجب العجب
نار حواها الزجاج يلهبها ال ... ياء ودر يدور في لهب
وقول أبي العلاء السروي في غلام سكران, وهو مما يتغنى به:
بالورد في وجنتيك من لطمك ... ومن سقاك المدام لم ظلمك
خلاك لا تستفيق من سكر ... توسع شتما وجفوة خدمك
مشوش الصدغ قد ثملت فما ... تمنع من لثم عاشقيك فمك
(1/285)
________________________________________
بالله يا أقحوان مبسمه ... على قضيب العقيق من نظمك
وقول القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي:
قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت دين أخي التقي المترهب
نور الخمار ونور خدك تحته ... عجبا لوجهك كيف لم يلتهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب
وإذا أتت عين لتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي
وما ألطف قوله: اذهبي لا تذهبي وعلى ذكر هذه الأبيات, يحكى أن بعض التجار قدم مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه حمل من الخمر السود, فلم يجد لها طالبا, فكسدت عليه, وضاق صدره, فقيل له: ما ينفقها لك إلا مسكين الدارمي وهو من مجيدي الشعراء الموصوفين في الظرف والخلاعة. فقصده فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد, فأتاه وقص عليه القصة, فقال: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذه الحالة, فقال له التاجر: أنا غريب وليس لي بضاعة سوى هذا الحمل, وتضرع إليه فخرج من المسجد وأعاد لباسه الأول.
وعمل هذين البيتين وشهرهما, وهما:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا أردت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة إزاره ... حتى وقفت له بباب المسجد
فشاع بين الناس أن مسكين الدرامي رجع إلى ما كان عليه, وأحب واحدة ذات خمار أسود, فلم يبق في المدينة ظريفة إلا وطلب خمارا أسود, فباع التاجر الحمل الذي كان معه لكثرة رغبتهم, فلما فرغ منه عاد مسكين إلى تعبده وانقطاعه, والله أعلم.
وهذا حين أتلو عليك من انسجامات مهيار بن مرزويه الديلمي ما هو أرق من النسيم, وأشرف من المحيا الوسيم. وما أصدق قول أبي الحسن الباخرزي في حقه: هو شاعر له في مناسك الفضل مشاعر, وكاتب تجلى تحت كل كلمة من كلماته كاعب, وما في قصيدة من قصائده بيت يتحكم عليه لو, وليت, فهي مصبوبة في قوالب القلوب, وبمثلها يعتذر الزمان المذنب عن الذنوب.
فمن ذلك قوله من قصيدة:
يا نسيم الريح من كاظمة ... شد ما هجت البكا والبرجا
من عذيري يوم شرقي الحمى ... من هوى جد بقلب مزرحا
الصبا إن كان لابد الصبا ... أنها كانت لقلبي أروحا
يا نداماي بسلع أهل أرى ... ذلك المغبق والمصطحبا
اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا
وارحموا صبا إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا
وقوله من أخرى:
ولائم ملتفت عن صبوتي ... ينكرها ولو أحب لصب
إذا نسيت بهواي ساءه ... مصرحا وإن كنيت غضبا
وما عليه أن غرمت بابلا ... بحاجر وفاطما بزينبا
يلومني لا مات إلا لائما ... أو عاش عاش بالهوى معذبا
قال عشقت أيبا يعدها ... منقصة نعم عشقت اشيبا
هل شعر بدلته بشعر ... مبدل بأرب لي أربا
أبى الوفاء والهوى وبالغ ... معذرة من سيم عذرا فأبى
وقوله في صدر أخرى:
أتراها يوم صدت أن أرها ... علمت أني من قتلى هواها
أم رمت جاهلة ألحاظها ... لم تميز عمدها لي من خطاها
لا ومن أرسلها مفتنة ... تجرح النسك بجمع وقضاها
ما رمى نفسي إلا واثق ... أنه يقضي عليها من رماها
سنحت بين المصلى ومنى ... مسنح الظبية تستقري طلاها
فجزاها الله عن فتكها ... في حريم الله سواءا ما جزها
قال واشيها وقد راودتها ... رشفة تبرد قلبي من لماها
لا تسمها فما أن الذي ... حرم الخمرة قد حرم فاها
أعطيت من كل حسن ما اشتهت ... فرآها كل طرف فاشتهاها
حماها خفر في وجهها ... ووقار قبل أن تسمي أباها
غدت الشمس إذا ما أسفرت ... أختها والغصن إن مست أخاها
ولو أن النجم يرتاح لها ... لحظة في غير ما جمع ما اجتلاها
آه مما أسارت في كبدي ... من جوى تلك الليالي البيض آها
وقال من أخرى
من بمنى وأين جيران منى ... كانت ثلاثا لا تكون أربعا
راحوا فمن ضامن دين ما وفي ... وحالف بالبيت ما تورعا
وفي الحدوج غاربون أقسموا ... لا تركوا شمسا تضيء مطلعا
سعى بي الواشي إلى أميرهم ... لا طاف إلا خائفا ولا سعى
(1/286)
________________________________________
لا بأبي ظبية لولا طيفها ... ما أستأذنتها مقلتي أن تهجعا
ولا رجوت بسؤالي عندها ... جدوى سوى أن أشتكي وتسمعا
يا صاحبي سر الهوى إذاعة ... طغت خروق سرنا أن ترقعا
إشرافة على منى إشرافة ... واجتهداها دعوة أن تسمعا
يا طلقاء الغدر هل من عطفة ... على أسير بالوفاء جمعا
سلبتموني كبدا صحيحة ... أمس فردوها علي قطعا
عدمت صبري فجزعت بعدكم ... ثم ذهلت فعدمت الجزعا
وأنت يا ذات الهوى من بينهم ... عهدك يوم وجرة ما صنعا
لما ملكت بالخداع جسدي ... نقلت قلبي وسكنت الأضلعا
وارتجعا لي ليلة بحاجر ... إن تم في الفائت أن يرتجعا
وغفلة سرقتها من زمني ... بلعلع سقى الغمام لعلعا
وقال في صدر أخرى:
أنذرتني أخت سعد أن سعدا ... دونها ينهد لي بالشر نهدا
ما على قومك أن صار لهم ... أحد الأحرار من أجلك عبدا
أجتلي البدر فلا أنساك وجهها ... وأرى الغصن فلا أسلاك قدا
وإذا هبت صبا أرضكم ... جملت تراب الغضابان ورندا
لام في نجد وما استنصحته ... بابلي لا أراه الله نجدا
لو تصدى رشأ السفح له ... لم يلم فيه ولو جار وصدا
يصل الحول على العهد وما ... أنكر التذكار من قلبي عهدا
أفيروى عندكم ذو غلة ... عدم الظلم فما يشرب بردا
رد لي يوما على وادي منى ... أن قضى الله لأمر أن يردا
وقال في صدر أخرى:
بطرفك والمسحور يقسم ب***** ... أعمدا رماني أم أصاب ولا يدري
تعرض لي في القانصين مسدد ... الإشارة مدلول السهام على النحر
رمى اللحظة الأولى فقلب مجرب ... فكررها أخرى فأحسست بالشر
فهل ظن ما قد حرم الله من دمي ... مباحاً له أم نام قومي عن الوتر
بنجد ونجد دار جود وذمة ... مطال بلا عس ومطل بلا عذر
وسمراء ود البدر لو حال لونه ... إلى لونها في صبغة الأوجه السمر
خليلي هل من وقفة والتفاتة ... إلى القبة السوداء من جانب الحجر
وهل من أرانا الحج بالخيف عائد ... إلى مثلها أم عدها حجة العمر
ولله ما أوفى الثلاث على منى ... لأهل الهوى لو لم تحن ليلة النفر
لقد كنت لا أوتى من الصبر قلة ... فهل تعلمان اليوم أين مضى صبري
وكنت ألوم العاشقين ولا أرى ... مزية ما بين الوصال إلى الهجر
فأعدي إلي الحب صحبة أهله ... ولم يدر قلبي أن داء الهواء يسري
أيشرد لبي يا غزالة حاجر ... وأنت بذات البان مجموعة الأمر
وخذي الحظ عيني في الغصون إضافة ... إلى القلب أو ردي فؤادي إلى صدري
وقال من أخرى:
ولما وقفنا بالديار تشابهت ... جسوم براهن البلى وطلول
فبال بداء بين جنبيه عارف ... وبال بما جر الفراق جهول
ونسأل عن ظمياء صماء لا تعي ... فترضى بما قالت وليس تقول
هل أنت يا ظمياء إلا يراعة ... تميل مع الأرواح حيث تميل
فإن كان سؤلا للنفوس بلاؤها ... فإنك للبلوى وإنك سول
تهجر واش فيك عندي فسائني ... فقلت عدو أنت قال عذول
وسفهني في أن تعلقت مانعا ... فقلت وأي الغانيات منيل
إذا لم تكن حسناء إلا بخيلة ... فلا عجب في أن يحب بخيل
وقال في صدر أخرى وهي من مشهور شعره:
بكر العارض تحدوه النعام ... فسقاك الري يا دار أمام
وتمشت فيك أرواح الصبا ... يتأرجن بأنفاس الخزامى
أجتدي المزن وماذا أر بي ... أن تجود المزن أطلالا رماما
وقليلا قبلا أن أدعو لها ... ما رآني الله أستجدي الغماما
أين سكانك لا أين هم ... أحجازا أوطنوها أما شآما
صدعوا بعد التئام فغدت ... بهم أيدي المرامي تتراما
يا لواة الدين عن ميسرة ... الضنينات وما كن لئاما
قد وقفنا بعدكم في ربعكم ... فقضيناه استلاما والتثاما
بجرعاء الحمى قلبي فعج ... بالحمى وأقرأ على قلبي السلام
وترجل فتحدث عجبا ... إن قلبا سار عن جسم أقاما
قل لجيران الغضا آه على ... طيب عيش بالغضا لو كان داما
(1/287)
________________________________________
نصل العام وما أنساكم ... وقصارى الوجد أن أسلخ عاما
حملوا ريح الصبا نشركم ... قبل أن تحمل شيحا وثماما
وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما
وقف الظامي على أبوابكم ... أفيقضي وهو لم يشف أواما
ما يبالي من سقيتن اللمى ... منعكن الماء عنه والمداما
أشتكيكم وإلى من أشتكي ... شمل الداء فمن يبري السقاما
وقال في صدر أخرى:
ليتها إذ منعت ماعونها ... لم تكن ناهرة مسكينها
دمية ما اجتمع والشمس في ... موطن إلا رأتها دونها
ما عليها إذ أطاعت حسنها ... يوم جمع لو أطاعت دينها
نسكت بين المصلى ومنى ... حجة لم تتبع مسنونها
تصف الظبية إلا عطفها ... لك والبانة إلا لينها
فأسالت أنفسا معجلة ... لم تشارف من كتاب حينها
أنبلتها وهي لا سهم لها ... إنما ألحاظها يكفينها
سألت ظمياء من ذا فتنت ... أي قلب لم يكن فمتونها
يا ابنة المثنى عليهم بالندى ... وعهود حرموا تخوينها
ما لهم جادوا وأبخلت وما ... للمواثيق التي تلوينها
رمست عند عادات لهم ... كان حق المجد لو تحيينها
أزف النفر وفي أسرى الهوى ... كبد عند لا تفدينها
ذهبت هائمة فأطلعت ... عذرة تحسبها مجنونها
قضي الحج تماما ولنا ... حاجة بعد نهل تقضينها
ما بك الصد ولكن وفرة ... لونتها نوب تلوينها
كالقطا مرَّ عليها قانص ... أخذ الكر وبقى جونها
وإنما آثرت إيراد هذا المقدار من رقائق مهيار لغرابة أسلوبه في طريقته وتفرده في مجازه وحقيقته, وعزة وجود ديوانه في هذا الزمن الذي وقف فيه الأدب على ثنية الوداع, وهم قبلي مزنه بالإقلاع والله المستعان.
ومن الغايات في باب الانسجام قول أبي عبد الله محمد بن نصر المعروف بابن القيسراني
بالسفح من نعمان لي ... قمر منازله القلوب
حملت تحيته الشمال ... فردها عني الجنوب
فرد الصفات غريبها ... والحسن في الدنيا غريب
لم أنس ليلة قال لي ... لما رأى جسدي يذوب
بالله قل لي من أعللك يا ... فتى قلت الطبيب
وقول أبي بكر محمد بن الصائغ الأندلسي:
أسكان نعمان الأرك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي سكان
ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا ائتمنوا خانوا
سلو الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت بالغمض لي فيه أجفان
وقول أبي إسحاق إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
ألا ساجل دموعي يا غمام ... وطارحني يشجوك يا حمام
فقد وفيتها ستين حولا ... ونادتني ورائي هل أمام
وكنت من الباناتي لبينى ... هناك ومن مراضعي المدام
يطالعنا الصباح ببطن حزوى ... فيعرفنا وينكرنا الظلام
وكان به البشام مراح أنس ... فيالله ما فعل البشام
فيا شرخ الشباب ألا لقاء ... يبل به على برح أوام
ويا ظل الشباب وكنت تندى ... على أوفياء دوحتك السلام
وقول أبي عبد الله محمد بن بختيار المعروف بالأبله البغدادي:
زار من أحيا بزورته ... والدجى في لون طرته
قمر يثني معاطفه ... بانة في طي بردته
بت أستجلي المدام على ... غرة الواشي وغرته
يا لها من ليلة قصرت ... وأماتت طول جفوته
يا له من الحسن من صنم ... كلنا في جاهليته
وقول موفق الدين محمد بن يوسف الأربلي:
رب دار بالفضا طال بلاها ... عكف الركب عليها فبكاها
درست إلا بقايا أسطر ... سمح الدهر بها ثم محاها
كان لي فيها زمان وانقضى ... فسقى الله زماني وسقاها
وقفت فيها الغوادي وقفة ... ألصقت حر ثراها بحشاها
وبكت أطلالها نائبة ... عن جفوني أحسن الله جزاها
قل الجيران مواثيقهم ... كلما أحكمتها رثت قواها
كنت مشغوفا بكم إذ كنتم شجرا لا يبلغ الطير ذراها
لا تبيت الليل إلا حولها ... حرس ترشح بالموت ظباها
وإذا مدت إلى أغصانها ... كف جان قطعت دون جناها
(1/288)
________________________________________
فتراخى الأمر حتى أصبحت ... هملا يطمع فيها من يراها
تخصب الأرض فلا أقربه ... رائدا إلا إذا عز حماها
لا يراني الله أرعى روضة ... سهلة الأكناف من شاء رعاها
وإذا طمع أعرى بكم ... عرض اليأس لنفسي فثناها
فصبابات الهوى أولها ... طمع النفس وهذا منتهاها
لا تظنوا لي إليكم رجعة ... كشف التجريب عن عيني عماها
وقول أبي الفتح محمد بن عبد الله المعروف بسبط بن التعاويدي:
قل للسحاب إذا مرت ... هـ يد الجنائب فارجحن
عج باللوى فاسمح بدم ... عك في المعاهد والدمن
يا منزل الأنس الجميع ... وملعب الحي الأغن
سكنت بك الآرام من ... بعد الأحبة السكن
أين استقلت ب****** ... ركابه ومتى ظعن
شوقي إلى زمن الحمى ... سقي الغوادي من زمن
شوق المغرب شردت ... هـ يد البعاد عن الوطن
ولقد عهدتك والزمان ... لشملنا بك ما فطن
وثراك ما اغبرت مسار ... حه وماؤك ما أجن
وظباؤك الأتراب لي ... وطر وتربك لي وطن
لام العذول وما درى ... وجدي وبلبالي بمن
وجدي بمن فضح القضي ... ب وأخجل الرشأ الأغن
ما ضر من هو فتنتي ... لو كان يرحم من فتن
دمعي طليق في ... محبته وقلبي مرتهن
يا منيتي أودى الصدو ... د بعاشق بك ممتحن
غادرته وقفا على ال ... عبرات بعدك والحزن
كلف الفؤاد معذبا ... بين الإقامة والظعن
عطفا على قرح الجفو ... ن بعيد عهد السوسن
لا تبخلي فالبخل يذ ... هب بهجة الوجه الحسن
ولرب ليل بت في ... هـ صريع باطية ودن
أختال من مرح وأسحب فضل ذيلي والردن
مع معطف لدن القوا ... م إذا انثنى رخص البدن
وقوله في صدر أخرى:
سقاك سار من الوسمي هتان ... ولا رقت للغوادي فيك أجفان
يا دار الهوى وأطرابي وملعب أت ... رابي وللهو الأطراب أوطان
هل عائد لي ماض من جديد الهوى ... أبليته وشباب فيك فينان
إذ الرقيب لنا عين مساعدة ... والكاشحون لنا في الحب أعوان
وإذ جميلة توليني الجميل وعن ... د الغانيات وراء الحسن إحسان
ولي إلى الرمل من نحو الحمى طرب ... واليوم لا الرمل يصبيني ولا البان
وما عسى يدرك المشتاق من وطر ... إذا بكى والأحباب قد بانوا
كانوا معاني المغاني والمنازل أم ... وات إذا لم يكن فيهن سكان
لله كم قمرت لبي بجوك أق ... مار وكم غازلتني فيك غزلان
خال من الهم في خلخاله حرج ... فقلبه فارغ والقلب ملآن
يذكي الجوى بارد من ثغره شبم ... ويوقظ الوجد طرف منه وسنان
أن يمس ريان من ماء الشباب فلي ... قلب إلى ريقه المعسول ظمآن
بين السيوف وعينيه مشاركة ... من أجلها قيل للأغماد أجفان
وقول أبي الغنائم محمد بن علي المعروف بابن المعلم الواسطي:
هو الحمى ومعانيه ومغانيه ... فاحبس وعان بليلى ما تعانيه
لا تسأل الركب والحادي فما سأل العشاق قبلك من ركب وحاديه
ما في الصحاب أخو وجد تطارحه ... حديث نجد ولا صب تجاريه
إليك عن كل قلب في أماكنه ... ساه وعن كل دمع في أماقيه
وقوله أيضاً من أخرى:
ردوا علي شوارد الأظعان ... ما الدار إن لم تغن من أوطاني
ولكن بذاك الجزع من متمنع ... هزأت معاطفه بغصن البان
ألوى تلونه بأول موعد ... فمن الكفيل لنا بوعد ثاني
ومتى اللقاء ودونه من قومه ... أبناء معركة وأسد طعان
نقلوا الرماح وما أظن أكفهم ... خلقت لغير ذوابل المران
وتقلدوا بيض السيوف فما ترى ... في الحي غير مهند وسنان
ولئن صددت فمن مراقبة العدى ... ما الصد عن ملم ولا سلوان
يا ساكني نعمان أين زماننا ... بطويلع يا ساكني نعمان
وقول أبي الحسن علي بن محمد بن بسام المعروف بالبسامي الشاعر:
لله أيام الشباب ولهوه ... لو أن أيام الشباب تباع
فدع الصبا يا قلب واسل عن الهوى ... ما فيك بعد مشيبك استمتاع
(1/289)
________________________________________
وقول أبي منصور علي بن الحسن المعروف بصردر من قصيدة:
نسائل عن ثمامات بحزوى ... وبان الرمل يعلم ما عنينا
فقد كشف الغطاء فما نبالي ... أصرحنا بذكرك أم كنينا
ولو أني أنادي يا سليمى ... لقالوا ما عنيت سوى لبينى
وقول الأمير ناصر الدين محمد وهو من المرقص:
قلب المتيم كاد أن يتفتتا ... فإلى متى هذا الصدود إلى متى
يا معرضين عن المشوق تلفتوا ... فعوائد الغزلان أن تتلفتا
كنا وكنتم والزمان مساعد ... لله ذاك الشمل كيف تشتتا
صد وبعد واشتياق دائم ... ما كل هذا الحال يحمله الفتى
وعدوا من الانسجام المرقص أيضاً قول ابن الدباغ:
يا رب أن قدرته لمقبل ... غيري فللمسواك أو للأكؤس
ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث ... يا رب فلتك شمعة في المجلس
وإذا حكمت لنا بعين مراقب ... يا رب فلتك من عيون النرجس
وذيل عليها الشيخ عبد الرحمن الخياري من أهل العصر فقال:
ولئن قضيت لجسمه بملامس ... يا رب فليك من سني الأطلس
وذيل عليه آخر فقال:
ولئن قضيت لنا بصوت مطرب ... فمن الحمائم في الليالي الحندس
وذيلت عليه أنا فقلت:
ولئن قضيت لنا بشرب مدامة ... يا رب فلتك من لماه الألعس
وقول أبي عبد الله أحمد بن محمد المعروف بابن الخياط الدمشقي:
يا نسيم الصبا الولوع بوجدي ... حبذا أنت إن مررت بنجد
أجر ذكري نعمت وأنعمت غرامي ... بالحمى ولتكن يدا لك عندي
ولقد رابني شذاك فبالله متى عهد بأطلال هند
إن يكن عرفها امتطاك إلينا ... فلقد زرتنا بأسعد سعد
يا خليلي خلياني وهمي ... أنا أولاكما بغيي ورشدي
لو أمنت الملام والذم ما اخ ... ترت وقوفي على المنازل وحدي
ولقد أصحب المراح إلى اللذ ... ات ملقى الوشاح أسحب بردي
بين دعج من الظباء ونعج ... ولدان من الحسان ملد
في زمان من الشبيبة مصقو ... ل وعيش من البطالة رغد
وقوله في صدر أخرى وهي من مشهور شعره:
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ... فقد كاد رياها يطير بلبه
وإياكما ذاك النسيم فإنه ... متى هب كان الوجد أيسر خطبه
خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق ذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه
وفي الركب مطوي الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبه
إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تضمن منها داءه دون صحبه
ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من أعراضه مثل حجبه
أغار إذا آنست في الحي أنه ... حذارا وخوفا أن تكون لحبه
وقد طويت كشحا عن إيراد ما لكثير من المتأخرين, كالبلهاء زهير, والحاجري وابن الفارض, وابن النبيه, والتلعفري وابن نباته, والصفي الجلي, والتلمساني وابن الجهني وأمثالهم, وما ذلك إلا لاشتهار دواوينهم, وتداول أشعارهم.
فلنذكر طرفا مما وقع لأهل العصر في هذا الباب, ونمتع بلذتها الأسماع والألباب, فإن لكل جديد لذة, خصوصاً إذا كان من النوادر الفذة.
فمن ذلك قول الشيخ العلامة بهاء الدين محمد بن حسين العاملي:
خلياني بلوعتي وغرامي ... يا خليلي واذهبا بسلام
قد دعاني الهوى فلباه لبي ... فدعاني ولا تطيلا ملامي
خامرت خمرة المحبة عقلي ... وجرت في مفاصلي وعظامي
أيها السائر الملح إذا ما ... جئت نجدا فعج بوادي الخزام
وتجاوز عن ذي المجاز وعرج ... عادلا عن يمين ذاك المقام
وإذا ما بلغت حزوى فبلغ ... جيرة الحي يا أخي سلامي
وأنشدن قلبي المعنى لديهم ... فلقد ضاع بين تلك الخيام
وإذا ما رثوا لحالي فسلهم ... أن يمنوا ولو بطيف منام
يا نزولا بذي الأرك إلى كم ... تنقضي في فراقكم أعوامي
ما سرت نسمة ولا ناح في الدو ... ح حمام إلا وحان حمامي
أين أيامنا بشرقي نجد ... يا رعاها الإله من أيام
حيث غصن الشباب غض وروض العيش قد طرزته أيدي الغمام
(1/290)
________________________________________
وزماني مساعد وأيادي ال ... لهو نحو المنى تجر زمامي
ومن المرقص قول الأديب حسين ***ي بن الجزري الشامي:
اغمدا شبا مرهفك الباتر ... بالسيف لا حاجة للساحر
لحظك أمضى منه فينا شب ... ما أقتل الفاتك بالفاتر
يا قمرا أشرق من فرعه ... الزاهي على غصن نقا زاهر
أهديت لي السهد وفرط البكا ... أمرك محمول على الناظر
ويا غزالا آنسا نافرا ... ما عهدنا بالآنس النافر
لا تقس قلبا وتلن جانبا ... فهذه من شيم الغادر
ولا تطع واشيك في عذله ... فالعذل لا يؤخذ من جائر
كم ليلة سامرت فيه السها ... شوقا إلى لقياك يا هاجري
لا سامح الله ليالي الهوى ... فإنها أظلم من كافر
أهيم أن هبت نسيم الصبا ... وليل من هام بلا آخر
تقصر للراقد في هجعة ... وطالما طالت على الساهر
وقول أبي الطيب بدر الدين رضي الدين الغزي العامري الشامي:
هات اسقني حلب العصير ولا سوى ... زهر النجوم تجاه زهر المجلس
أنظر إليه كأنه متبرم ... مما تغازله عيون النرجس
وكأن صفحة خده ياقوته ... وكأن عارضه خميلة سندس
وقول الخفاجي:
أتظن الورق في الأيك تغني ... إنما تضمر حزنا مثل حزني
لا أراك الله نجدا بعدها ... أيها الحادي بها إن لم تجبني
هل تباريني إلى بث الجوى ... في دياري الحي نشوى ذات غصن
هب لها السيبق ولكن زادنا ... أننا نبكي عليها وتغني
يا أهيل الخيف هل من عودة ... يسمح الدهر بها من بعد ضن
أرضينا بثنيات اللوى ... عن زرود يا لها صفقة غبن
سل أراك الجزع هل مرت به ... مزنة روت ثراه غير جفني
وأحاديث الغضا هل علمت ... أنها تملك قلبي قبل أذني
وقول الشيخ الأديب الأريب عبد العلي بن ناصر بن رحمة الحويزي:
لمن العيس عشيا تترامى ... تركتها شقق البين سهاما
كلما برقعها نشر الصبا ... لبست من أحمر الدمع لثاما
وترامت خضعا أعناقها ... كلما هز لها البرق حساما
شفها جذب براها للحمى ... وهي تثني لربا نجد زماما
وتلقيها حديثا حاملا ... عن ثرى وجرة أنفاس الخزامى
ما على من حملت لو وقفوا ... ساعة نشرح وجدا وغراما
ومن الجهل ارتجائي يقظة ... أربا لا أترجاه مناما
يا بني عذرة هل من آخذ ... بدمي المسفوك من حل الخياما
قمرا لو لم ير البدر دجى ... ما حوى البدر كمالا وتماما
غادرا لم يرع مني نسبا ... دون أن يحفظ عهدا وذماما
نسبا أيسره أن الحشا ... مثل خديه لهيبا واضطراما
ولجسمي من بقايا حبه ... شبه الطرف فتورا وسقاما
يا نديمي دعا خمريكما ... أن أراق الحب من فيه مداما
وانثني يا قضيب البان إذا ... رنحت سكرى اللمى ذاك القواما
وانس يا روض أقاحيك بها فلقد لاح لنا الثغر ابتساما
أيها الظاعن عن عيني وفي ... مهجتي بوء ربعا ومقاما
عاقب الله بأدهى صصم ... أذني إن سمعت فيك ملاما
وقوله أيضاً في صدر أخرى:
لمع البرق في أكف السقاة ... وبدا الصبح من سنى الكاسات
فالبدار البدار حي على الرا ... ح وهبوا لأكمل اللذات
نار موسى بدت فأين كليم الذات يمحو بها حجاب الصفات
صاح ديك الصباح يا صاح بالراح فوات الأفراح قبل الفوات
واصطحباه اصطباح من راح لا يف ... رق بين الشموس والذرات
تلق فيها العقول منتقشات ... كانتقاش الأشخاص في المرآة
فهي الشربة التي عثر الخض ... ر عليها في عين ماء الحياة
وتقصى الإسكندر البحث عنها ... فعداها وتاه في الظلمات
سكنت حظائر القدس حانا ... جل عن أن يقاس بالحانات
نور حق بنفسه قام ما أحتا ... ج إلى كوة ولا مشكاة
قبس أشعلته أيدي التجلي ... فأضاءت به جميع الجهات
حجبت بالزجاج وهي عيان ... كاحتجاب البدور بالهلات
يا نديمي اجل لي عرائس سر ... بغواشي الكؤوس محتجبات
هات راحي وناد خذها فإني ... لست أنسى يوم اللقا خذ وهات
(1/291)
________________________________________
فلقد هد ركن نحسي لما ... سعدت ب****** كل جهاتي
يا سقاتي لا تصرفوا الصرف عني ... فحياتي في رشفها يا سقاتي
هي شهد الشهود بل راحة الأر ... واح بل حسن طلعة الحسنات
غير بدع ممن حساها إذا ارتا ... ح وقال الوجود بعض هباتي
قام زين العباد من شربها قط ... با عليه دارت رحى البينات
وخطت بالجنيد لجة بدر ... غرقت فيه أكثر الكائنات
ورزت بالحسين حتى ترقى ... فأن المحق أرفع الدرجات
اسمعتنا من شيخ بسطام ما أع ... ظم شاني بالنفي والإثبات
وقصارى خلع العذار بهل ني ... ل مقام يقاوم المعجزات
ومن الانسجام المرقص قول شيخي العلامة المحقق, محمد بن علي بن محمود الشامي العاملي قدس الله روحه, وجعل من الرضوان غبوقه وصبوحه, وهو أستاذي الذي أخذت عنه في بدء حالي, وأنضيت إلى موائد فوائده يعملات رحالي, واشتغلت عليه فاشتغل بي, وكان دأبه تهذيب أدبي ووهبني من فضله مالا يضيع, وحنا علي حنو الظئر على الرضيع, حتى شحذ من طبعي مرهفا, وبرى من نبعي مثقفا, وكان قطب الفضل الذي عليه مداره, وإليه إيراده وإصداره. وأما الأدب فهو مناره السامي, وملتزم كعبته وركنه الشامي, ينشر منه ما هو أذكى من النشر في أثناء النواسم, بل أحلى من الظلم يترقرق في ثنايا المباسم, ونظمه أبهى من نظيم الدر الباهر, وألذ من الغمض في مقلة الساهر. إن ذكرت الرقة فهو سوق رقيقها, أو الجزالة فهو سفح عقيقها, أو الانسجام فهو غيثه الصيب, أو السهولة فهو نهجها الذي تنكبه أبو الطيب.
وقوله المشار إليه وهو:
أنت يا شغل المحب الواجد ... قبلة الداعي ووجه المقاصد
فت آرام الفلا حسنا فما ... قابلت إلا بطرف جامد
شأن قلبينا إذا صح الهوى ... يا حياتي شأن قلب واحد
أكثر الواشون فينا قولهم ... ما علينا من مقال الحاسد
لست أصغي لا راجيف العدا ... من يغالي في المتاع الكاسد
وقوله أيضاً:
يا خليلي دعاني والهوى ... أنني عبد الهوى لو تعلمان
عرجا نقضي لبانات الهوى ... في ربوع أقفرت منذ زمان
مربع أولع عيني بالبكا ... أمر العين به ثم نهاني
وقصارى الخل وجد وبكا ... فأبكياني قبل أن لا تبكياني
يا عريبا منحناهم أضلعي ... وغضاهم نار شوق في جناني
إن قلبا أنتم سكانه ... ضاع مني بين شعب والقنان
وقوله أيضاً من قصيدة:
باجتلاء المدام والأقداح ... وبمرآة وجهك الوضاح
لا تذرني على مرارة عيشي ... أكل واش ولا فريسة لاح
صاح كلني إلى المدام ودعين ... والليالي تجول جول القداح
لا تخف جور حادثات الليالي ... نحن في ذمة الظبا والرماح
صاح إن الزمان أقص عمرا ... من بكاء في دمنة ونواح
رق عنا ملاحف الجو فاسمح ... برقيق من طبعك المرتاح
يا مليك الملاح إن زمانا ... أنت فيه زمان روح وراح
طاب وقت المدام فاشرب عساه ... يا صاحبي يطيب وقت الصباح
واسقنيها سقيت في فلق الفج ... ر على نغمة الطيور الفصاح
لا تؤآخذ جفونه بفؤادي ... يا إلهي كلاهما غير صاح
وقوله:
ما أنس ولا أنس خيالا سرى ... يسترشد الشوق إلى مضجعي
حسبت بدر التم قد زارني ... فبت لا أقفو سوى المطلع
أسأل عنه الشوق لا يرعوي ... وأنشد البين به لو يعي
آليت والدار لها حرمة ... لا أسأل الدار وصبري معي
كأن دمي حجراً على حاجر ... فلم أباحته مها الاجرع
علالة كان وقوفي بها ... أبغي شفا القلب من الموجع
وقوله من أخرى:
نسخت سحر بابل مقلتاه ... فتنب في فترة الأجفان
في ربوع كأنهن جنان ... عطفت حورها على الولدان
ورياض كأنهن سماء أطلعت أنجما من الأقحوان
بين ورق كأنهن نشاوى ... يترقصن عن قدود الغواني
وأقاح كأنهن ثغور ... يتبسمن في وجوه الجنان
ونسيم الصبا يصح ويعتل على برده وحر جناني
كلما غنت البلابل فيها ... رقص الدمع بالبكا أجفاني
عطفتني على الرياض قدود ... خلعت لينها على الأغصان
(1/292)
________________________________________
يتلقاني الاقاح بنشر ... غصون النقا علي حوان
قل لعتب وما أظن نوالا ... عند عتب لواجد أسيان
أين قلبي لا أين إلا طلولا ... أذهبتها الرياح منذ زمان
أذكرتني معاهدا وربوعا ... كاد يدمى لذكرهن بناني
حيث غصني من الشباب رطيب ... وعيون المها إلي رواني
أطرد النوم عن جفون نشاوى ... بحديث أرق من جثماني
وقواف لو ساعد الجد نيطت ... موضع الدر من رقاب الغواني
سائرات بيوتهن على الأل ... سن سير الأمثال في البلدان
قصد كالفرند في صفحات ... الدهر أو كالشنوف في الآذان
عاصيات على الطباع ذلول ... يتغنى بهن في الركبان
ساقطت والنوى يطل علينا ... من عيون المها حصى المرجان
أنظر أيها المتأمل إلى انسجام هذا الكلام, وشرف هذا النظام, لتعلم مصداق (كم ترك الأول للآخر) ويقف العقل حسير دون لج الفيض الزاخر.
ومن ذلك قوله أيضاً:
لثموا موشى العصب فوق بدور ... وتنقبوا بالنور فوق النور
وفروا جلابيب الظلام ودونهم ... سوران سور قنا وسور خدور
يزجون مهزوز القوام إذا مشى ... جالت عليه مناطق الزنبور
نشوان من خمر الشبا وحى به ... سكران سكر صبا وسكر غرور
لاطفته سحرا فبرقعه الحيا ... بالورد فوق صفائح البلور
هل ركبوا الخيلان وجناته ... أم فتتوا مسكا على كافور
قمر يفور النور من أطواقه ... فكأنها فوارة للنور
أو غادة نظرت بعيني شادن ... وتلفتت عن ناظري مذعور
قال وقد عجبت لشيب مفارقي ... هذا البياض قذى عيون الحور
فأجبتها والبين يخلج صدرها ... إن المشيب جلا صدا المأثور
لله ليلتنا وقد لف الهوى ... منا قواما ذابلا بنضير
حيت فأحيت بالمدام معاشرا ... حضروا وما ألبابهم بحضور
في حبهم صرعى وما حضروا وغى ... نشوى وما مزجوا الهوى بخمور
أنظر إلى الورد الجني كأنه ... متبرم من رنة الشحرور
والنرجس الغض الشهي كأنه ... يرنو إليه عن عيون غيور
في روضة لعب الصبا بغصونها ... لعب الصبا بمعاطف وخصور
أصبا الأصايل لا كبت بك عثرة ... كم عقبة لك في جيوب الحور
لله درك إن مررت على اللوى ... حلي عري جيب الحيا المزرور
وقوله أيضاً من أخرى:
ليت التي بعثت إلي خيالها ... أذنت لعيني أن تذوق كراها
ما انسها لا انس ليلة أقبلت ... والدل يمزج سخطها برضاها
فالدعص ما عقدت عليه إزارها ... والغصن ما زرت عليه قباها
ولرب نفس مثل نفسي حرة ... ضربت عليها النائبات خباها
تالله لولا أن يعنفني الهوى ... لا صاب بعدهم الأساة دواها
***ت إلى الشامي أسباب الردى ... لو أنها في كفه لرماها
وقوله أيضاً:
على رسلك يا صاح ... فما أنت وأتراحي
وما شأنك والواشي ... وما خطبك والملاحي
فهب قلبك للساقي ... وهب عقلك للراح
وخذ أهبة مشتاق ... وثب وثبة مرتاح
فمن عالم أشباح ... إلى عالم أرواح
وقوله من أبيات:
بعث طيفها إلي وأخرى الشوق في قلبها وأولاه عندي
ثم قالت لتربها ليت شعري ... كيف حال الشامي يا مي بعدي
إن بي فوق ما به من هواه ... غير أني أخفي هواه ويبدي
ما درت أنني وإن طال وجدي ... في هواها نسيج وحدي وحدي
وقوله أيضاً:
إذا أبصرت شخصك قلت بدر ... يلوح وأنت إنسان العيون
جرى ماء الحياة بفيك حتى ... أمنت عليك من ريب المنون
وقوله من قصيدة, وهو من إحسانه المشهور:
وقد جعلت نفسي تحن إلى الهوى ... حلا فيه عيش من بثينة أو مرا
وأرسلت قلبي نحو تيماء رائدا ... لي الخفرات البيض والشدن العفرا
تعرف منها كل لمياء خاذل ... هي الريم لولا أن في طرفها فترا
من الظبيات الرود لو أن حسنها ... يكلمها أبدت على حسنها كبرا
وآخر أن عرفته الشوق راعني ... بصد كأني قد أبنت لو وترا
أناشد فيه البدر والبدر غائر ... وأسأل عنه الريم وهو به مغرى
(1/293)
________________________________________
فما ركب البيداء لو لم يكن رشا ... ولا صدع الديجور لو لم يكن بدرا
لحاظ كأن ***** فيها علامة ... تعلم هاروت الكهانة و*****ا
وقد هو الغصن الرطيب كأنما ... كسته تلابيب الصبا ورقا نضرا
رتقت على الواشين فيه مسامعا ... طريق الردى منها إلى كبدي وعرا
أعاذلتي واللوم لؤم ألم تري ... كأن بها عن كلا لائمة وقرا
بفيك الثرى ما أنت والنصح إنما ... رأيت بعينيك الخيانة والغدرا
وما للصبا يا ويح نفسي من الصبا ... تبيت تناجي طول ليلتها البدرا
تطارحه القول حق وباطل ... أحاديث لا تبقي لمستودع سرا
وتلقي على النمام فضل ردائها ... فيعرف للأشواق في طيها نشرا
تعانقها خوف النوى ثم تنثني ... تمزق من غيظ على قدك الأزرا
ألما ترى بأن النقا كيف هذه ... تميل بعطفيها حنوا على الأخرى
وكيف وشى غصن إلى غصن هوى ... وأبدى فنونا من خيانته تترى
فمن غصن يومي إلى غصن هوى ... ومن رشأ يوحي إلى رشأ ذكرى
هما عذلاني في الهوى غير أنني ... عذرت الصبا لو تقبلين لها عذرا
هبيها فدتك النفس راحت تسره ... إليه فقد أبدته وهي به سكرى
على أنها لو شايعت كثب النقا ... وريح الخزامى إنما حملت عطرا
ولنكتف من لطائفه بهذا المقدار طلبا للاختصار, فإن محاسنها لا تنتهي حتى ينتهي عنها, ولا تقف حتى يوقف عليها.
ومن لطائف الانسجام قول الشيخ الفاضل الحكيم حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي رحمه الله, في صدر قصيدة يمدح بها الوالد رحمة الله تعال:
سرت والليل محلول الوشاح ... ونسر الجو مبلول الجناح
وثغر الشرق يبسم عن رياض ... مكللة الجوانب بالأقاح
كأن المشتري والنجم ساق ... يدير على الندامى كأنه كأس راح
فوا عجبا وهل يخفي سراها ... وقد أرجت برياها النواحي
من البيض الحسان إذا تجلت ... تخال جبينها فلق الصباح
مهفهفة يغار البدر منها ... ويخجل قدها هيف الرماح
أبث لطرفها شكوى غرامي ... وهل يشكو الجريح إلى السلاح
واطمع أن يزايلني هواها ... ومن ينجو من القدر المتاح
فلا تأوي لكسرة ناظريها ... فكم أودت بألباب صحاح
أحن إلى هواها وهو حتفي ... كمجروح يداوى بالجراح
ولا وأبيك ليس الحب سهلا ... فكم جد تولد من مزاح
خلقت من الغرام فلا أبالي ... أكان به فسادي أم صلاحي
ولولا تمسك الأطمار جسمي ... لطار من النحول مع الرياح
وحب الغانيات حياة روحي ... وراحتها وريحاني وراحي
ومن الانسجام المطرب قول الشيخ الأديب محمد بن سيعد باقشير المكي رحمه الله:
ألآل ما أرى أم حبب ... أم أقام لا ولكن شنب
حرمت وهي حلال قد جرى ... في خلال الطلع منها الضرب
ما درى بارق ذياك اللمى ... أن لي قلبا به يلتهب
دع لما قد نقل الراوي لنا ... عن لماه ما روته الكتب
آه ما أعذبه من مبسم ... وهو لو جاد به لي أعذب
ليت لو أن منالا منه لي ... غير أن البرق منه خلب
جؤذر يرنو بعيني أغيد ... من مها الرمل أغن أغلب
ومحيا كلف الحسن به ... فغدا ينشد أين المذهب
هز عطفيه فلم يدر النقا ... أقنا ما هزه أم قضب
رق فاستبعد ألباب الورى ... فله في كل قلب ملعب
يا لها من نعمة في ضمنها ... مهلك هان وعز المطلب
وهذا فصل عقدته لما وقع من الانسجام في أشعار العترة النبوية, والسلالة العلوية, التي يلوح عليها سيماء النبوة والخلافة, ويفوح منها ريا السيادة والشرافة. وإنما أفردته عما سبق, وميزته طبقا عن طبق, لتعلم أن الحصباء ليست كالدرر, والحجول وأن اتضحت دون الغرر.
فمن المطرب المرقص قول السيد أبي محمد بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام:
بيض حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرم
يحسبن من لين الكلام فواسقا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام
وقول الشريف أبي عبد الله محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض المذكور:
(1/294)
________________________________________
طرب الفؤاد وعاودت أحزانه ... وتلعبت شعبا به أشجانه
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهنا لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنع أركانه
فمضى لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه وصده سبحانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه
وقول السيد علي بن محمد بن محمد بن زيد الشهيد المعروف بالحماني:
لنا من هاشم هضبات مجد ... مطبنة بأبراج السماء
تطوف بنا الملائك كل يوم ... ونكفل في حجور الأنبياء
ويهتز المقام لنا ارتياحا ... ويلقانا صفاه بالصفاء
وقوله:
وإنا لتصبح أسيافنا ... إذا ما انتضين ليوم سفوك
منابرهن بطون الأكف ... وأغمادهن رؤوس الملوك
وقوله:
لقد فاخرتنا من قريش عصابة ... بمط خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا الفخار قضى لنا ... عليهم بما نهوى نداء الصوامع
ترانا سكوتا والشهيد بفضلنا ... عليهم جهير الصوت في كل جامع
ومن نسيبه المرقص قوله:
يا شادنا أفرغ من فضه ... في خده تفاحة غضة
كأنما القبلة في خده ... بالحسن من رقته عضه
يهتز أعلاه إذا ما مشى ... وكله في لينه قبضه
أرحم فتى لما تملكته ... أقر بارق فلم ترض
وقوله أيضاً:
بأبي فم شهد الضمير له ... قبل المذاق بأنه عذب
كشهادتي لله خالصة ... قبل العيان بأنه الرب
والعين لا تغني بنظرتها ... حتى يكون دليلها القلب
وقوله:
كأن هموم الناس في الأرض كلها ... علي وقلبي بينهم قلب واحد
ولي شاهدا عدل سهاد وعبرة ... وكم مدع للحق من غير شاهد
وقوله:
وجه هو البد إلا أن بينهما ... فضلا تحير عن حافاته النور
في وجه ذاك أخاليط مسودة ... وفي مضاحك هذا الدر منثور
حدث بعض الصالحين قال: لقيت علي بن محمد الحماني المذكور بالكوفة بعد خلاصه من حبس الموفق - وكان قد حبس مرتين, مرة لكفالته بعض أهله, ومرة لسعاية عليه - وهنأته بالسلامة, وقلت له, قد عدت إلى وطنك الذي تلذه, وإخوانك الذين تحبهم. فقال: يا أبا علي, ذهب الأتراب والشباب والأصحاب.
وأنشد:
هبني بقيت على الأيام والأبد ... ونلت ما شئت من مال ومن ولد
من لي برؤية من قد كنت آلفه ... وبالزمان الذي ولى ولم يعد
لا فارق الهم قلبي بعد فرقتهم ... حتى يفرق بين الروح والجسد
والحماني بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم وبعد الألف نون. قال السمعاني في الأنساب هذه النسبة إلى حمان وهي قبيلة من تميم نزلوا الكوفة. قال صاحب العمة كان جده ينزل بالكوفة في بني حمان وتخفيف الميم فهو تصحيف لا يعول عليه والله أعلم.
ومن المرقص في هذا الباب قول الشريف المرتضى ذي المجدين أبي القاسم علي بن أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي:
يا خليلي من ذؤابة قيس ... في التصابي رياضة الأخلاق
علاني بذكرها تطرباني ... واسقياني دمعي بكأس دهاق
وخذا النوم عن جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
لما وصلت هذه الأبيات إلى البصري الشاعر قال: المرتضى خلع مالا يملك على من لا يقبل.
وحي عن الشريف المرتضى المذكور أنه كان جالساً في علية له تشرف على الطريق, فمر به المطرز الشاعر يجر نعلاً له بالية وهي تثير الغبار, فأمر بإحضاره ثم قال له أنشدني أبياتك التي تقول منها:
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا
فانشده إياها, فلما انتهى إلى هذا البيت أشار الشريف إلى نعله البالية وقال: هذه كانت من ركائبك؟ فاطرق المطرز ساعة ثم قال: لما عادت هبات سيدنا الشريف إلى مثل قوله:
وخذا النوم عن جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
عادت ركائبي إلى مثل ما يرى, فإنه خلع مالا يملك على من لا يقبل. فاستحيا الشريف ووصله.
سرى مغرما بالعيس ينتجع الركبا ... يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا
على عذبات الجزع من ماء تغلب ... غزال يرى ماء العيون له شربا
(1/295)
________________________________________
إذا ملأ البدر العيون فإنه ... لعمرك بدر يملأ العين والقلبا
ومن المرقص أيضاً قول المرتضى المذكور:
قل لمن خده من اللحظ دام ... رق لي من جوانح فيك تدمى
يا سقيم الجفون من غير سقم ... لا تلمني أن مت منهن سقما
أنا خاطرت في هواك بقلب ... ركب البحر فيك أما وأما
ومن المطر قوله أيضاً:
أحب ثرى نجد ونجد بعيدة ... ألا حبذا نجد وإن لم تفد قربا
يقولون نجد لست من شعب أهلها ... وقد صدقوا لكنني منهم حبا
كأني وقد فارقت نجدا شقاوة ... فتى ضل عنه قلبه ينشد القلبا
وقوله:
مولاي يا بدر كل داجية ... خذ بيدي قد وقعت في اللجج
حسنك ما تنقضي عجائبه ... كالبحر حدث عنه بلا حرج
بحق من خط عارضيك ومن ... سلط سلطانها على المهج
مد يديك الكريمتين معا ... ثم ادع لي من هواك بالفرج
وقوله:
ولما تفرقنا كما شاءت النوى ... تبين ود خالص وتودد
كأني وقد سار الخليط عشية ... أخو جنة مما أقوم وأقعد
وقوله:
قل لمغر بالصبر وهو خلي ... وجميل العذول ليس جميلا
ما جهلنا أن السلو مريح ... لو وجدنا إلى السلو سبيلا
وقوله:
ألا يا نسيم الريح من أرض بابل ... تحمل إلى أهل الخيام سلامي
وقل لحبيب فيك بعض نسيمه ... أما آن أن تستطيع رجع كلامي
وأني لأرضى أن أكون بأرضكم ... على أنني منها استفدت سقامي
وقوله:
قل للذين على موا ... عدهم لنا خلف ومطل
كم ضامني من لا أضي ... م وملني من لا أمل
يا عاذلا لملامه ... كل على سمعي وثقيل
إن كنت تأمر بالسلو فقل لقلبي كيف يسلو
قلبي رهين في الهوى ... أن الهوى سقم وذل
وتعجبت جمل لشي ... ب مفارقي وتشيب جمل
ورأت بياضا في سوا ... د ما رأته هناك قبل
كذبالة رفعت على ال ... هضبات للسارين ضلوا
لا تنكريه ويب غير ... ك فهو للجهلات غل
ومن المقص أيضاً قول أخيه الشريف أبي الحسن الرضي رضي الله عنه:
يا روض ذي الاثل من شرقي كاظمة ... قد عاود القلب من ذكراك أشجانا
أشم منك نسيما لست أعرفه ... أظن ظيماء جرت فيك أردانا
ألقاك والقلب صاح من رحيق هوى ... وأنثني عنك بالأشواق نشوانا
وما تداويت من قرح على كبدي ... ولا سقاني راقي الحب سلوانا
وقوله:
خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى ... فلاقي بها ليلا نسيم ربى نجد
فإن بذاك الجو حيا عهدته ... وبالرغم مني أن يطول به عهدي
ولولا تداوي القلب من ألم الجوى ... بذكر تلاقينا قضيت من الوجد
وقوله:
أحبك ما أقام منى وجمع ... وما أرسى بكمة أخشباها
وما اندفع الحجيج إلى المصلى ... يجرون المطي على وجاها
وما نحروا بخفيف منى وكبوا ... على الأذقان مشعرة ذراها
نظرتك نظرة بالخيف كانت ... جلاء العين بل كانت قذها
ولم يكن غير موقفنا وطارت ... بكل قبيلة منا نواها
فواها كيف تجمعنا الليالي ... وآها من تفرقنا وآها
وقوله:
يا ليلة كرم الزمان.. ... .. بها لوان الليل باق
كان اتفاق بيننا ... جار على غير اتفاق
فاستروح المشتاق من ... زفرات هم واشتياق
حتى إذا نست رياح ال ... صبح تؤذن بالفراق
برد السوار لها فأحميت القلائد بالعناق
وقوله:
عارضا بي ركب الحجاز أسائله متى عهده بأعلام جمع
واستملا حديث من سكن الخي ... ف ولا تكتباه إلا بدمعي
فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي
يا غزالا بين النقا والمصلى ... ليس تقوى على نبالك درعي
كلما سل من فؤادي سهم ... عاد سهم لكم مضيض الوقع
من معيد أيام سلع على ما ... كان منها وأين أيام سلع
وقوله:
أيها الرائح المجد تحمل ... حاجة للمتيم المشتاق
أقر عني السلام أهل المصلى ... فبلاغ السلام بعض التلاقي
وإذا ما مررت بالخيف فاشهد ... أن قلبي إليه بالأشواق
(1/296)
________________________________________
وابك عني فطالما كنت من قب ... ل أعير الدموع للعشاق
حكى أبو الحسن العمري قال: دخلت على الشريف المرتضى, فأراني بيتين قد عملهما وهما:
سرى طيف سعدى فارقا فاستفزني ... هبوبا وصحبي بالفلاة هجود
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالا طارقا سيعود
فخرجت من عنده ودخلت على أخيه الرضي, فعرضت عليه البيتين فقال بديها:
فردت جوابا والدموع بوادر ... وقد آن للشمل المشت ورود
فهيهات من لقيا حبيب تعرضت ... لنا دون لقياه مهامه بيد
فعدت إلى المرتضى بالخبر فقال: يعز علي, أخي قتله الذكاء, فما كان إلا يسير حتى مضى الرضي لسبيله.
ومن المرقص قول السيد أبي الحسن محمد بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم طباطبا الحسني:
بانوا وأبقوا في حشاي لبينهم ... وجدا إذا ظعن الخليط أقاما
لله أيام السرور كأنما ... كانت لسرعة مرها أحلاما
لو دام عيش رحمة لأخي هوى ... لأقام لي ذاك السرور وداما
يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا ... عاما ورد من الصبا أياما
وقوله في طول الليل:
كأن نجوم الليل سارت نهارها ... فوافت عشاء وهي انضاء أسفار
وقد خيمت كي يستريح ركابها ... فلا فلك جار ولا كوكب سار
وما أحسن قوله في العفاف:
الله يعلم ما أتيت خنى ... أن لا مني العذال أو سفهوا
ماذا يعيب الناس من رجل ... خلص العفاف من الأنام له
يقضانه ومنامه شرع ... كل بكل منه مشتبه
إن هم في حلم بفاحشة ... زجرته عفته فينتبه
ومنه قول الشريف أبي القاسم أحمد بن محمد بن إسماعيل بن طباطبا:
خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على ريب الزمان لواجد
أيبقى جميعا شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد
وقوله:
قالت لطيف خيال زارني مضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال أبصرته لو مات من ظمأ ... وقلت قف لا ترد للماء لم يرد
قالت صدقت وفاء الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
وقول السيد ذي المجدين أبي القاسم علي بن موسى الموسوي نقيب النقباء بمرو:
يا أضعف العالمين وصلا ... وأسعف الناس بالفراق
ومن غرامي به شديد ... ليس يداوي بألف راق
إن كان لابد من فراق ... فعن وداع وعن عناق
وزورة ترغم الأعادي ... وخلوة حلوة المذاق
ومن المطرب قول السيد شرف السادة محمد بن عبيد الله الحسيني البلخي من قصيدة:
أشبه الغصن إذ قدا ... وحكى الورد إذ تفتح خدا
وثنى للوداع في حومة البي ... ن بنانا يكاد يعقد عقدا
لست أنسى وإن تقادم عهدا ... عهد أحبابنا بنجد ونجدا
حين غصن الشباب غض ونجم ال ... وصل سعد بحسن إسعاد سعدى
وغزال قد أورث البدر غيظا ... وجهه الطلق والغزالة حقدا
ألف الصد والتجنب حتى ... علم الطيف في الكرى أن يصدا
فسقى عهده العهاد وإن لم ... يقض لنا ولم يرع عهدا
وقوله وهو في معنى غريب:
شد النطاق بخصره ... فغدا فريدا في جماله
يجبى اللجين من الجبال ... فكيف عاد إلى جباله
وقول السيد أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عبيد الله البلخي بن أخي المذكور قبله رحمهما الله:
وكم مضى ليل على أبرق الحمى ... مضيء ويوم بالمسرة مشرق
تسرَّقت فيه اللهو أملس ناعما ... وأطيب عيش المرء ما يتسرق
ويا حسن طيف قد تعرض موهنا ... وقلب الدجى من صولة الصبح يخفق
تنسمت رياه قبيل وروده ... وما خلته يحنو علي ويشفق
ومنه قول السيد أبي المحاسن إسماعيل بن حيدر العلوي رحمه الله:
أفي الصبا أشتاق وصل الصبا ... كلا ولكن معالي شيب
لو أن ما حملته همتي ... حمل رضوى لاعتراه المشيب
ومن المرقص قول السيد أبي البركات علي بن الحسين بن جعفر الحسيني:
وأغيد سحار بألحاظ عينه ... حكى لي تثنيه من البان أملودا
سلخت بذكراه عن الصبح ليلة ... أنادمه والكأس والناي والعودا
ترى أنجم الجوزاء والنجم فوقها ... كباسط كفيه ليقطف عنقودا
(1/297)
________________________________________
ومنه قول السيد الإمام أبي الرضا ضياء الدين فضل الله بن علي بن عبد الله الراوندي من قصيدة:
سفرت لنا عن طلعة البدر ... إحدى الخرائد من بني بدر
فأجل قدر الليل مطلعها ... حتى تراءت ليلة القدر
لو أنها كشفت لآلئها ... من قولها والعقد والثغر
لأضاءت الدنيا لساكنها ... والليل في باكورة العمر
حتى يظن الناس أنهم ... هجم العشاء بهم على الفجر
وحديثها سحر إذا نطقت ... لو كان طعم الشهد للسحر
وحسبتها بدر التمام إذا ... حاذاك لولا كلفة البدر
يا لائمي كف الملام فقد ... غلب الغرام بها على الصبر
فوحق فاحمها الأثيث وهل ... في ذلكم قسم لذي حجر
إني إلى معسول ريقتها ... أظما من الصادي إلى القطر
عهدي بنا والوصل يجمعنا ... كالوز توأمتين في قشر
أقول: هذا تشبيه ليس في اللطف شبيه, وهو معنى بكر, ولم يفتضه قبله فكر في هذا الباب.
وقوله أيضاً:
آه لبرق أومضا ... هاج غرامي ومضى
كأنه لما بدا ... لمع سيوف تنتضى
أو التواء حية ... قتلته فنضنضا
ويا لريح نسمت ... من ساكني ذات الاضا
مريضة لم تستطع ... من ضعفها أن تنهضا
فاحتبست على الربى ... وكل نبت روضا
حتى غدت لطيمة ... مفضوضة على الفضا
يا برق يا ريح معا ... تركتماني حرضا
ما لكما أوقدتما ... على الحشا جمر الغضا
وا أسفا على الصبا ... أكان دينا يقتضي
عاد برغم معطسي ... ذاك الغداف أبيضا
وعاد حقي باطلا ... وعدا جسمي غرضا
لهفي على عهد الصبا ... أفلت عني وانقضى
جار عليه الشيب لما أن قضى فلا قضى
أظلمت الدينا على ... عيني لما أن أضا
من الذي أشكو إذا ... صار الطبيب ممرضا
آه على شبيبة ... إذا شدا أو قرضا
على مراثيها فقد ... أبقت بقلبي مرضا
وقوله أيضاً وهو من الحسن بمكان:
يا سقى الله عشيات الحمى ... بين أكناف النقا فالمنحنى
وليالي بجمع أنها ... فرص العمر وتارات المنى
بينما نحن معا نرتع إذ ... تركوا الخيف وأمو اليمنا
حرست بيضهم بيض الظبي ... ورعت سمرهم سمر القنا
وأتت عاذلتي باكرة ... أن رأتني صبا حلف ضنى
ثم لما أعجبتها نفسها ... وأذابت قلبي الممتحنا
حلفت لو أنني كنت أنا ... أنت لم أختر لروحي المحنا
قالت خليني وخلي عذلي ... ما أنا أنت ولا أنت أنا
ومنه قول ابنه السيد الإمام عز الدين علي بن أبي الرضا فضل الله الراوندي رحمه الله:
سلا عذبات رامة بل رباها ... سلاها لا عدمتكما سلاها
أنازحه فراجعة سليمى ... إليك أم استقر بها نواهاه
أما ومنى وزمزم والمصلى ... وأركان العقيق من بناها
لقد ألف الفؤاد هوى سليمي ... ولم يخلص إليه هوى سواها
وربة ليلة زهراء بتنا ... نروي من جوانحنا صداها
فلف الصبح أردية الدياجي ... ورف على مطارفنا نداها
فقامت تعقد الأزرار عجلى ... وقد حلت مدامعنا حباها
فتبكي تارة وتنوح أخرى ... أسى فلها بكاي ولي بكاها
وقوله أيضاً: يقولون أن الركب بعد غد غاد=فهل لفؤادي أن غدا الركب من فادي
يقولون لا قالوا ويحكون لا حكوا ... بأن غدا يحدو بضعنهم الحادي
فيا نفس فيضي لات حين تبلد ... ويا عين فيضي ليس ذا وقت ابلاد
فهذا ولما يخل منهم نديهم ... فكيف بأحوالي إذا ما خلا النادي
فديتك هل بعد الفراق تواصل ... وهل يرتجى التقريب من بعد إبعاد
هداني إليك الحب ثم أضلني ... فكيف احتيالي والمضل هو الهادي
دعاني الهوى سرا فلبيت جهرة ... وإن كان إضلالي إليه وإرشادي
فقال الحجى مهلا فقلت له مهٍ ... فإني في واد وإنك في واد
ومن المطرب قوله أيضاً:
ذكرتكم والشهب رزجى من السرى ... وكف الثريا للغرب تشير
فقلت لندماني قوما فعالجا ... فؤادا يسير الوجد حيث يسير
(1/298)
________________________________________
فقال إلى صب له من جوى النوى ... قرين ومن فرط الغرام عشير
له رنة من بعدها ألف رنة ... إليكم ومن بعد الزفير زفير
فقالا معا في السر ناد فؤاده ... فإن لم يعد لا عاد فهو أسير
نهل من فؤاد سالم نستعيره ... فإن فؤاد الهاشمي كسير
وقوله أيضاً:
سري طيفها والشهب صاح ونشوان ... وجنح الدجى في عرصة الجو حيران
وكف الثريا بالدعاء مليحة ... وصحن الثرى من عسكر الزنج ملآن
فأرقني بالوجد والركب جنح ... وأكثرهم من قهوة النوم سكران
ألا أيها الوجد الذي هو قاتلي ... ترفق قليلا إنما أنا إنسان
فلو أنه ما بي بثهلان بعضه ... لأصبح رجراج الذرى منه ثهلان
ومنه قول الشريف أبي السعادات هبة الله بن علي الحسني المعروف بابن الشجري البغدادي:
هذي السديرة والغدير الطافح ... فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح
يا سدرة الوادي التي هي ظلة ... الساري هداه نشرها المتفاوح
هل عائد قبل الممات لمغرم ... عيش تقضى في ظلالك صالح
ومنها:
ولقد مررنا بالعقيق فشاقنا ... فيه مراتع للمها ومسارح
ظلنا بها نبكي فكم من مضمر ... وجدا أذاع هواه دمع سافح
محت السنون رسومها فكأنما ... تلك العراص المقفرات نواضح
يا صاحبي تأملا حييتما ... وسقى دياركما الملث الرائح
أدمى بدت لعيوننا أم ربرب ... أم خرد أكفالهن رواج
أم هذه مقل الصوار رنت لنا ... خلل البراقع أم قنا وصفائح
لم تبق جارحة وقد واجهننا ... إلا وهن لها بهن جوارح
كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى ... ومن الشقاوة أن يراض القارح
لو بله من ماء ضارج شربة ... ما أثرت للوجد ففيه لواقح
ومنه قول السيد أبي الحسن علي بن رضي الدين الحسيني:
لعمرك ما نجدية الدار أتهمت ... فحنت إلى نجد وأنت من الوجد
بأجزع مني لا وأسكب عبرة ... وأدنى الذي أخفي كأقصى الذي تبدي
أقول إذا ما الليل أرخى سدوله ... وطال مطال الصبح والقول لا يجدي
ألا ليت شعري هل أرى الصبح طالعا ... بوجهك لي أفديه من طالع سعد
وإن جل ذاك الوجه عن قدر مهجتي ... فليس على العبد الضعيف سوى الجهد
لو كنت أعطى ما أشاء من المنى ... لما كنت تمشي قط إلا على خدي
وقوله أيضاً:
وما زهرات الروض باكرها الندى ... ولا البدر فيما بين أنجمه الزهر
بأحسن من سعدى إذا ما تبسمت ... بياقوت فيها عن نظام من الدر
ومن المرقص قول الشريف أبي محمد الحسن بن أبي الضوء العلوي الحسيني من قصيدة يرثي بها النقيب الطاهر أبا عبيد الله:
أحملاني إن لم يكن لكما عق ... ر إلى جنب قبره فاعقراني
وانضحا من دمي عليه فقد كا ... ن دمي من نداه لو تعلمان
هكذا عزا هذين البيتين العماد الكاتب في الخريدة للشريف.
قال المؤلف: ووقفت في كتاب الأذكياء للشيخ أبي الفرج بن الجوزي على حكاية تنافي كون البيتين المذكورين للشريف أبي محمد المذكور. وصورة الحكاية: قال: بلغني عن بعض أصحاب المبرد أنه قال: انصرفت من مجلس المبرد فعبرت على خربة, فإذا أنا بشيخ قد خرج منها وفي يده حجر, فهم أن يرميني به, فتسترت بالمحبرة والدفتر. فقال لي: مرحبا بالشيخ, فقلت: وبك, فقال لي: من أين أقبلت؟ فقلت: من مجلس المبرد, قال: البارد, ثم قال: ما الذي أنشدكم وكان عادته أن يختم مجلسه ببيت وببيتين؟ فقلت: أنشدنا:
أعار الغيث نائله ... إذا ما ماؤه نفدا
وأن أسد شكا جبنا ... أعار فؤاده الأسدا
فقال أخطأ قائل هذا الشعر. قلت كيف؟ قال: ألا يعلم أنه إذا أعار الغيث نائله بقي بلا نائل, وإذا أعار الأسد فؤاده بقي بلا فؤاد؟ هلا قال مثل هذا.
وأنشد:
علم الغيث نداه فإذا ... ما وعاه علم البأس الأسد
فله الغيث مقر بالندى ... وله الليث مقر بالجلد
فكتبتهما عنه وانصرفت. ثم مررت به بعد أيام, وإذا به قد خرج وبيده حجر, فكاد أن يرميني به ثم ضحك وقال مرحبا بالشيخ, أتيت من مجلس المبرد؟ فقلت نعم, فقال: ما الذي أنشدكم؟ فقلت: أنشدنا:
(1/299)
________________________________________
إن السماحة والمروة ضمنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح
فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الجياد وكل طرف سابح
فقال لي: أخطأ قائل هذا الشعر, فقلت: كيف؟ قال: ويحك لو نحر نجب خراسان ما أثر في حقه, هلا قال مثل هذا.
وأنشد:
احملاني إن لم يكن لكما عق ... ر إلى جنب قبره فاعقراني
وافضحا من دمي عليه فقد كا ... ن دمي من نداه لو تعلمان
فلما عدت إلى المبرد قصصت عليه القصة فقال لي: تعرفه؟ قلت: لا, قال: ذاك خالد الكاتب, تأخذه السوداء أيام الباذنجان. انتهى قلت: إن صحت هذه الحكاية, بطل نسبة البيتين المذكورين إلى السيد أبي محمد المذكور, لأن المبرد توفي سنة خمس وقيل ست وثمانين ومائتين ووفاة الشريف أبي محمد المذكور على ما أرخه العماد الكاتب في الخريدة سنة سبع وثلاثين وخمسمائة, فيتعين نظم البيتين المذكورين قبل وجوده بمدة مديدة والله أعلم.
ومن المرقص أيضاً قول السيد شيخ الشرف تاج الدين محمد بن القاسم بن معيد الحسيني:
لا وما قد ضمه مر ... طك من غصن رطيب
ما حوى رمان نهدي ... ك سوى حب القلوب
وقول الشريف ضياء الدين ابي عبد الله زيد بن محمد بن عبيد الله الحسيني نقيب العلويين بالموصل:
قالوا سلا صدقوا عن السلوان ليس عن ******
قالوا فلم ترك الزيا ... رة قلت من خوف الرقيب
قالوا فكيف يعيش مع ... هذا فقلت من العجيب
وأنشدني شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي للسيد أحمد الصفوي الشامي من شعراء العصر:
صه يا حمام فلست المشوق ... ولا بات حالك فيها كحالي
فمن من تباكى كمن قد بكى ... ودمع الأسى غير دمع الدلال
وهو من مهيار الديلمي:
أبكي وتبكي غير أن الأسى ... دموعه غير دموع الدلال
ومما وقع لي أنا في هذا الباب قولي:
على ما حاديهم لو كان عاجا ... فقضى حين مضى للصب حاجا
ظعنوا والقلب يقفوا إثرهم ... تبع العيس بكورا وأدلاجا
سلكوا من بطن فج سبلا ... لا عدا صوب الحيات تلك الفجاجا
هم أرقوا بنواهم أدمعي ... وأهاجوا لاعج الوجد فهاجا
كم أداجي في هواهم كاشحا ... أعجز الكتمان من حب فداجى
وعذولا يظهر النصح بهم ... فإذا نهنهته زاد لجاجا
طارحتني الورق فيهم شجنا ... والصبا أوجت شجى والبرق ناجى
يا بريقا لاح من حيهم ... يصدع الجو ضياء وابتلاجا
أنت جددت بتذكارهم ... للحشا وجدا وللطرف اختلاجا
هات فاشرح لي أحاديهم ... إنها كانت لما تشكو علاجا
علها تبرئ وجدا كامنا ... كلما عالجته زاد اعتلاجا
ما لقلبي والصبا ويح الصبا ... كلما مرت به زاد اهتياجا
خطرت سكرى بريا نشرهم ... وتحلت منهم عقدا وتاجا
يحسد الروض شذاها سحرا ... فترى الأغصان سرا تتناجى
آه من قوم سقوني في الهوى ... صرف حب لم أذق معه مزاجا
خلفوا جسمي وقلبي معهم ... كيفما عاجت حداة العيس عاجا
أتراهم علموا كيف دجا ... مربع كانوا لناديه سراجا
أم دروا أنا ودنا بعدهم ... سائغ العذب من البلوى أجاجا
وهم غاية آمالي وهم ... سار في الحب بهم ذكري فراجا
لا عراهم حادث الدهر ولا ... برحت أيامهم تبدي ابتهاجا
وقولي أيضاً:
يا دار مية باللوى فالأجرع ... حياك منهمل الحيا من أدمعي
وسرى نسيم الروض يسحب ذيله ... بمصيف أنس من حماك ومربع
لو لم تبيتي من أنيسك بلقعا ... ما بت أندب كل دار بلقع
لم أنس عهدي والأحبة جيرة ... والعيش صفو في ثراك الممرع
أيام لا أصغي للومة لائم ... سمعاً وأن تعر الصبابة أسمع
حيث الربى تسري برياها الصبا ... والروض زاهي النور عذب المشرع
تحنو علي عواطفا أفنانه ... عند المبيت به حنو المرضع
والورق في عذب الغصون سواجع ... تشد وبمرأى من سعاد ومسمع
كم بت فيه صريع كأس مدامة ... حلف البطالة لا أفيق ولا أعي
أصبو بقلب لا يزال موزعا ... في الحب بين معمم ومقنع
مستهترا طوع الصبابة في هوى ... قمري جمال مسفر ومبرقع
(1/300)
________________________________________
ما ساءني أن كنت أول مغرم ... بجمال رب ردا وربة برقع
يقتادني زهو الشباب وعفتي ... فيه عفاف الناسك المتورع
لله أيامي بمنعرج اللوى ... حيث الهوى طوعي ومن أهوى معي
لم أنسه والبين ينعق بيننا ... متصاعد الزفرات وهو مودعي
إن شب في قلبي الغضا بفراقه ... فلقد ثوى بالمنحى من أضلعي
أتجشم السلوان تكلفا ... والطبع يغلب شيمة المتطبع
وقولي أيضاً:
طاب نشر الصبا ووقت الصباح ... وزمان الصبا ووصل الصباح
فاسقني الراح يا نديمي ودعني ... أتلهى ما بين روح وراح
ما ترى الروض مذ بكى الغيم فيها ... كيف يضحكن عن ثغور الأقاح
وقد وفى لي الربيع منه بشرطي ... وضماني عليه حسب اقتراحي
برح اليوم عن هواي خفاه ... ما لقلبي عن الهوى من براح
فاسقنيها وداو قرح فؤادي ... واجتنب مزجها بماء قراح
ذات لون كأنما اعتصروها ... من جنى الورد أو خدود الملاح
اغتنم بهجة الربيع وقض ... باقتراحي ليالي الأفراح
مرحبا بالربيع والقصف وال ... عزف وحث الكؤوس والأقداح
إن يكن للخليع فيك اصطباح ... يا صاحبي فذا أوان اصطباحي
وقولي أيضاً:
من أين يا ريح الصبا هذا الشذا ... إن كان من حي ****** فحبذا
بالله هل يممت شرقي الحمى ... ووردت منهله المصون عن القذى
أم هل حظيت بلثم مسحب برده ... فسكبت من أنفاسه طيب الشذا
وبمهجتي إن كان يرضاها فدا ... رشأ على كل القلوب استحوذا
لما رأت منه المحيا عذلي ... فداه كل بالنفوس وعوذا
وعدا يقول مكلفي بسلوه ... ما كنت أحسب من كفلت به كذا
لما جلا ياقوت صفحة خده ... أبدى لنا من عارضيه زمرذا
ورمى القلوب فكان سهم لحاظه ... أمضى من السهم المصيب وأنفذا
ليت الذي أروى بقلبي حبه ... أنجاه من نار الصدود وأنقذا
وعلى جفاه فما ألذ غرامه ... لو كنت أسلم في هواه من الأذى
ظن العذول بأن هداني نصحه ... بعد الضلال وما هدى لكن هذى
وقول أبي نواس وهو أول ما قاله من الشعر وهو صبي:
حامل الهوى تعب ... يستخفه الطرب
إن بكى يحق له ... ليس ما به لعب
تضحكين لاهية ... والمحب ينتحب
تعجبين من سقمي ... صحتي هي العجب
وقوله يخاطب الأمين وكان قد سخط عليه وحبسه:
بك أستجير من الردى ... متعوذا من سطو باسك
وحياة رأسك لا أعو ... د لمثلها وحياة رأسك
من ذا يكون أبا نواس ... ك أن قتلت أبا نواسك
وقول إسحاق الموصلي:
سلام على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامة والشرب
سلام وإن لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
لعمري لئن حلئت عن منهل الصبا ... لقد كنت وراداً لمشربه العذب
ليالي أمسي بين بردي لاهيا ... أميس كغصن البانة الناعم الرطب
ومن المطرب قول البحتري:
ألام على هواك وليس عدلا ... إذا أحببت مثلك أن ألاما
لقد حرمت من وصلي حلالا ... وقد حللت هجري حراما
تناءت درة علوة بعد قرب ... فهل ركب يبلغها السلاما
وجدد طيفها عتبا علينا ... فما يعتادنا إلا لماما
وربة ليلة قد بت أسقي ... بعينيها وكفيها مداما
قطعنا الليل لثما واعتناقا ... وأفنيناه ضما والتزاما
وقد علمت بأني لم أضيع ... لها عهدا ولم أفخر ذماما
ومن مديحه المرقص قوله من قصيدة يمدح بها المتوكل ويذكر خروجه لصلاة عيد الفطر:
بالبر صمت وأنت أفضل صائم ... وبسنة الله الرضية تفطر
فانعم بيوم الفطر عيدا أنه ... يوم أغر من الزمان مشهر
أظهرت عز الملك فيه بجحفل ... لجب يحاط الدين فيه وينصر
خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت ... عدداً يسيرا بها العديد الأكثر
فالخيل تصهل والفوارس تدعي ... والبيض تلمع والأسنة تزهر
والأرض خاشعة تميد بثقلها ... والجو متعكر الجوانب أغبر
حتى طلعت بضوء وجهك فانجلى ... ذاك الدجى وأنجاب عنه العثير
(1/301)
________________________________________
وافتن فيك الناظرون فأصبع ... يومي إليك بها وعين تنظر
ذكروا بطلعتك النبي فهللوا ... لما طلعت من الصفوف وكبروا
حتى انتهيت إلى المصلى لابسا ... نور الهدى يبدو عليك ويظهر
فلو أن مشتاقا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
أيدت من فصل الخطاب بحكمة ... تنبي عن الحق المبين وتخبر
ووقفت في برد النبي مذكرا ... بالله تنذر تارة وتبشر
سبحان الله ما أشرف هذا الكلام, وانهج هذا النظام, وهذا هو ***** الحلال على الحقيقة, والسهل الممتنع. فلله دره ما أسلس قياده, وأعذب ألفاظه, وأحسن سبكه, وألطف مقاصده, وبحق ما قال أبو العلاء المعري وقد سئل, أي الثلاثة أشعر, أبو تمام أم البحتري أم المتنبي؟ فقال: حكيمان والشاعر البحتري. وكان يقال لشعره سلاسل الذهب. ومع شهرة ديوانه فلا حاجة إلى الإكثار منه.
ومن الغايات في باب الانسجام قول علي بن الجهم يمدح المتوكل أيضاً:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... ***ن الهوى من حيث ندري ولا ندري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن ... سلوت ولكن زدن جمرا على جمر
سلمن وأسلمن القلوب كأنما ... تشك بأطراف المثقفة السمر
خليلي ما أحلى الهوى وأمره ... وأعرفني بالحلو منه وبالمر
كفى بالهوى شغلا وبالشيب زاجرا ... لو أن الهوى مما ينهنه بالزجر
بما بيننا من حرمة هل علمتما ... أرق من الشكوى وأقسى من الهجر
وأفضح من عين المحب لسره ... ولاسيما أن أطلقت عبرة تجري
وما أنس من الأشياء لا أنس قولها ... لجارتها ما أولع الحب بالحر
فقالت لها الأخرى فما لصديقنا ... معنى وه في قتله لك من عذر
صليه لعل الوصل يحييه وأعلمي ... بأن أسير الحب في أعظم الأسر
فقالت أذود الناس عنه وقلما ... يطيب الهوى إلا لمهنتك الستر
وأيقنا أن قد سمعت فقالتا ... من الطارق المصغي إلينا وما ندري
فقلت فتى أن شئتما كتم الهوى ... وإلا فخلاع الأعنة والعذر
على أنه يشكو ظلوما وبخلها ... عليه بتسليم البشاشة والبشر
فقالت هجينا قلت قد كان بعض ما ... ذكرت لعل الشر يدفع بالشر
فقالت كأني بالقوافي سوائرا ... يردن بنا مصرا ويصدرن عن مصر
فقلت أسأت الظن بي لست شاعرا ... وإن كان أحيانا يجيش به صدري
وما أنا ممن سار بالشعر ذكره ... ولكن أشعاري يسير بها ذكري
وللشعر أتباع كثير ولم أكن ... له تابعا في حال عسر ولا يسر
ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر
فسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب هبوب الريح في البر والبحر
ولو جل عن شكر الصنيعة منعم ... لجل أمير المؤمنين عن الشكر
ومن قال إن البحر والقطر أشبها ... نداه فقد أثنى على القطر والبحر
ومن المطرب قول ابن الرومي:
يا شبابي وأين منى شبابي ... آذنتني أيامه بانقضاب
لهف نفسي على نعيمي ولهوي ... تحت أفنانه اللدن الرطاب
ومعز عن الشباب مؤس ... بمشيب الأتراب والأصحاب
قلت لما انتحى يعد أناساً ... من مصاب شبابه فمصاب
ليس تأسو كلوم غيري كلومي ... ما به ما به وما بي ما بي
ومن الغايات التي لا تدرك قول موسى بن عبد الملك الاصبهاني:
لما وردنا القادسي ... ة حيث مجتمع الرفاق
وشممت من أرض الحجا ... ز نسيم أنفاس العراق
أيقنت لي ولمن أحب ... بجمع شمل واتفاق
وضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق
لم يبق لي إلا تجش ... م هذه السبع البواقي
حتى يطول حديثنا ... بصفات ما كنا نلاقي
القادسية بفتح القاف بعد الألف دال مهملة وياء مثناة من تحتها: قرية فوق الكوفة, مر بها إبراهيم الخليل عليه السلام فوجد بها عجوزاً, فغسلت رأسه فقال: قدست من أرض, فسميت بالقادسية, ودعا لها أن تكون محلة الحاج, فلم تزل كذلك.
(1/302)
________________________________________
وأنت إذا انتهيت في هذا الباب إلى قصيدة الأديب محمد بن زريق الكاتب البغدادي انتهي إلى ما يسكر بلا شراب, ويطرب بلا سماع. وقد عن لي إثباتها هنا برمتها على طولها, لئلا يخلو هذا المجموع منها, وهي:
لا تعذليه فإن العذل يولعه ... قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حد أضر به ... من حيث قدرت أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا ... من عنفه فهو مضنى القلب موجعه
قد كان مضطلعا بالخطب يحمله ... فضلعت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من لوعة التفنيد أن له ... من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه ... رأي إلى سفر بالرغم يجمعه
كأنما هو من حل ومرتحل ... موكل بفضاء الأرض يذرعه
إذا الزماع أراه في الرحيل غنى ... ولوالى السند أضحى وهو مزمعه
يأبى المطامع إلا أن تجشمه ... للرزق كدحا وكم ممن يودعه
وما مجاهدة الإنسان توصله ... زرقا ولا دعة الإنسان تقطعه
والله قسم بين الخلق رزقهم ... لم يخلق الله مخلوقا يضيعه
لكنهم ملئوا حرصا فلست ترى ... مسترزقا وسوى الغايات تقنعه
والسعي في الرزق قد قسمت ... بغي ألا إن بغي المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه ... يوما ويمنعه من حيث يطعمه
أستودع الله في بغداد لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني ... صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه: وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ... وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق ... عني بفرقته لكن أرفعه
إني أوسع عذري في خيانته ... بالبين عنه وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته ... وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن عدا لابسا ثوب النعيم بلا ... شكر الإله فعنه الله ينزعه
اعتضت عن وجه خلي بعد فرقته ... كأسا أجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي ذنب البين قلت له ... ألذنب الله ذنبي لست أدفعه
هلا أقمت فكان الرشد أجمعه ... لو أنني يوم بان الرشد أتبعه
إني لأقطع أيامي وانفدها ... بحسرة منه في قلبي تقطعه
بمن إذا هجع النوام بت له ... بلوعة مني ليلي لست أهجعه
لا يطمئن لجنبي مضجع كذا ... لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
بالله يا منزل القصف الذي درست ... آثاره وعفت مذ غبت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا ... أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله ... وجاد غيث على مغناك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيعه ... كما له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا ... جرى على قلبه ذكري يصدعه
لا صبرن لدهر لا يمتعني ... به ولا بي في حال يمتعه
علما بأن اصطباري معقب فرجا ... وأضيق الأمر أن فكرت أوسعه
عل الليالي التي أضنت بفرقتنا ... جسمي ستجمعني يوما وتجمعه
وأن تنل أحدا منا منيته ... فما الذي بقضاء الله يصنعه
ومن بديعه المطرب قول أبي الطيب المتنبي من قصيدة في سيف الدولة رحمه الله:
وقد طرقت فتاة الحي مرتديا ... بصاحب غير عزهاة ولا غزل
فبات بين تراقينا ندفعه ... وليس يعلم بالشكوى ولا القبل
ثم اغتدى وبه من ردعها اثر ... على ذوائبه والجفن والخلل
لا أكسب الذكر إلا من مضاربه ... أو من سنان أصم الكعب معتدل
جاد الأمير به لي في مواهبه ... فزانها وكساني الدرع في الحلل
ومن علي بن عبد الله معفتي ... بحمله من كعبد الله أو كعلي
معطي الكواعب والجرد السلاهب ... والبيض القواضب والعسالة الذبل
ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك ... ملء الزمان وملء السهل والجبل
فنحن في جذل الروم في وجل ... والبر في شغل البحر في خجل
من تغلب الغالبين الناس منصبه ... ومن عدي أعادي الجبن والبخل
والمدح لابن أبي الهيجاء تنجده ... بالجاهلية عين العي والخطل
(1/303)
________________________________________
ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فما كليب وأهل الأعصر الأول
خذ ما تراه ودع ما قد سمت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل
ومن المطرب المرقص قول أبي محمد عبد الرزاق بن الحسين المعروف بابن أبي الثياب البغدادي اللغوي المنطقي, من قصيدة في الوزير ابن العميد الكاتب:
برح اشتياق وادكار ... ولهيب أنفاس حرار
ومدامع عبراتها ... ترفض عن نوم مطار
لله قلبي ما يجن ... من الهموم وما يواري
لقد انقضى سكر الشباب ... وما انقضى وصب الخمار
وكبرت عن وصل الصغا ... ر وما سلوت عن الكبار
سقيا لتغليسي إلى ... باب الرصابة وابتكاري
أيام أخطر في الصبا ... نشوان مسحوب الأزار
حجي إلى حجر الصراة ... وفي حدائقها اعتماري
ومواطن اللذات أوطا ... ني ودار اللهو داري
لم يبق لي عيش يلذ ... سوى معاقرة العقار
حثا بألحان قمرت ... بهن ألحان القماري
وإذا استهل ابن العميد ... تضاحكت ديم القطار
خرق صفت أخلاقه ... صفو السبيك من النضار
كان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلسي ظننت أن عطارد أنزل من الفلك إلي ووقف بين يدي. ومن شعر السلامي قوله:
فسمونا والفجر يضحك في الشر ... ق إلينا مبشرا بالصباح
والثرايا كراية أو كجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح
وكأن النجوم في يد ساق ... تتهادى تهادي الأقداح
وجمعنا بين اللواحظ والرا ... ح وبين الخدود والتفاح
وشممنا بنفسج الصدغ حتى ... طالعتنا من الثغور الأقاحي
زمن فات بين لهو وشرب ... وغناء وراحة وارتياح
ولعمري ما كذب حيث يقول في قصيدة من شعره:
كلما أنشدت شهدت بأن ال ... شعر أمر مسلم للسلامي
ومن المطرب المرقص أيضاً قول عبد الصمد بن بابك من قصيدة:
وأغيد معسول الشمائل زارني ... على فرق والنجم حيران طالع
فلما جلا صبغ الدجى قلت حاجب ... من الصبح أو قرن من الشمس لامع
إلى أن دنا و***** رائد طرفه ... كما ريع ظبي بالصريمة راتع
فنازعته الصهباء والليل دامس ... رقيق حواشي البرد والنسر واقع
عقار عليها من دم الصب نقطة ... ومن عبرات المستهام فواقع
تدير إذا شجت عيونا كأنها ... عيون العذارى شق عنها البراقع
معودة غصب العقول كأنما ... لها عند ألباب الرجال ودائع
تحير دمع المزج في كأسها كما ... تحير في ورد الخدود المدامع
فبتنا وظل الوصل باد وسرنا ... مصون ومكتوم الصبابة ذائع
إلى أن سلاعن ورده فارط القطا ... ولاذت بأطراف الغصون السواجع
وقول محمد بن أحمد الرستمي من قصيدة يمدح بها الصاحب ابن عباد:
سلام على رمل الحمى عدد الرمل ... وقل له التسليم من عاشق مثلي
وقفت وقوف الغيث بين طلوله ... بمنسكب سح ومنسجم وبل
وما حلت حتى خالني الريم رمة ... كأن لم يقف في دمنة أحد من قبلي
ومما شجاني والعواذل وقف ... ولي أذن صمت هناك عن العذل
ظباء سرت بالأبطحين عواطلا ... وكنت أراها في الرعاث وفي الحجل
تبدلن أسماء سوى ما عرفتها ... لهن مما تدعى بسعدى ولاجمل
تشابهن أحداقا وطول سوالف ... وخص الغواني بالملاحة والدل
ومكحولة الأجفان مخضوبة الشوى ... ولم تدر ما لون الخضاب من الكحل
ذكرت بها من لست أنسى دنوها ... وإن بعدت والشيء بالشيء يذكر بالمثل
سقى الدمع مغنى الوائلية بالحمى ... سواجم تغني جانبيه عن المحل
ولا برحت عيني تنوب عن الحيا ... بدمع على تلك المناهل منهل
مغاني الغواني والشبيبة والصبا ... ومأوى الموالي والعشيرة والأهل
ليالي لا روض الكثيب بلا ندى ... ولا شجرات الأبرقين بلا ظل
وما كان يخلو أبرق الحزن من هوى ... ولكنني أمسي بغير الهوى شغلي
وقول القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني:
يا نسيم الجنوب بالله بلغ ... ما يقول المتيم المستهام
(1/304)
________________________________________
قل لأحبابنا فداكم فؤاد ... ليس يسلو ومقلة لا تنام
بنتم فالسهاد عندي رقاد ... مذنأ يتم والعيش عندي حمام
فعلى الكرخ فالقطيعة فالشط فباب الشعير مني السلام
يا ديار السرور لا زال يبكي ... بك في مضحك الرياض غمام
رب عيش صحبته فيك غض ... وجفون الخطوب عني نيام
في ليال كأنهن أمان ... من زمان كأنه أحلام
وكأن الأوقات فيها كؤوس ... دائرات وأنسهن مدام
زمن مسعد والفٌ وصولٌ ... ومنى تستلذها الأوهام
كل أنس ولذة وسرور ... قبل لقياكم علي حرام
وقوله:
قد برح الحب بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وأروع له حقه ... فإنه خاتم عشاقك
وقوله:
مالي ومالك يا فراق ... أبدا رحيل وانطلاق
يا نفس موتي بعدهم ... فكذا يكون الاشتياق
ومن المرقص أيضاً قول القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي:
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
هواء لكنه ساكن ... وماء ولكنه غير جار
كأن المدير لها باليمين ... إذا مال للسقي أو باليسار
تدرع ثوبا من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار
هكذا أورد هذه الأبيات الثعالبي في يتيمة الدهر.
وحكى أبو محمد الحسن بن عسكر الصولي الواسطي قال: كنت ببغداد في سنة أحدى وعشرين وخمسمائة جالساً على دكة بباب أبرز للفرجة, إذ جاء ثلاث نسوة جلسن إلى جانبي فأنشدت متمثلا:
هواء ولكنه راكد ... وماء ولكنه غير جار
وسكت فقالت إحداهن: هل تحفظ لهذا البيت تماما؟ فقلت: وما أحفظ سواه, فقالت: أن أنشدك أحد تمامه وما قبله ماذا تعطيه؟ فقلت: ليس لي شيء أعطيه, ولكني أقبل فاه. فأنشدتني الأبيات المذكورة, وزادت بعد البيت الأول:
إذا ما تأملته وهي فيه ... تأملت ماء محيطا بنار
فهذه النهاية في الابيضاض ... وهذا النهاية في الاحمرار
فحفظت الأبيات منها, فقالت لي: أين الوعد؟ - يعني التقبيل - أرادت مداعبة بذلك والله أعلم ومن المطرب قول أبي القاسم نصر الخبز أرزي:
جيرة فرقتهم غربة البين وبين القلوب وذاك الجوار
كم أناس رعوا لنا حين غابوا ... وأناس جفوا وهو حضار
عرضوا ثم أعرضوا واستمالوا ... ثم مالوا وأنصفوا ثم جاروا
لا تلمهم على التجني فلو لم ... يتجنوا لم يحسن الاعتذار
ومن المرقص قول بديع الزمان الهمداني:
طربا فقد رق الظلا ... م ولاح مصباح الصباح
وسرى إلى القلب العلي ... ل عليل أنفاس الرياح
ومليحة ترنو بنرجسة وتبسم عن أقاح
تشدو كل غنائها ... برد على نيل اقتراحي
قامت وقد برد الحيل تميس في ثني الوشاح
يا ليل هل لك من صبا ... ح أم لنجمك من براح
سأريق ماء شبيبتي ... ما بين ريحاني وراحي
فيم العتاب ولا لهم ... غيي ولا لهم صلاحي
ولعاذلاتي في المليحة عاذلاتك في السماح
وهواي للبيض الصبا ... ح هواك للبيض الصفاح
وولوع كفي بالقداح ... ولوع كفك بالرماح
وعليك إدمان الندى ... وعلي إدمان امتداحي
وقوله من أخرى في السلطان محمود بن سبكتكين:
تعالى الله ما شاء ... وزاد الله إيماني
أأفريدون في التاج ... أم الإسكندر الثاني
أم الرجعة قد عادت ... إلينا بسليمان
أظلت شمس محمود ... على أنجم سامان
وأمسى آل بهرام ... عبيدا لابن خاقان
إذا ما ركب الفيل ... لحرب أو لميدان
رأت عيناك سلطان ... على منكب شيطان
فمن واسطة الهند ... إلى ساحة جرجان
ومن ناحية السند ... إلى أقصى خرسان
على مقتبل العمر ... وفي مفتتح الشان
لك السرج إذا شئت ... على كاهل كيوان
يمين الدولة العقبى ... لبغداد وغمدان
وما يقعد بالمغرب ... عن طاعتك اثنان
إذا شئت ففي يمن ... وفي أمن وإيمان
لما رأيت الزمان نكسا ... ليس في العشرة انتفاع
كل رئيس به ملال ... وكل رأس به صداع
لزمت بيتي وصنت عرضا ... به عن الذلة امتناع
(1/305)
________________________________________
أشرب مما اقتنيت راحا ... لها على راحتي شعاع
لي من قواريرها ندامى ... ومن قراقيرها سماع
وأجتني من عقول قوم ... قد أقفرت منهم البقاع
ومنه قول أبي الحسن علي بن أحمد الجوهري من قصيدة أولها:
يا سقيط الندى على الأقحوان ... شأنك الآن في الصبوح وشاني
أنت ذكرتني دموعي وقد صو ... بن بين العتاب والهجران
إن يكن للخليع فيك أوان ... ينقضي بالمنى فهذا أواني
سحر مدنف وجو عليل ... ومليح يميل كالنشوان
صاح إن الزمان أقصر عمرا ... أن تراع المنى بصرف الزمان
رق عنا الملاحف الجو فانهض ... برقيق من صوب تلك الدنان
قهوة عقها ... النواظر لما
حسبتها عصارة العقيان
كعصير الخدود في يقق الأو ... جه أو كالدموع في الأجفان
وقول هبة الله بن المنجم:
شكا إليك ما وجد ... من خانه فيك الجلد
حيران لو شئت اهتدى ... ظمآن لو شئت ورد
يا أيها الظبي الذي ... ألحاظه تردي الأسد
أما لأسراك فدى ... أما لقتلاك قود
الراح في إبريقها ... أحسن روح في جسد
فهاتها نصلح بها ... من الزمان ما فسد
ولقد طال بنا الشرح في هذا الباب, وخرجنا عن حد الاختصار الذي هو شرط الكتاب. ولكن لذ نوع الانسجام للسان القلم, فأورد منه ما هو أحلى من ظلم ****** وما ظلم.
ومن تأمل ما أوردته, وما أورده ابن حجة في هذا المقام, علم أن الرشح ليس كالانسجام. فإنه لم يورد إلا ما نبت العين عن أخلاق جدته, وبلي بردته, ومج السمع لمردداته, ومل القلب من مكرراته. ولم أورد إلا كل مستطرف مستبدع, أودعه قائله من الحسن ما أودع. وفي أنصاف أولي الألباب والأذهان ما يغني عن إثبات الحجة, وإقامة البرهان (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) وبيت بديعة صفي الدين قوله:
فذكره قد أتى في هل أتى وسبا ... وفضله ظاهر في نون والقلم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعة الموصلي قوله:
بأن انسجام كلام منزل عجب ... يهدي ويخبرنا عن سالف الأمم
وبيت بديعة ابن حجة قوله:
لذ انسجام دموعي في مدائحه ... بالله شنف بها يا طيب النغم
وبديعة المقري قوله:
مستكثر من أياد يستقل بها ... فخرا ومن خلق زاك ومن شيم
وبيت بديعة السيوطي قوله:
دعا وقد عم جدب الأرض فانتشأت ... في الحال سحب نعيم أي منسجم
وبيت بديعة العلوي قوله:
حاز الفخار فلا ند يعانده ... وكل فخر سوى ما فيه كالعدم
وبيت بديعة الطبري قوله:
ولانسجام مديحي في فضائله ... بيان منزلة للغير لم ترم
وبيت بديعتي قولي:
أوصافه انسجمت للذاكرين لها ... في هل أتى في سبا في نون القلم
تناسب الأطراف
فاسمع تناسب أطراف المديح له ... وأفهم معانيه إن كنت ذا فهم
تناسب الأطراف - عبارة عن أن يبتدئ المتكلم كلامه بمعنى, ثم يختمه بما يتناسب ذلك المعنى الذي ابتدأ به, وهذا النوع جعله الخطيب في التلخيص والإيضاح من مراعاة النظير. قال: ومن مراعاة النظير ما يسميه بعضهم تشابه الأطراف, وهو أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى. انتهى.
وقد علمت أن الشيخ زكي الدين بن أبي الإصبع نقل هذا الاسم وهو تشابه الأطراف إلى نوع التسبيغ الذي هو عبارة عن أن يعيد الشاعر لفظة القافية في أول البيت الذي يليها, فتكون الأطراف متشابهة, وهي تسمية مطابقة للمسمى. وسمى بعضهم هذا النوع تشابه الأطراف المعنوي, وهو تطويل في العبارة, فرأينا نحن تسميته بتناسب الأطراف أولى لمطابقته لمسماه وهو نوعان, ظاهر وخفي
(1/306)
________________________________________
فالأول - نحو قوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) فإن اللطيف يناسبه كونه غير مدرك بالأبصار, والخبير يناسب كونه مدركاً للأشياء, لأن المدرك للشيء يكون خبيرا. وقوله تعالى (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون. أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) فقوله (أفلا يسمعون) في ختام الآية الأولى يناسب قوله سبحانه في أولها (أو لم يهد لهم) لأن الموعظة سمعية, وقوله سبحانه في ختام الثانية (أفلا يبصرون) يناسب قوله في أولها (أو لم يروا) لأن الموعظة بصرية.
ومنه ما روي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ (فغن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله - غفور رحيم بدل - عزيزي حكيم) ولم يكن الإعرابي يقرأ القرآن فقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا, لأن الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل, إنه إغراء عليه. فظهر أن المناسب ما عليه التلاوة.
والثاني - كقوله تعالى (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) . فإن قوله سبحانه وتعالى (وإن تغفر لهم) يوهم أن الفاصلة, الغفور الرحيم, ولكن إذا أمعن وأنعم النظر علم أنه يجب أن تكون على ما عليه التلاوة, لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه, فهو العزيز الحكيم.
وفي صفاته تعالى, وهو الغالب, من قولهم: عزه يعزه: إذا غلبه, ومنه المثل (من عزَّ بزَّ) أي من غلب سلب, ووجب أن يوصف بالحكيم أيضاً لأن الحكيم من يضع الشيء في محله, والله تعالى كذلك, فكان في الإتيان به احتراس لئلا يتوهم أن الغفران لهم مع استحقاق العذاب خارج عن الحكمة, أي أن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا اعتراض لأحد عليك في ذلك والحكمة فيما فعلته.
إذا عرفت ذلك فبيت بديعتي المذكور من النوع الأول من تناسب الأطراف, وهو الظاهر. فإن قولنا في صدر البيت (فاسمع تناسب أطراف المديح له) يناسب قولنا في عجزه (وأفهم معانيه إن كنت ذا فهم) . لأن من سمع شيئاً يلزمه فهمه, فالمناسبة ظاهرة. والفهم بتحريك الهاء أفصح من الفهم بسكونها, كما نص عليه في القاموس, والله سبحانه وتعالى أعلم.
ائتلاف المعنى مع المعنى
معظم بائتلاف المعنيين له ... من عفو مقتدر أو عز منتقم
هذا النوع أيضاً قسم من المناسبة المعنوية وهو قسمان: أحدهما - أن يشتمل الكلام على معنى يصح معه معنيان أحدهما ملائم له بحسب نظر دقيق, والآخر ليس كذلك, فيقرن بالملائم.
كقول أبي الطيب:
فالعرب منه مع الكدري طائرة ... والروم طائرة منه مع الحجل
فان الكدري وهو ضرب من القطا من طير السهل؛ والعرب بلادها المفاوز؛ فقارن بينهما لمكان هذه الملائمة الدقيقة؛ والحجل من طير الجبل والروم بلادها الجبال, فقارن بينهما لهذا التناسب الدقيق. والمعنى: أن العرب تفر منه مع القطا في السهل, والروم تفر منه مع الحجل في الجبال. قال الطيبي: وعليه قول تعالى (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم) . ناسبت هذه التوبة لفظة الباري دون غيره من الأسماء, لأن الباري هو الذي خلقهم بريئا من التفاوت, وهي نعمة جسيمة, وكان من حق الشكر أن يخصوه بالعبادة, فلما عكسوا وقابلوها بالكفران حيث عبدوا مالا تميز له أصلاً استردت منهم تلك النعمة بالقتل والانفكاك عن الحياة.
وثانيهما - أن يشتمل الكلام على معنى له ملائمان, يصح أن يقرن كل منهما به, لكن يختار الأحسن منهما, وما لاقترانه به مزية على الآخر فيقرن بذلك المعنى.
كقول أبي الطيب أيضاً:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك ضحاك وثغرك باسم
(1/307)
________________________________________
فإن عجز كل من البيتين يلائم كلا من الصدرين, ولكنه أختار ذلك الترتيب لأمرين, أحدهما أن قوله (كأنك في جفن الردى وهو نائم) مسوق لتمثيل السلامة في مقام العطب, فجعله مقررا للوقوف والبقاء في موضع يقطع على صاحبه بالهلاك, أنسب من جعله مقررا لثباته في حال مرور الأبطال به مهزومة. وثانيهما أن في تأخير قوله (ووجهك وضاح وثغرك باسم) تتميما للوصف, وتفريعاً على الأصل, اللذين يفوتان بالتقديم. فالوصف هو ثباته في الحرب, والتتميم هو أن ثباته في الحرب لاحتقاره كل خطب عظيم كما يفيده وضاحة الوجه, وتبسم الثغر في ذلك الموقف, لا لضرورة فقدان المهرب. والتفريع على الأصل هو أن وضاحة وجهه وابتسام ثغره عند مرور الأبطال مكلومين مهزومين فرع ثباته في الحرب, حين لاشك لواقف في الموت, والردى محيط به من جميع الجوانب ثم أنه يسلم منه.
ونظيره في الكتاب العزيز قوله تعالى (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فإن لم يراع فيه مناسبة الري للشبع, والاستظلال للبس, بل روعيت المناسبة بين اللبس والشبع في عدم الاستغناء عنهما وأنهما من أصول النعمة, وبين الاستظلال والري في كونهما تابعين لهما, ومكحلين لمنافعهما, وهذا أدخل في الامتنان, لما في تقديم أصول النعم وارداف التوابع من الاستيعاب.
حكى الثعالبي في يتيمة الدهر قال: استنشد سيف الدولة أبا الطيب المتنبي يوما قصيدته التي أولها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وكان معجباً بها, كثير الاستعادة لها, فاندفع أبو الطيب ينشدها, فلما بلغ قوله فيها (وقفت وما في الموت شك لواقف) - البيتين - قال له سيف الدولة: لقد انتقدنا عليك هذين البيتين كما انتقد على امرئ القيس بيتاه وهما:
كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
وبيتاك لا يلتئم شطراهما كما لا يلتئم شطرا هذين البيتين. كان ينبغي لامرئ القيس أن يقول:
كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الرزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولك أن تقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال: أيد الله مولانا, إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا كان أعلم بالشعر منه, فقد أخطأ امرئ القيس, وأخطأت أنا. ومولانا يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز معرفة الحائك, لأن البزاز يعرف جملته وتفاريقه, لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية, وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد, وقرن السماحة في شرب الخمر للاتصاف بالشجاعة في منازلة الأعداء. وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه, ولما كان وجه الجريح المهزوم لا يخلو من أن يكون عبوسا, وعينه من أن تكون باكية قلت (ووجهك وضاح وثغرك باسم) لأجمع بين الأضداد في المعنى وأن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله, وأجازه بخمسين دينارا من دنانير الصلات وفيها خمسمائة دينا. انتهى بنصه.
قال أبو الفتح عثمان بن جني بعد حكاية انتقاد سيف الدولة بيتي أبي الطيب بما ذكرنا: ليس الملك والشجاعة في شيء من صناعة الشعر, ولا يمكن أن يكون في ملائمة بين الصدر والعجز أحسن من بيتي المتنبي, لأن قوله (كأنك جفن الردى وهو نائم) هو في معنى قوله (وقفت وما في الموت شك لواقف) فلا معدل لهذا العجز عن هذا الصدر, لأن النائم إذا أطبق جفنه أحاط بما تحته, فكأن الموت قد أظله من كل مكان كما يحدق بالجفن بما يتضمنه من جميع الجهات, وجعله نائما لسلامته من الهلاك, لأنه لم يبصره وغفل عنه بالنوم فسلم ولم يهلك.
وقوله:
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
هو النهاية في البشاشة. يقول: المكان الذي تكلم فيه الأبطال فتكلح وتعبس ثم وجهك وضاح لاحتقارك الأمر العظيم, ومعرفتك به, ألا تراه يقول بعده:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى ... إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
(1/308)
________________________________________
انتهى. قال العلامة الطيبي في التبيان: ومما يواخي هذه القصة (يعني قصة المتنبي مع سيف الدولة) انتقاد الإمام فخر الدين الرازي على أبي العلاء المعري قوله:
أعن وخد القلاص كشفت حالا ... ومن عند الظلام طلبت مالا
قال: كان المناسب أن يضم الكشف مع الظلام, والطلب مع الوخد, فيقال غرضه الإنكار على نفسه بإدمان السفر, وآداب السير, والتأكيد فيه, ولأن قوله:
ودرا خلت أنجمه عليه ... فهلا خلتهن به ذبالا
لا يلتئم إلا على التأليف المذكور تنبيه - الحق بهذا النوع ما أن يشتمل الكلام على لفظ يمكن حمله على معنيين كل منهما صحيح فيختار الأولى منهما كقول بعضهم:
لما اعتنقنا للوداع وأعربت ... عبراتنا عنا بدمع ناطق
فرقن بين معاجر ومحاجر ... وجمعن بين بنفسج وشقائق
يحتمل أن المراد بالبنفسج والشقائق عارض الرجل وخد المرأة الملتقيان عند التعانق للوداع, ويحتمل أنه أراد أنها حين قامت للوداع مزقت خمارها, ولطمت وجهها حتى اخضرت من اللطم, أي جمعت بين أثر اللطم وهو شبيه بالبنفسج, وبين لون الخد وهو شبيه بالشقائق, لكن الثاني وهو حمل البنفسج على أثر اللطم أولى, لأن العارض إنما يشبه بالبنفسج عند طريان الخضرة, وليس في الشعر ما يدل على شباب المودع. قيل: وللكلام في ترجيح الأول مجال.
وقد نص علماء البلاغة أن كلام البليغ إذا احتمل معنيين متفاوتين في البلاغة والعذوبة تعين أن يحمل على الأبلغ الأعذب, ليطابق المعنى كلام المهذب والله وأعلم.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
من مفرد بغرار السيف منتثر ... ومزوج بسنان الرمح منتظم
تحامل ابن حجة على جاري عادته على الشيخ صفي الدين في هذا البيت فقال: أنه غير صالح للتجريد, وعدم صلاحيته للتجريد هو الذي عقده وحجب إيضاح معناه عن مواقع الذوق فأعلم. انتهى.
وأنا أقول: إن أراد بمواقع الذوق ذوقه فنعم, وإلا فلا يخفى على من له أدنى ذوق مناسبة المفرد للمنتثر, والموج للمنتظم, وجعل الأول بغرار السيف, لأن الغالب أن السيف لا يضرب به إلا واحدا عند المبارزة, وجعل الثاني بسنان الرمح, لأن البطل كثيرا ما ينظم برمحه فارسين في طعنة واحدة, كما يحكى أن أبا دلف لحق قوما من الأكراد قطعوا الطريق, فطعن فارسا نفذت الطعنة إلى فارس آخر أمامه فقتلهما.
فقال بكر بن النطاح:
قالوا وينظم فارسين بطعنة ... يوم الهياج ولا تراه كليلا
لا تعجبوا فلو أن طول قناته ... ميل إذا نظم الفوارس ميلا
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
ذو معنيين بصحب والعدى ائتلفا ... للخلف ما أشهب البازي كالرخم
قال ابن حجة: إن هذين المعنيين لشدة العقادة أتعبت الفكر على أن يتضح لي منهما معنى فعجزت عن ذلك. وهو في محله.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
سهل شديد له بالمعنيين بدا ... تألف في العطا والدين للعظم
قال في شرحه: سهولة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرنتها بالعطاء وشدته قرنتها بالدين لعظمته. انتهى.
ولا يخفي عدم انسجام هذا البيت.
والشيخ عبد القادر الطبري مسخ بيت أبي حجة فقال:
بر رؤوف غدا بالمعنيين له ... تألف بالعطا والحلم ذو نعم
وبيت بديعيتي هو قولي:
معظم بائتلاف المعنيين له ... من عفو مقتدر أو عز منتقم
فقرنت العفو بالقدرة, مع إمكان مقارنته بالانتقام, كأن يقال (من عز مقتدر أو عفو منتقم) لما بين العفو والقدرة من المناسبة والملائمة, فإن العفو إنما يكون مع القدرة, ولذلك قيل: إن أحسن ما قيل في حده ما قاله بعض العلماء وقد سئل ما العفو؟ فقال: هو ترك المكافأة عند المقدرة قولا وفعلا. وكان كسرى يقول: عفوي عمن أساء إلي بعد قدرتي عليه أسر لي مما ملكت.
وقال الشاعر:
فدهره يفصح عن قدرة ... ويغفر الذنب على علمه
كأنه يأنف من أن يرى ... ذنب امرئ أعظم من حلمه
(1/309)
________________________________________
وأعظم من عفا عن قدرة, رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فإن أهل مكة كانوا يؤذونه في نفسه, ويقصدون نكايته في أهله, قتلوا أعمامه, وعذبوا أصحابه, وألبوا عليه, وأخرجوه من أحب البقاع إليه, حتى إذا فتحها الله عليه, ودخلها بغير حمدهم, وظهرت بها كلمته على رغمهم, قام فيهم خطيبا, فحمد الله وشكره على ما منحه من الظفر, ثم قال: أقول لكم كما قال أخي يوسف (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) .
وقرنت بين العز والانتقام مع صحة مقارنته بالاقتدار كما مر, لما بين العز والانتقام من الملائمة عند أهله, كما قال أبو الطيب المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
ولك أن تجعل المقارنة الأولى من النوع الثاني, والثانية من النوع الأول, لأن في الملائمة بين العز والانتقام نوع دقة, والله أعلم.
وبيت بديعة المقري قوله:
فرد المطالب لاثان لعزمته ... شفع الرغائب دون الوتر لم ينم
قال في شرحه يمكن أن يقال في هذا البيت:
شفع الرغائب لا ثان لعزمته ... فرد المطالب دون الوتر لم ينم
ولكن اخترنا الترتيب الأول لما فيه من التورية والترشيح, ومقابلة الشفع بالوتر. أما التورية فهي في قوله (لاثان لعزمته) أي لا شيء يرد عزمته, وقوله (فرد المطالب) رشحت (لاثان) للتورية, وصلحت لها. فيقول: لاثان لعزمته بل هي وحيدة. وقوله (شفع الرغائب) فيه تورية أيضاً, فإن الرغائب نوع من الصلاة معروف يسمى شفعا, والمراد بالرغائب العطايا, وإنها ليست ترد أفرادا بل أشفاعاً. وفي قوله (دون الوتر لم ينم) المراد به الذحل, ولكن ذكر الشفع قبله رشحه لصلاة الوتر, ولذلك ذكر النوم بعده وصلح له أيضاً, فأفهم ذلك. انتهى بنصه.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فرد النظير فمن والاه في نعم ... زوج المعالي فمن عاداه في نقم
قال في شرحه: كان يصح أن يقول:
فرد النظير فمن عاداه في نقم ... زوج المعالي فمن والاه في نعم
فلا يختل معناه, إلا أن تقديم الموالاة والنعم أولى من تقديم المعاداة والنقم.
المبالغة
كل البليغ وقد أطرى مبالغة ... عن حصر بعض الذي أولى من النعم
اختلف أرباب البديع في عد المبالغة من المحسنات في الكلام, فذهب قوم إلى أنها مردودة مطلقا, لا تعد من المحسنات أصلا, وأن خير الكلام ما خرج مخرج الحق, وجاء على منهج الصدق.
كما يشهد له قول حسان بن ثابت:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المسامع أن كيس وأن حمقا
وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وذهب آخرون إلى أنها مقبولة مطلقا, بل الفضل مقصور عليها, لأن أحسن الشعر أكذبه, وخير الكلام ما بولغ فيه. ومن فقراتهم المستعذبة قولهم في الشعر (أعذبه أكذبه) . ولهذا استدرك النابغة على حسان قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
حيث استعمل جمع القلة - أعني الجفنات والأسياف - وذكر وقت الضحوة وهو وقت تناول الطعام, وقال: يقطرون دون يسلن, ويفضن, أو نحو ذلك. ويروى هذا الاستدراك للخنساء بحضرة النابغة على وجه أتم من هذا.
ذكروا أن النابغة الذبياني كان يجلس للشعراء في سوق عكاظ وينشدونه فيفضل من يرى تفضيله.
وأنشدته الخنساء في بعض المواسم قصيدتها التي مطلعها:
قذى بعينيك أم بالعين عوار ... أم أوحشت إذ خلت ن أهلها الدار
فأعجبه شعرها فقال: والله لولا أن هذا الأعمى - يعني الأعشى - أنشدني قبلك لفضلتك على شعراء هذا الموسم. وفي رواية, لقلت: أنك أشعر الجن والأنس, وقيل: قال لها: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك, فقالت: وذا خصية يا أبا أمامة, فقال: وذا خصية. وكان ممن عرض شعره في ذلك الموسم حسان بن ثابت, فغضب وقال: انا أشعر منك ومنها, فقال: ليس الأمر كما ظننت, ثم ألتفت الخنساء فقال: يا خناس خاطبيه, فالتفتت إليه فقالت: ما أجود بيت في قصيدتك التي عرضتها آنفا؟ قال: قولي:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
(1/310)
________________________________________
فقالت: ضعفت افتخارك وانزرته في ثمانية مواضع في بيتك هذا, قال وكيف؟ قالت: قلت (الجفنات) والجفنات ما دون الشعر, ولو قلت الجفان لكان أكثر. وقلت (الغر) والغرة بياض يكون في الجبهة, ولو قلت: البيض لكان أكثر اتساعا. وقلت (يلمعن) واللمع شيء يأتي بعد شيء, ولو قلت: يشرقن لكان أكثر, لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت (بالضحى) ولو قلت: بالدجى لكان أكثر إشراقا. وقلت (وأسيافنا) والأسياف دون العشر ولو قلت: سيوفنا كان أكثر. وقلت: يقطرن, ولو قلت: يسلن كان أكثر. وقلت من نجدة, والنجدات أكثر. وقلت: دما والدماء أكثر من الدم. فلم يجر جوابا. انتهى.
وأجيب, أولا بأن حسان لا يرى حسن المبالغة, كما صرح به في شعره بالسابق, مع تسليمه فالجواب: عن الأول, بأن جمع القلة قد يستعمل في الكثرة,, وهنا كذلك كقوله تعالى (وهم في الغرفات آمنون) مع أن في الجنة غرفا كثيرة, والقرينة وصف الجفنات بالغر, وهي جمع كثرة.
وعن الثاني, بأن الغر هنا ليس جمع غرة كما نقد, وإنما الغرِ: البيض المشرقات من كثرة الشحوم وبياض اللحوم, وهي جمع غراء وهي البيضاء.
وعن الثالث, بأن اللمعان هو المستعمل في هذا النحو الذي يدل به على البياض كما تقول: لمع السراب, ولمع البرق.
وعن الرابع, بأن الذي يلمع في الضحى أشد نورا, فإن قليل النور يضمحل في ضوء الشمس, ولذلك ترى كثيرا من الأشياء المشرقة النيرة يلمع ليلا ولا يلمع نهارا, كعيون بعض السباع, وخاصة الضبع, فإن عينيه ترى في الليل كأنها جمرة تتقد, ولا ترى في النهار كذلك؛ وما ذلك إلا لضعف نورها وغلبه نور الشمس عليها. فكلما يلمع نهارا يلمع ليلا ولا عكس.
وعن الخامس, بما أجيب به عن الأول.
وعن السادس, بأنه تبع فيه الاستعمال في مثل هذا المقام. فإن العرب يقولون في وصف الشجاع: سيفه يقطر دما, ولم تجر العادة بأن يقال: سيفه يسيل دما, أو يجري دما. مع أن يقطر أمدح, لأنه يدل على مضاء السيف, وسرعة خروجه عن الضريبة, حتى لا يكاد يعلق به دم, ولو علق إنما يعلق شيء يسير, بحيث يقطر ولا يسيل, وكثرة الدم على السيف تدل على ثقل حركة الضارب وضعف ساعده. ومن هذا يظهر الجواب الثامن أيضاً.
وعن السابع, أن للتنكير في قوله: من نجدة, للتعظيم, فالمبالغة موجودة.
وعن الثامن, ما تقدم في جواب السادس والله وأعلم.
وقال جماعة من المحققين: إن المذهب المرضي في المبالغة أنه أن أريد بها ادعاء بلوغ وصف في الشدة والضعف حدا مستبدا, ممكنا عقلا وعادة, فهي من المحسنات المقبولة بل المطلوبة, وسماها بعضهم حينئذ: التبليغ, وابن المعتز: الإفراط في الصفة. وأن أريد بها ما يشتمل التبليغ والإغراق والغلو (كما في التلخيص والإيضاح) انقسمت باعتبار أقسامها المذكورة إلى مقبولة ومردودة. فالتبليغ والإغراق مبالغتان مقبولتان, والغلو أن أفضى إلى الكفر أو قاربه كان مبالغة مردودة وإلا فمقبولة, والفرق بين الثلاثة أن المدعي للوصف في الشدة أو الضعف إن كان ممكنا عقلا أو عادة فهو التبليغ كما عرفت, وإن كان ممكنا عقلا لا عادة فهو الإغراق, وإن لم يكن ممكنا لا عقلا ولا عادة فهو الغلو.
وقال بعض المتأخرين - وهو القول الأمم والمذهب الأقوم -: الحق أن فضل المبالغة لا ينكر لوقوعها في القرآن الكريم, ومنها جميع أبواب التشبيه والاستعارة والكناية, وقد استكثر منها حسان وإضرابه من مرجحي جانب الصدق, لكن لا تنحصر الإجادة فيها فقد رأينا الصدق المحض كثيرا في غاية الحسن ونهاية الجودة.
كقول زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقول الآخر:
وأكرم أخلاق يدل بها الفتى ... عفاف مشوق حين يخلو بشائق
ورأينا كثيرا من المبالغة لا يرضاها ذو طبع سليم كقول ابن الحجاج:
وراحة لو صفعت حاتما ... علمت الجود قفا حاتم
وعلم من ذلك أن المردود من المبالغة غير منحصر في الغلو المفضي إلى الكفر. انتهى.
وهو كما تراه كلام من الحسن بمحل, ثم ليس المراد المبالغة هنا إلا التبليغ, وأما الإغراق والغلو فسيأتي الكلام على كل منها مستوفى في محله إنشاء الله تعالى.
(1/311)
________________________________________
ومن أمثلتها في الكتاب العزيز قوله تعالى: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها) . الذهول: الذهاب عن الأمر بدهشة. والمرضعة, هي التي ألقمت ثديها الصبي. والمرضع - بغير هاء - هي التي من شانها أن ترضع. والمعنى أن هول القيامة إذا فاجأها وقد ألقمت الصبي ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة عن الذي أرضعته.
وعن الحسن, تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام, وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. فالذهول والوضع المذكوران مبالغة في وصف يوم القيامة بالشدة وهما ممكنان, ووصف يوم القيامة في شدة الهول إلى هذا الحد أمر ممكن عقلا وعادة, وهي عادة مبالغة مستحسنة.
ومن أمثلتها في الشعر قول امرئ القيس:
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكا فلم ينضح بماء فيغسل
العداء بالكسر والمد: الموالاة بين الصيدين, يصرع أحدهما على أثر الآخر في طلق واحد.
يقول: عاديت بين الصيدين, أي صدتهما في شوط واحد للفرس. واراد بالثور الذكر من بقر الوحش, وبالنعجة الأنثى منها. والدرك بالكسر: المتتابع, وهو صفة لعداء في البيت. ويغسل مجزوم معطوف على ينضح, أي لم يعرف فلم يغسل. ادعى أن هذا الفرس أدرك ثورا وبقرة وحشيين في مضمار واحد ولم يعرق. وهذا أمر ممكن عقلا وعادة.
ومثله قول أبي الطيب المتنبي:
وأصرع أي وحش قفَّيته به ... وانزل عنه مثله حين أركب
وقال ابن أبي الأصبع: أبلغ شعر سمعته في باب المبالغة قول شاعر الحماسة, إذ بالغ في مدح ممدوحه فقال:
رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد
ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكن مالا يستطاع شديد
فانظر ما أحلى احتراسه عن ذلك بقوله (وما فوق شكري للشكور مزيد) . وانظر كيف أظهر عذره في عجزه مع قدرته بأن قال في البيت الثاني (ولو كان مما يستطاع استطعته) ثم اخرج بقية بيت المبالغة مخرج المثل السائر حيث قال (ولكن ما لا يستطاع شديد) .
ومن هنا قال أبو نواس:
لا تسدين إلي عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
قلت: ومثل هذين البيتين في حسن مبالغتهما وبديع لفظهما ومعناهما قول الآخر:
وكم لك نعمى لو تصدى لشكرها ... لسان معد لاعتراه كلول
أكلف نفسي أن أقابل عفوها ... بجهدي وهل يجزي الكثير قليل
ومن المبالغة المجازية قول نصيب في هشام. قيل: دخل نصيب بن رباح على هشام بن عبد الملك فأنشده:
إذا استبق الناس العلى سبقتهم ... يمينك عفوا ثم صلت شمالكا
فقال له هشام: بلغت غاية المدح فسلني, فقال: يا أمير المؤمنين يداك. بالعطية أطلق من لساني بالمسألة, فقال: لابد أن تفعل, قال: لي ابنة نفضت عليها من سوادي فأكسدها, فلو نفقها أمير المؤمنين بشيء يجعله لها. فأقطعها أرضا وأمر بحلي وكسوة, فنفقت السوداء.
ومن المبالغة المستجادة قول مسلم بن الوليد في الخمر:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت بنا مشي المقيد في الوحل
حكي أن الرشيد لما ظفر بمسلم بن الوليد وكان قد رمي عند بالتشيع رق عليه, وعفا عنه, ثم قال له. أنشدني أشعر شعر لك. فكلما بدأ بقصيدة قال: لا, التي يقول فيها: الوحل, فإني رويتها وأنا صغير, حتى انتهى إلى قوله:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت بنا مشي المقيد في الوحل
فضحك هارون وقال: أما رضيت أن قيدته حتى جعلته يمشي في الوحل؟ انتهى.
وهذا الذي قصده قدامة في حده للمبالغة حيث قال: هي أن يذكر المتكلم حالا من الأحوال لو وقف عندها لا جزأت, فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره أبلغ من معنى قصده. انتهى.
غير أن هذا الحد للمبالغة بالمعنى الشامل للإغراق, والغلو, والتبليغ. لا للتبليغ وحده كما توهمه ابن حجة. ويدلك على ذلك إنه مثل لها بما مثل من غير للإغراق وهو:
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا
فإن دعوى أن جاره لا يميل عنه إلى جانب, إلا وهو يرسل الكرامة والعطاء على أثره, أمر يمكن عقلا لا عادة, فهو إغراق لا تبليغ. والمبالغة في الشعر أكثر من أن يوقف لها على آخر.
ولقد تصفحت ديوان حسان بعد سماع قوله:
وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
فرأيت أكثر شعره مبنيا على المبالغة, كقوله في الغزل:
(1/312)
________________________________________
أما النهار فلا أفتر ذكرها ... والليل توزعني بها أحلامي
أقسمت أنساها وأترك ذكرها ... حتى تغيب في التراب عظامي
وقوله وهو من الإغراق:
لو يدب الحولي من ولد الذر عليها لأندبتها الكلوم
يقول لو يدب الصغير من ولد الذر على جلدها لأثر فيه وجرحه. ولم يرد بالحولي ما أتى عليه الحول ولكن جعله في صغره كالحولي من ولد الحافر والخف في صغره.
وقوله, وهو من الغلو المقبول:
ولو وزنت رضوى بحلم سراتنا ... لمال برضوى حلمنا ويلملم
وقوله في وصف الحرب, وهو إغراق وتبليغ:
تشيب الناهد العذراء وفيها ... يسقط من مخافتها الجنين
فالأول إغراق لا مكانه عقلا وامتناعه عادة, والثاني تبليغ لا مكانه عقلا وعادة. وهو في شعره كثير جدا. فالمنازع في حسن المبالغة, وعلو رتبتها مطلقا مكابرة لا عبرة بقوله.
واعلم أن كثيراً ممن تشبث بعلم البديع أورد في نوع المبالغة التي هي بمعنى التبليغ بعض أمثلة الإغراق والغلو, توهما منه أنه تبليغ, ولم يميز بفهمه بين الثلاثة, وقد أوضحنا في أول هذا النوع ما يتميز به كل واحد منها عن الآخر, فلا تخل ذهنك منه عند الوقوف على الأمثلة.
وبيت البديعية الشيح صفي الدين في هذا النوع قوله:
كم قد جلت جنح ليل النقع طلعته ... والشهب أحلك ألوانا من الدهم
قال في شرحه: موضع المبالغة في بيت القصيدة عجزه. انتهى.
وبيانها: إنه أدعى بلوغ ظلمة النقع وشدة سواده إلى حد صارت فيه الشهب - وهي التي يغلب بياض لونها على سواده - أشد حلكة - أي سوادا - من الدهم - وهي السود - وهذا ممكن عقلا وعادة.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
يمم نبيا تباري الريح أنمله ... والمزن من كل هامي الودق مرتكم
كان أولى بابن جابر أن يبالغ في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكرم بأكثر من هذا, فإن المبالغة في مدحه عليه وآله والصلاة والسلام كلا مبالغة.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
إمدح وجز كل حد في مبالغة ... حقا ولا تطر تقبل غير متهم
هذا البيت لا يظهر منه إلا وصيته للمادح بأنه إذا مدح يتجاوز كل حد. قوله (ولا تطر تقبل غير متهم) لا يفهم ما غنى به, فإن الإطراء - كما في القاموس - المبالغة في المدح, فالنهي عنه لا معنى له هنا, ولعله له هنا, ولعله فهم للإطراء معنى آخر.
وبيت بديعة ابن حجة قوله:
بالغ وقل كم رجلا بالنور ليل وغى ... والشهب قد رمدت من عثير الدهم
بالغ ابن حجة في إعجابه بمبالغة هذا البيت, وليس تحته كبير أمر. أما صدره فمأخوذ من صدر بيت الشيخ صفي الدين كما ترى, وأما عجزه فعليه مؤاخذة ظاهرة, ونقد بين, وذلك: أنه عنى بالشهب النجوم بقرينة استعارة الرمد منها, والحرب لا تكون في الليل حتى يغشى عثير الخيل ضوءها فيخفي شعاعها, إلا إذا كانت تبييتا, والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبيت أحدا من أعدائه قط, ولا كان يرى ذلك, وليس من عاداتهم استمرار الحرب إلى الليل, بل إذا أمسى المساء تحاجزوا, ورجعوا عن مصافهم إلى مواطنهم. وبعد الإغماض عن هذه المؤاخذة المعنوية التي لا يحوم حولها فهم ابن حجة نقول: ليس في هذا العجز كبير مبالغة - وقد زعم أنه أبلغ من صدره - وذلك أنه أراد برمد الشهب في قوله (قد رمدت من عثير الدهر) على طريق الاستعارة التبعية: قلة إشراقها, وعدم شدة لمعانها, من الغبار الذي أثارته حوافر الخيل, ولا خفاء أن كل جيش سار بالليل وأثارت حوافر خيله الغبار ضعف معه إشراق الكواكب وهذا أمر واقعي لا مبالغة فيه فتدبره. ولعله فهم أن الشيخ صفي الدين أراد بالشهب في بيته (الكواكب) فأراد أن يحذو حذوه, وليس في بيت الشيخ صفي الدين ما يعين أنه أراد بالشهب الكواكب. ولو سلم فالمبالغة فيه التي في بيت ابن حجة قطعا كما لا يخفى.
وبيت بديعيتي هو قولي:
كل البليغ وقد أطرى مبالغة في هذا البيت أظهر من أن تبين, والإطراء هو المبالغة في المدح كما في القاموس فإنه قال: أطراه: بالغ في مدحه, وفي الصحاح, أطراه: مدحه, غير أن صاحب القاموس جعله مهموزاً وصاحب الصحاح يائيا. ودعوى كلال البليغ حال مبالغته في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم بالجود عن حصر بعض ما جاد به من النعم الجسام, والرغائب العظام, أمر ممكن عقلا وعادة.
(1/313)
________________________________________
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
بالغ بما شئت مدحا فيه مجتنبا ... ما لا يليق بخير الخلق كلهم
هذا البيت مثل بيت الشيخ عز الدين الموصلي, فإنه ما زاد على أن وصى المادح أن يبالغ بما شاء في مدحه صلى اله عليه وآله وسلم مجتنبا ما لا يليق به, وليس فيه من المبالغة شيء.
وبيت بديعية المقري قوله:
وروت الأرض طرا من حديث دم ... جرى قديما فأغناها عن الديم
قال في شرحه: المبالغة في قوله (روت الأرض) يعني الظبا, من الدم بما أغناها عن الديم, والحديث ضد القديم. وقوله (جرى قديما) بالنسبة إلى وقتنا, ففي البيت التوهيم أيضاً. انتهى ملخصا.
ولا يخفى أن قوله (طرا) أخرج البيت من المبالغة إلى الإغراق , بل إلى الغلو, لأن ذلك مستحيل عقلا وعادة.
الإغراق
لو أنه رام إغراق العداة له ... لأصبح البر بحرا غير مقتحم
الإغراق هو أن تدعي لشيء وصفا بالغا حد الإمكان عقلا, والاستحالة عادة.
كقول عمرو بن الأيهم:
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا
فإنه أدعى أن جاره لا يميل عنه إلى وجهة إلا وهو يتبعه الكرامة. وهذا عقلا, مستحيل عادة.
ومنه قول امرئ القيس:
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
فإن أذرعات الشام, ويثرب مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم, ورؤية النار من بعد هذه المسافة - إذا لم يكن ثم حائل من جبل ونحوه - لعظم جرمها لا يمتنع عقلا ويمتنع عادة. هذا أن فسر قوله (تنورتها) بمعنى نظرت إلى نارها حقيقة, وأما أن فسر بمعنى توهمت نارها, وتخيلتها في فكري, لم يكن فيه إغراق.
وقول أبي الطيب المتنبي:
روح تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
كفى بجسمي نحولا أنني رجلا ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
فدعوى نحول الشخص حتى يصير مثل الخلال, ولا يستدل عليه إلا بالكلام, أمر ممكن عقلا, إذ الشيء الدقيق إذا كان بعيدا لا يرى, بخلاف الصوت, ولكن ذلك ممتنع عادة.
وقد تفنن الشعراء في المبالغة في النحول, فمن ذلك قول الآخر:
ها فانظروني سقيما بعد فرقتكم ... لو لم أقل ها أنا للناس لم أبن
لو أن إبرة رفاء أكلفها ... جريت في ثقبها من دقة البدن
والبيت الثاني من الغلو.
وما أحلى وألطف قول الشيخ عمر بن الفارض:
كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي
وقول نصر السفاقسي والبيت الأول من الغلو, والثاني من الإغراق:
أذابه الحب لو تمثله ... بالوهم خلق لأعياهم توهمه
لولا الأنين ولوعات تحركه ... لم يدره بعيان من يكلمه
وقول بعضهم:
قد سمعتم أنينه من بعيد ... فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين
وقول الآخر مع بديع التلميح, وهو ممدود من محاسن شواهد هذا النوع:
فلو أن ما بي من جوى وصبابة ... على جمل لم يبق في الناس كافر
يريد أنه لو كان ما به من الحب على جمل لنحل حتى يلج في سم الخياط فيخرج الكفار من النار, لأنه تعالى قال (ولا يدخلون الجنة حتى يلح الجمل في سم الخياط) فلمح إلى الآية بناء على ظاهرها, وإلا فالمراد بها التأبيد. قالوا: ونحول الجمل حتى يدخل في سم الخياط غير مستحيل عقلا, إذ القدرة صالحة لذلك, لكنه ممتنع عادة.
ومنه قول النظام:
توهمه طرفي فآلم خده ... فصار مكان الوهم من نظري أثر
وصافحه كفي فآلم كفه ... فمن صفح كفي في أنامله عقر
ومر بذكري خاطرا فجرجته ... ولم أر خلقا قط يجرحه الفكر
يقال: أن الجاحظ لما بلغته هذه الأبيات قال: هذا لا ينبغي أن يناك إلا بأير من الوهم.
وفي معنى البيت الأول قول الآخر:
وإذا توهم أن يراها ناظري ... ترك التوهم وجهها مكلوما
ومن الإغراق في المدح قول (الحسين) بن مطير:
له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم فيه للناس انعم
فيمطر يوم الجود من كفه الندى ... ويقطر يوم البؤس من كفه الدم
فلو أن يوم البؤس لم يثن كفه ... عن الناس لم يصبح على الأرض مجرم
ولو أن يوم الجود فرغ كفه ... لبذل الندى لم يبق في الأرض معدم
وقال إعرابي في النحول أيضاً:
(1/314)
________________________________________
ولو أن ما أبقيت مني معلق ... بعوم ثمام ما تأود عودها
وقال المجنون في ذلك:
إلا إنما غادرت يا أم مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
وقال بشار بن برد:
في حلتي جسم فتى ناحل ... لو هبت الريح به طاحا
حدث علي بن الصباح على بعض الكوفيين قال: مررت ببشار وهو منبطح في دهليزه كأنه جاموس, فقلت له: يا أبا معاذ من الذي يقول (في حلتي جسم فتى ناحل) البيت؟ قال: أنا, فقلت: فما حملك على هذا الكذب؟ والله إني لا أرى أن الله لو بعث الرياح التي أهلك بها الأمم الخالية ما حركتك من موضعك. فقال بشار من أين؟ قلت من أهل الكوفة, فقال: يا أهل الكوفة لا تدعون ثقلكم ومقتكم على كل حال.
وقال أحمد بن عبد ربه:
سبيل الحب أوله اغترار ... وآخره هموم وادّكار
وتلقى العاشقين لهم جسوم ... براها الشوق لو نفخوا لطاروا
ومنه قول ربيعة الرقية للعباس بن محمد:
إن المكارم لم تزل معقولة ... حتى حللت براحتيك عقالها
العود يرطب إن مسست لحاءه ... والأرض تعشب أن وطئت رمالها
وقول ابن الرومي:
أيامنا غدوات كلها بكم ... خلالهن ليال مثل أسحار
لكم خلائق لو تحظى السماء بها ... لما ألاحت نجوما غير أقمار
وقوله أيضاً:
تغنون عن كل تقريظ بفضلكم ... غنى الظباء عن التكحيل بالكحل
تلوح في دولة الإسلام دولتكم ... كأنها ملة الإسلام في الملل
وقول أبي تمام من قصيدة يمدح بها عبد الله بن الطاهر:
فنول حتى لم يجد من ينيله ... وحارب حتى لم يجد من يحاربه
وقوله في قصيدة المأمون:
الله أكبر جاء أكبر من جرت ... فتحيرت في كنه الأوهام
من لا يحيط الواصفون بقدره ... حتى يقولوا قدره إلهام
من شرد الإعدام عن أوطانه ... بالبذل حتى استطرف الإعدام
وتكفل الأيتام عن آبائهم ... حتى وددنا أننا أيتام
وقوله من أخرى في المعتصم:
تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
وقول الشريف الرضي في النسيب:
ولو نفضت تلك الثنيات بردها ... على الصبر الممرور كان يطيب
وقول أن نباته السعدي في فرس:
لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه
وقول النظام في معنى ما تقدم له آنفا:
ظبي بدا يأنس الأنس ... يجرح اللحظ وباللمس
تحار عين الشمس في وجهه ... كما تحار العين في الشمس
لو صاح بالميت على غفلة ... أجابه الميت من الرمس
ويقال: أن أبا العتاهية قال: أنشدت النظام: أأأههخثقهخعقهيبتنيمبتلنميبتلنميبإذا هم النديم له بلحظ=تمشت في محاسنه الكلوم فقال ينبغي أن ينادم هذا أعمى.
وقد استعمل النظام هذا المعنى في شعره كثيرا, فمنه ما تقدم, ومنه قوله أيضا:
رق فلو بزت سراويله ... علق بالجو من اللطف
يجرحه اللحظ بتكراره ... ويشتكي الإيماء بالطرف
وسيأتي في نوع الغلو ما هو قريب من هذا المعنى, لكنه أكثر مبالغة.
ودون هذا الإغراق قول بعضهم:
لو خليت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من رقة للمشي تنفطر
وهذا البيت من جملة أبيات لها حكاية لطيفة وهي, ما روي أن سليمان بن عبد الملك كان في بادية يسمر على ظهر سطح, ثم تفرق عنه جلساؤه, فدعا بضوء, فجاءته جارية به, فبينا هي تصب على يديه قطعت الصب, فأشار إليها بيديه مرارا فلم تصب عليه, فأنكر ذلك, ورفع رأسه, وإذا هي مصغية إلى ناحية العسكر.
وإذا صوت رجل يغني بأبيات وهي:
محجوبة سمعت صوتي فأرقها ... في آخر الليل لما ظلها *****
تثني على جيدها ثنتي معصفرة ... والحلي منها على لبانها خصر
في ليلة النصف لا يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر
لو خليت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من رقة للمشي تنفطر
وكأن غيورا فأمر بإخصاء المغنين.
والشعر في نوع الإغراق كثير, وفي هذا المقدار كفاية إنشاء الله تعالى.
(1/315)
________________________________________
وتبين بهذه الأمثلة المذكور سقوط ابن حجة: إن الإغراق لا يعد من المحاسن إلا إذا أقترن بما يقربه إلى القبول, كقد: للاحتمال, ولولا: للامتناع, وكاد: للمقاربة, ونحو ذلك. انتهى. فإن الأمثلة المذكورة ما خلي عن ذلك, وهو في غاية الحسن, فلا عبرة بقوله.
وبيت البديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
في معرك لا تثير الخيل عثيره ... مما تروي المواضي تربه بدم
هذا البيت عامر بالمحاسن, والإغراق فيه ظاهر لإمكان معناه عقلا, واستحالة عادة.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله في النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
لو قابل الشهب ليلا في مطالعها ... خرت حياء وأبدت بر محترم
هذا البيت لكونه في مدح سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين كأن معناه ممكنا عقلا, ولو كان معناه ممكنا عقلا, ولو كان في مدح غيره لكان من باب الغلو.
وبيت البديعية عز الدين الموصلي قوله:
لو شاء إغراق وجه الأرض أجمعه ... ندى يديه لأحياها ولم يضم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
لو شاء إغراق من في الحق كذبه ... لفاض إصبعه بالزاخر العمم
وبيت بديعيتي هو قولي:
لو أنه رام إغراق العداة له ... لأصبح البر بحرا غير مقتحم
الإغراق في هذا البيت ظاهر, وهو أبلغ منه في بيت ابن حجة, لأنه قال (لو شاء إغراق من ناواه مد له في البر بحرا) وأنا قلت (لا نقلب البر بحرا) وبينهما بون بائن.
وبيت البديعية المقري قوله:
لولا غليل شفته الأرض من دمهم ... شربا لما جت ببحر منه ملتطم
قال في شرحه معناه: لولا أن الأرض كان بها على قتلاه من الكفار غيظ وخنق فشفت غليلها منهم بشرب دمائهم كما يفعله المبالغون في العداوة لكانت الدماء من كثرتها تموج من فوقها بحرا. انتهى.
الغلو
ولا غلو إذا ما قلت عزمته ... تكاد تثني عهود الأعصر القدم
الغلو هو أن تدعي لشيء وصفا بالغا حد الاستحالة عقلا وعادة. فتبين بهذا أن المبالغة دون الإغراق, والإغراق دون الغلو, لما مر من أن المدعي في المبالغة ممكن عقلا وعادة, وفي الإغراق ممكن عقلا ولا عادة, وفي الغلو مستحيل عقلا وعادة. والغلو أن أفضى إلى الكفر كان قبيحا مردودا, وإلا كان مقبولا, والمقبول يتفاوت في الحسن, وأحسنه ما دخل عليه ما يقر به إلى الصحة, ككاد, ولو, ولولا وحرف التشبيه كقوله تعالى (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) فإن إضاءة الزيت مع عدم مسيس النار مستحيلة عقلا وعادة, وبدخول (يكاد) خرج عن الامتناع, لأنها دلت على مقاربة الإضاءة لا وقوعها الذي هو المستحيل.
ومثله قول الفرزدق في علي بن الحسين عليه السلام:
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
وقول الشريف الرضي رضي الله عنه والغلو فيه مجازي:
أشكو ليالي غير معتبة ... أما من طول أو من القصر
تطول في هجركم وتقصر في الوصل فما تلتقي على قدر
يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيه العشاء ب*****
قيل أول ما بالغ في الشعر وكذب فيه المهلهل بقول:
ولولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
وهذا من الغلو, فإنه ممتنع عقلا وعادة, لأنه كان بين حجر وبين موضع الوقع عشرة أيام, ولهذا قيل فيه: أنه كذب بيت قالته العرب.
ومنه قول أبي العلاء المعري في شدة الحنين عند لمع البرق:
شجا ركبا وأفراسا وإبلا ... وزاد فكاد أن يشجو الرحالا
وقوله أيضاً من هذه القصيدة:
تكاد قسيه من غير رام ... تمكن في قلوبهم النبالا
تكاد سيوفه من غير سل ... تجد إلى رقابهم انسلالا
وما أبدع قوله منها وهو مما نحن فيه:
يذيب الرعب منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه انسلالا
وفي معناه قول ابن المعتز:
يكاد يجري من القميص من ال ... نعمة لولا القميص يمسكه
وقول أبي الشيص:
لولا التمنطق والسوار معا ... والحجل والدملوج في العضد
لتزايلت من كل ناحية ... لكن جعلن لها على عمد
ومنه أخذ ابن النبيه قوله:
لها معصم لولا السوار يصده ... إذا حسرت أكمامها لجرى نهرا
ومثله قول بعضهم:
لها من الليل البهيم طرة ... على جبين واضح نهاره
(1/316)
________________________________________
ومعصم يكاد يجري رقة ... وإنما يعصمه سواره
وقال عبد العزيز بن عبد الرزاق في معناه:
قالت وقد صرت كطيف الخيال ... كيف ترى فعل الدمى بالرجال
وسددت سهما إلى مقتلي ... تقول هل فيك لدفع النصال
رقيقة الجسم فلولا الذي ... يمسكه من قسوة القلب سال
وما ألطف قول شرف الدين الحلاوي يصف قدحا من أبيات:
رق فلولا الأكف تمسكه ... سال مع الخمر حين ترشفه
وأبدع من ذلك كله وألطف قول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:
شرقت معاطفه بأمواه الصبا ... وجرى عليه بضاضة ونعيم
قد كاد تشربه العيون لطافة ... لكن سيف لحاظه مسموم
وقوله أيضاً في معناه:
رقت شمائله ورق أديمه ... فيكاد تشربه عيون الناظر
ويعجبني جدا قول بعضهم في الخمر:
كادت تطير وقد طرنا بها ... لولا الشباك التي صيغت من الحبب
وما أعجب قول بعضهم في الخمر:
أما الصبوح فإنه فرض ... فإلى من يكحل جفنك الغمض
هذا الصباح بدت بشائره ... ولخيله في ليله ركض
والليل قد شابت ذوائبه ... وعذراه بالفجر مبيض
فانهض إلى حمراء صافية ... قد كاد يشرب بعضها بعض
يستقيكها من كفه رشأ ... لدن القوام مهفهف بض
سيان خمرته وريقته ... كلتاهما عنبية محض
تدمي اللواحظ خده نظرا ... للحظ في وجناته عض
من ضمه فتح السرور له ... بابا وكان لعيشه الخفض
باهت وقد أبدى محاسنه ... قمر السماء بحسنه الأرض
يسعى بها كالشمس مشرقة ... للعين عن إشراقها غض
والكأس إذ تهوي بها يده ... نجم بجنح الليل منقض
بات الندامى لا حراك بهم ... إلا كما يتحرك النبض
في روضة يهدي لنا شقها ... أرج الحبائب زهرها الغض
ختم الحيا أزهارها فغدا ... بيد النسيم لختمها فض
فاشرب على حافتها طربا ... وأنهض لها ما أمكن النهض
لا تنكرن لهوى على كبري ... فعلي من عصر الصبا قرض
أعرى العذول بلومه شغفي ... فكأنما إبرامه نقض
خالفته والرأي مختلف ... شأني الوداد وشأنه البغض
مهلا فليس على الفتى دنس ... في الحب ما لم يدنس العرض
وبديع قول ابن حمديس القلي في وصف فرس:
يجري ولمع البرق في آثاره ... من كثرة الكبوات غير مفيق
ويكاد يخرج سرعة من ظله ... لو كان يرغب في فراق رفيق
ومثله قول شمس الدولة عبدان:
أبت الحوافر أن يمس بها الثرى ... فكأنه في جريه متعلق
فكأن أربعة تراهن طرفه ... فتكاد تسبقه إلى ما يرمق
ولمؤيد الدين الطفرائي يصف خيلا:
سبقت حوافرها النواظر فاستوى ... سبق إلى غاياتها وشفون
لولا ترائي الغايتين لأقسم ال ... راؤن أن حراكها تسكين
وتكاد تشبهها البروق لو أنها ... لم تعتلقها أأعين وظنون
وقال معاوية بن مرداس:
يكاد في شأوه لولا أسكنه ... لو طار ذو حافر من قبله طارا
ومثله قول الآخر:
لو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر
ومنه قول البحتري:
لو أن مشتاقا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
ومنه أخذ المتنبي قوله:
لولا تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محيية إليك الأغصنا
إلا أن بيت البحتري أحسن وأمكن.
حدث أحمد البلاذري المؤرخ قال: كنت من جلساء المستعين, فقصده الشعراء فقال: لست أقبل إلا ممن قال: مثل قول البحتري في المتوكل (لو أن مشتاقا - البيت) فرجعت إلى داري, وأتيته وقلت: قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري, فقال: هاته, فأنشدته:
ولو أن برد المصطفى إذ لبسته ... يظن لظن البرد أنك صاحبه
وقال وقد أعطيته ولبسته ... نعم هذه أعطافه ومناكبه
فقال ارجع إلى منزلك وأفعل ما آمرك به. فرجعت, فبعث إلي بسبعة آلاف دينار وقال: أدخر هذه للحوادث بعدي, ولك على الجراية والكفاية ما دمت حيا. انتهى.
قلت: ولعمري لقد أساء الأدب هذا الشاعر مع المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم, وسيجازيه الله تعالى على قلة أدبه. وهذا من الغلو القبيح المردود.
ومنه قول التمار الواسطي وقيل غيره:
(1/317)
________________________________________
قد كان لي فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت تمنطقت به
وذبت من شوق فلو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه
وقول المظفر بن كيغلغ:
عبدك أمرضته فعده ... أتلفه إن لم تكن ترده
ذاب فلو فتشت عليه ... كفك في الفرش لم تجده
وقول ابن دانيال:
محب غدا جسمه ناحلا ... يكاد لفرط الضنى أن يذوبا
ورق فلو حركته الصبا ... لصار نسيما وعادت قضيبا
وقول بعضهم:
ولو شئت في طي الكتاب لزرتكم ... ولم تدر عني أحرف وسطور
وقول الوزير ابن العميد:
لو أن ما أبقيت من جسمي قذى ... في العين لم يمنع من الإغفاء
ومن هنا أخذ الشيخ جعفر الخطي من شعراء هذا القرن فقال:
لقد تضائل حتى لو قذفت به ... في مقلة ما أحسته مآقيها
وأكثر من ذلك غلوا قول أبي عثمان الخالدي:
بنفسي حبيب بأن صبري ببينه ... وأودعني الأحزان ليلا ودعا
وأنحلني بالهجر حتى لو أنني ... قذى بين جفني أرمد ما توجعا
وتجاوز المتنبي أبعد من ذلك فقال:
أراك ظننت السلك جسمي فعقته ... عليك بدر عن لقاء الترائب
ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
ومنه قول الشيخ جعفر الخطي رحمه الله:
وعبرة لو دعي نوح ليسلكها ... بفلكه قال بسم الله مجريها
ومقلة ألفت فرط السهاد فلو ... رد الرقاد عليها كاد يؤذيها
وقولي من أبيات خمرية:
رقت فلولا الكأس لم تبصر لها ... جسما ولم تلمس براحة لامس
فكأنها عند المزاج لطافة ... وهمٌ يخيله توهم هاجس
وقول الشريف الرضي رضي الله عنه:
لو أن قومك نصلوا أرماحهم ... بعيون سربك ما أبل طعين
ومن أحسن أنواع الغلو أيضاً ما تضمن نوعا حسنا من التخييل, وإن لم يأت فيه بأداة التقريب, ومثل له الخطيب في الإيضاح والتلخيص بقول أبي الطيب:
عقدت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغي عنقا عليه لا مكنا
وتبعه على ذلك ابن حجة فقال: ومن الغلو المقبول بغير أداة التقريب قول أبي الطيب - وأنشد البيت - وأعترض ذلك بعض المتأخرين فقال: قد عدوا من أدوات التقريب (لو) وصرح بذلك ابن حجة في الإغراق فقال: ولم يقع شيء من الإغراق والغلو في الكتاب العزيز, ولا في الكلام الفصيح إلا مقرونا بما يخرجه من باب الاستحالة, ويدخله في باب الإمكان مثل (كاد) و (لو) وما يجري مجرهما, ثم قال: ومن شواهد تقريب نوع الإغراق (بلو) قول زهير:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لأولهم أو مجدهم قعدوا
قال (لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا) وهو محل الشاهد, فإن صدره لا غلو فيه البتة, فكيف يقال أنه من الغلو بغير أداة التقريب؟.
وقد جمع القاضي الأرجاني بين حسن التخييل وأداة التقريب في قوله:
يخيل لي أن سمر الشهب في الدجى ... وشدت بأهدابي إليهن أجفاني
فقوله (يخيل) هي أداة التقريب, فإنه جعل المدعى توهما لا حقيقة وأما حسن التخييل فهو ما أدعاه من أنه لطول ليلة وشدة سهره يوقع في خياله أن الشهب محكمة بالمسامير لا تزول عن مكانها. وشدت أجفانه إليها بأهدابه لعدم انطباقها والتقائها, فجعل الأهداب بمنزلة الحبال. ولا خفاء بما في هذا التخييل من الحسن.
وإلى هذا المعنى لمح ابن نباتة في قوله - وإن لم يستوفه -:
كم ليلة بت أشكو من تطاولها ... علي والليل داجي القلب كافره
وأرقب الشهب فيه وهي ثابتة ... كأنما سمرت منها مسامره
ومن الغلو المقبول, ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة كقول أبي الشكر محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي المعروف بابن المحتسب من قصيدة:
أمر بالكرم خلف حائطه ... تأخذني نشوة من الطرب
أسكر بالأمس إن عزمت على الشرب غدا إن ذا من العجب
فإن السكر في الأمس للعزم على الشرب في الغد محال, لكنه مقبول لإخراجه مخرج الهزل والخلاعة, وذلك مما تميل إليه الطباع.
وقول ابن الحجة أنه من الغلو الذي هو غير مقبول, فقد نص على ما ذكرناه الخطيب في كتابه, وغيره من المحققين, فلا عبرة بقوله.
ومنه قول أبي الحسن أحمد بن المؤمل:
وقائلة ما بالك بالدهر طافحا ... وأنت مسن لا يليق به السكر
(1/318)
________________________________________
فقلت لها أفكرت في الخمر مرة ... فاسكرني ذاك التوهم والفكر
ومن الغلو بغير أداة التقريب قول أبي نواس في الخمر:
فلما شربناها ودب دبيبها ... إلى موضع الأسرار قلت لها قفي
مخافة أن يسطو على شعاعها ... فيطلع ندماني على سري الخفي
قوله أيضاً:
وأخفت أهل الشرك حتى أنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق
روي أن العتابي الشاعر لقي أبا نواس فقال: ما استحييت من الله بقولك (وأخفت أهل الشرك - البيت) فقال له أبو نواس: وأنت ما استحييت من الله بقولك:
ما زلت في غمرات الموت مطرحاً ... يضيق عني وسيع الرأي من حيلي
فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
فقال العتابي: قد علم الله, وعلمت أن مثل هذا ليس قول مثلك, ولكنك قد أعددت لكل ناصح جوابا.
وقد استعمل أبو نواس معنى البيت ثانيا فقال:
حتى الذي في الرحم لم يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان
ومنه قوله أيضاً:
لا ينزل الليل حيث حلت ... فدهر شرابها نهار
وقول الآخر:
منعت مهابتك القلوب كلامها ... بالأمر تكرهه وإن لم تعلم
وقول النظام:
نظرت إليه نظرة فتحيرت ... دقائق وهمي في جليل صفاته
فأومى إليه الوهم أني أحبه ... فأثر ذاك الوهم في وجناته
وقوله أيضا:
حركات الضمير تؤثر في الخد ... ويدميه وهم لحظ العيون
رق حتى لو لامسته أذابت ... هـ بإيمائها يد المكنون
وقول أبي العتاهية في فرس للرشيد. حدث ابن الأعرابي قال: أجرى هارون الرشيد الخيل فجاء فرس يقال له المشمر سابقا, وكان الرشيد معجبا بذلك الفرس, فأمر الشعراء أن يقولوا فيه فبدرهم أبو العتاهية فقال:
جاء المشمر والأفراس يقدمها ... عفوا على رسله منها وما انبهرا
وخلف الريح حسرى وهي جامدة ... ومر يختطف الأبصار والنظرا
قال: فأجزل وصلته, وما جسر أحد بعد أبي العتاهية أن يقول شيئا.
وقول الآخر في فرس أيضا:
كم سابح أعددته فوجدته ... عند الكريهة وهو نسر طائر
لم يرم قط بطرفه في غاية ... إلا وسابقه إليها الحافر
وقول ابن حجاج في مرثية فرس له:
قال له البرق وقالت له الريح ... جميعا وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال لا ... إن شئت أضحكتكما منكما
هذا ارتداد الطرف قد فته ... إلى المدى سبقا فمن أنتما
وقول ابن خفاجة الأندلسي:
وأبلق خوار العنان مطهم ... طويل الشوى والساق أقود أتلعا
جرى وجرى البرق اليماني عشية ... فأبطأ عنه البرق عجزا وأسرعا
وحسب الأعادي أن يزجروا به ... مغيرا غربا صبح القوم أبقعا
ومعنى البيت الأخير في غاية الحسن.
وقول الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله:
وأغر تبري الإهاب مورد ... سبط الأديم محجل ببياض
وأخشى عليه أن يصاب بأسهمي ... لما يسابها إلى الأغراض
وقوله أيضا:
وأدهم يقق التحجيل ذي مرح ... يميس من عجبه كالشارب الثمل
مضمر مشرف الأذنين تحسبه ... موكلا باستراق السمع عن زحل
ركبت منه مطاليلٍ تسير به ... كواكب تلحق المحمول بالحمل
إذا رميت سهامي فوق صهوته ... مرت بهاديه وانحطت عن الكفل
وقول الشيخ صلاح الدين الصفدي:
يا حسنه من أشقر قصرت ... عنه بروق الجو في الركض
لا تستطيع الشمس من جريه ... ترسمه ظلا على الأرض
فهذه الأمثلة كلها من نوع الغلو الذي لم يؤت فيه بأداة التقريب, ومنها البديع المستحسن, والمقبول غير المستهجن كما ترى, فظهر لك أن حسن الغلو غير مقصور على ما قرب من الإمكان بأداة التقريب كما زعم ابن حجة في شرح بديعيته.
ومن الغريب أن ابن حجة عد من أدوات التقريب (لو) كما مر ببيانه, ثم قال: ومن الغلو بغير أداة التقريب قول بعضهم:
قد كان لي فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت تمنطقت به
وذبت حتى صرت لو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه
قال: ومثل هذا لا يقبله العقل, ولا عليه رونق القبول. انتهى. وقد ترى أن الغلو في هذين البيتين كليهما مقرون (بلو) فهل هذا إلا تناقض؟.
(1/319)
________________________________________
وأما الغلو المردود القبيح الذي يجب اجتنابه, ويهجر جنابه, فهو ما آل بصاحبه إلى الكفر والاستخفاف بقدرة الله تعالى, والمدح الذي لا يليق إلا بجنابه عز وجل, سواء قرن بشيء من أدوات التقريب أم لا.
كقول ابن دريد في مقصورته يخاطب الدهر:
ما رست من لو هوت الأفلاك من ... جوانب الجو عليه ما شكا
يقال: أنه أصابه فالج بطل له من محزمه إلى قدمه, فكان إذا دخل عليه الداخل صاح وتألم لدخوله وإن لم يصل إليه. قال تلميذه أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي: فكنت أقول في نفسي أن الله عز وجل عاقبه لقوله المذكور, فكان يصيح لذلك صياح من يمشي عليه, أو يشك بالمسال؛ أعاذنا الله من ذلك.
ويقرب من ذلك ما حكي أن الشيخ عمر بن الفارض لما نظم قوله:
وبما شئت في هواك اختبرني ... فاختباري ما كان فيه رضاكا
ابتلي بحصر البول, حتى أنه صار يأتي للصبيان في المكاتب ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.
ومن غلو ابن دريد القبيح في مقصورته هذه قوله أيضاً في ممدوحه:
ولو حمى المقدار عنه مهجة ... لرامها أو يستبيح ما حمى
تغدو المنايا طائعات أمره ... ترضى الذي يرضى وتأبى ما أبى
وقول أبي العتاهية:
فإذا أضرم حربا كان في ... مهج القوم شريكا للقدر
وقول علي بن جبلة المعروف بالعكوك:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر في حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال
وبهذين البيتين استحل المأمون دم الشاعر المذكور.
ذكروا أن المأمون لما بلغه قول علي بن جبلة في أبي دلف:
كل من في الأرض من عرب ... بين باديه ومحتضره
مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره
استشاط من ذلك وغضب غضباً شديداً وقال: ويلي على ابن الفاعلة, يزعم أنا لا نعرف مكرمة إلا مستعارة من أبي دلف وقال: اطلبوه حيث ما كان, وأتوني به. فطلبوه ولم يقدروا عليه, لأنه كان مقيما بالجبل. فلما اتصل به الخبر هرب إلى الجزيرة الفراتية, حتى توسط الشامات فظفروا به وأخذوه, وحمل مقيدا إلى المأمون. فلما صار بين يديه قال: يابن اللخناء أنت القائل في قصيدتك للقاسم بن عيسى - وهو أبو دلف - (كل من في الأرض من عرب) وأنشد البيتين, جعلتنا ممن يستعير المكارم منه يوم الافتخار؟ قال: يا أمير المؤمنين أنتم أهل بيت لا يقاس بكم, لأن الله اختصكم لنفسه على عباده, وآتاكم الكتاب والحكم وآتاكم ملكا عظيما. وإنما ذهبت في قولي إلى أقران وأشكال القاسم بن عيس من الناس. فقال: والله ما أبقيت أحدا, ولقد أدخلتنا في الكل, وما استحل دمك بكلمتك هذه, ولكن استحله بكفرك في شعرك, حيث قلت في عبد ذليل مهين فأشركت بالله وجعلت معه ملكاً قادراً, وهو (أنت الذي تنزل الأيام منزلها) وأنشد البيتين.
ثم قال: أخرجوا لسانه من قفاه, فمات, وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد.
والشعراء المشهورون بالاستكثار من الغلو المردود والقبيح: أبو نواس وأبو الطيب المتنبي, وابن هاني الأندلسي وهو أشهرهم بذلك, وأبو العلاء المعري, والمتأخرين ابن النبيه.
فمن غلو أبي نواس القبيح قوله يمدح الفضل بن العباس:
يداه في الأرض والسماء فما ... تجوز قطريه كف مخلوق
وقوله في الرشيد:
فلا يتعذرن عليك عفو ... وسعت به جميع العالمينا
وهذا إنما هو عفو الله سبحانه لا عفو الرشيد.
وقوله فيه أيضاً:
يا ناق لا تسأمي أو تبلغي ملكا ... تقبيل راحته والركن سيان
وقوله في الغزل:
متتايه بجماله صلف ... لا يستطاع كلامه تيها
للحسن في وجناته بدع ... ما إن ميل الدرس قاريها
لو كانت الأشياء تعقله ... أجللته إجلال باريها
وقال أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر عند ذكره ما نعي على أبي الطيب المتنبي من معائب شعره ومقابحه: منها الإفصاح عن ضعف العقيدة, ورقة الدين. على أن الديانة ليست عيارا على الشعر, ولا سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشعر, ولكن الإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به, قولا وفعلا ونظما ونثرا, ومن استهان بأمره, ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه فقد باء بغضب من الله تعالى, وتعرض لمقته في وقته.
(1/320)
________________________________________
وكثيرا ما قرع المتنبي هذا الباب بمثل قوله:
يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد
قلت: وقال أبو الفتح بن جني: أنه أنشده حلاوة التوحيد, أي هي عندي مثل حلاوة التوحيد. وأبعد وأغرب بعض الشراح حيث جعل التوحيدي بياء النسبة, وقال: أنه نوع من التمر.
وقوله:
تتقاصر الإفهام عن إدراكه ... مثل الذي الأفلاك فيه والدنى
وقد أفرط جداً, لأن الذي الأفلاك فيه والدنى هو علم الله تعالى.
وقوله:
الناس كالعابدين آلهة ... وعبده كالموحد اللاها
وقوله:
لو كان علمك بالإله مقسما ... في الناس ما بعث الإله رسولا
أو كان لفظك فيهم ما أنزل ال ... توراة والفرقان والإنجيلا
وقوله:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركة لاعيا عيسى
عازر: اسم الرجل الذي أحياه المسيح عليه السلام:
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما أنشق حتى جاز فيه موسى
وكأن المعاني أعيته حتى التجأ إلى استصغار أمور الأنبياء عليهم السلام وفي هذه القصيدة:
يا من نلوذ من الزمان بظله ... أبدا ونطرد باسمه إبليسا
وقوله وقد جاوز حد الإساءة:
أي محل أرتقى ... أي عظيم اتقى
وكل ما قد خلق ال ... له وما لم يخلق
محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي
وقبيح بمن أوله نطفة مذرة, وآخره جيفة قذرة, وهو فيما بينهما محمل العذرة, أن يقول مثل هذا الكلام.
ومن غلو ابن هاني الشنيع قوله في المعز لدين الله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد ... وكأنما أنصارك الأنصار
أنت الذي كانت تبشرنا به ... في كتبها الأحبار والأخبار
ومنها:
جلت صفاتك أن تحد بمقول ... ما يصنع المصداق والمكثار
وقوله فيه من أخرى:
هذا ضمير النشأة الأولى التي ... بدأ الإله وغيبها المكنون
من أجل هذا قدر التقدير في ... أم الكتاب وكون التكوين
وبذا تلقى آدم من ربه ... عفوا وفاء ليونس اليقطين
لو يلتقي الطوفان قبل وجوده ... لم ينج نوحا فلكه المشحون
ومنها يخاطبه:
والنور أنت وكل نور ظلمة ... والفوق أنت وكل قدر دون
لو كان رأيك شائعا في أمة ... علموا بما سيكون قبل يكون
وقوله من أخرى فيه أيضا:
وعلمت من مكنون علم الله ما ... لم يؤت جبريلا وميكائيلا
لو كنت آونة نبيا مرسلا ... نشرت بمبعثك القرون الأولى
أو كنت نوحا منذرا في قومه ... ما زادهم بدعائه تضليلا
لله فيك سريرة لو أظهرت ... أحيا بذكرك قاتل مقتولا
لو كان آتى الخلق ما أوتيته ... لم يخلق التشبيه والتمثيلا
لولا حجاب دون علمك حاجز ... وجدوا على علم الغيوب سبيلا
وقال وأساء في المقال:
وجد العيان سناك تحقيقا ولم ... تحط الظنون بكنهه تصريحا
أخشاك تنسي الشمس مطلعها كما ... أنسى الملائك ذكرك التسبيحا
أقسمت لولا أن دعيت خليفة ... لدعيت من بعد المسيح مسيحا
شهدت بمعجزك السماوات العلى ... وتنزل القرآن فيك مديحا
وقوله وقد تجاوز الحد:
أتبعته فكري حتى إذا بلغت ... غاياتها بين تصويب وتصعيد
رأيت موضع برهان يبين وما ... رأيت موضع تكييف وتحديد
وهذا مدح يليق بالخالق سبحانه لا بالمخلوق, وهو في شعره كثير جدا حتى قال القاضي ابن خلكان في ترجمته: ولولا ما في ديوانه من الغلو في المدح والإفراط المؤدي إلى الكفر لكان من أحسن الدواوين. وليس من المغاربة من هو في طبقته, لا من متقدميهم ولا متأخريهم, بل هو أشعرهم على الإطلاق. وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة, وكانا متعاصرين والله أعلم.
ومن غلو أبي العلاء المعري قوله في قصيدة:
ولولا قولك الخلاق ربي ... لكان لنا بطلعتك افتتان
وقوله أيضاً من أخرى:
خاضعات لك الكواكب تختص ... مواليك بالمحل الأثير
لا يؤثرن في الولي ولا الحاسد حتى تشير بالتأثير
ومنها في تهنئة ممدوحه بالزواج:
(1/321)
________________________________________
كنت موسى وافتك بنت شعيب ... غير أن ليس فيكما من فقير
وقوله:
وقد علمت هذي البسيطة أنها ... تراثك فلتشرف بذاك وتزدد
وإن شئت فأرغم من فوق ظهرها ... عبيدك واستشهد إلهك يشهد
نعوذ بالله من هذا الغلو القبيح, فإن فوق الأرض من عباد الله الأخيار والصلحاء الأبرار, والأقطاب والإبدال, ما لا يعلمهم إلا الله تعالى, فما له يقول هذا القول الشنيع الذي تصم منه الأسماع, وتنفر منه الطباع.
ومنه قوله أيضاً:
فلو زار أهل الخلد عتبك زورة ... لأوهمهم أن الجنان جحيم
وقوله في رثاء فقيه:
واكسواه الأكفان من ورق المص ... حف كبرا عن أنفس الأبراد
ومن غلو ابن النبيه قوله يمدح الخليفة الناصر لدين الله:
بغداد مكننا وأحمد أحمد ... حجوا إلى تلك المناسك واسجدوا
يا مذنبين ضعوا بها أوزاركم ... وتطهروا بترابها وتهجدوا
فهناك من جسد النبوة بضعة ... بالوحي جبري لها يتردد
باب النجاة مدينة العلم التي ... ما زال كوكب هديها يتوقد
هذا هو الستر الذي بهر الورى ... في ظهر آدم والملائك سجد
هذا الذي يسقي العطاش بكفه ... والحوض ممتنع الحمى لا يورد
هذا الصراط المستقيم حقيقة ... من زل عنه ففي جهنم يخلد
ومنها وقد جاوز الحد:
يا من لمبغضه الجحيم قراراة ... ولمن يواليه النعيم السرمد
لولا التقية كنت أول معشر ... غالوا فقالوا أنت رب تعبد
وقوله من أخرى فيه:
له على سرِّ سرِّ الغيب مطلع ... فما موارده إلا مصادره
يقضي بتفضيله سادة عترته ... لو كان صادقه حيا وباقره
كل الصلاة خداج لا تمام لها ... إذا تقضت ولم يذكره ذاكره
كل الكلام قصير عن مناقبه ... إلا إذا نظم القرآن شاعره
وقوله من أخرى فيه:
فيك سر لوه ما قسم الل ... هـ على الناس جنة وسعيرا
قد هدانا بك السبيل فإما ... مؤمنا شاكراً وإما كفورا
وقوله في الملك الأشرف:
ملك له الفضل على آدم ... والفضل لا يكسب بالمولد
لو لم تر الأملاك في صلبه ... غرته الغراء لم تسجد
ومن هذا النمط في شعره كثير وهو مشهور بذلك, فلا حاجة إلى الإكثار منه.
ومن الغلو القبيح, قول عضد الدولة:
ليس شرب الراح إلا في المطر ... وغناء من جوار في *****
غانيات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر
يقال أنه ما عاش بعد هذه الأبيات إلا قليلا, ولما احتضر لم يكن لسانه ينطق إلا بتأوه (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه) ومنه أيضاً قول الشيخ جعفر الخطي من شعراء هذا القرن:
وزفرة لو ثوى يوم الخليل بها ... أودى ولم يغن عنه برده فيها
ومنها:
ماذا على الطير إذ أبلى الضنا جسدي ... فخف لو حملتني في خوافيها
أن تقعد الطير عن حملي لكم وسرت ... ريح الصبا فاطلبوني في مساريها
تلقي لكم جسدا لو أن علته ... يدعى المسيح لها ما كان يبريها
وأنا استغفر الله تعالى من إثبات هذه الأشياء, فليحذر الأديب الأريب الوقوع في مثل ذلك, وليتجنب هذه المسالك, فأن عن ذلك للشاعر مندوحة, ولا يعود عليه إلا منه إلا المقت من رحمة الله وخلقه. (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) .
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
عزيز جار لو الليل استجار به ... من الصباح لعاش الناس في الظلم
هذا الغلو في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم بديع مقبول, لائحة عليه إشارات القبول, لا كقوله في ممدوحه:
ولو أتاه الليل مستجيرا ... آمنه من سطوات الفجر
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
تكاد تشهد أن الله أرسله ... إلى الورى نطف الأبناء في الرحم
هذا الغلو في مديحه عليه وآله الصلاة والسلام أيضاً حسن مقبول, لو لم يشنه بذكر الرحم والنطف الذي لا يليق بالمديح النبوي.
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
في مدحه نفحات لا غلو بها ... يكاد يحيي شذاها بالي الرمم
(1/322)
________________________________________
نفحات غلو هذا البيت أخجلت نفحات الغالية, ونشر شذاه عطر مسام الأرواح حتى كاد يحيي الرمم البالية, مع تمام الانسجام والرقة, وتمكن القافية. ولا شك أنه من البيوت التي أذن الله أن ترفع بمديح نبيه المصطفى ذي المقام الأرفع صلى الله عليه وآله الكرام, وأصحابه العظام.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
بلا غلو إلى السبع الطباق سرى ... وعاد والليل لم يحفل بصحبهم
غالى ابن حجة في الإعجاب بغلو هذا البيت, وظن أنه لا يتحكم عليه لو, (ولا, وليت) , والذي أقوله: إنه إنما نظم أمرا واقعا لا غلو فيه, إلا لو لم يقع, وأما بعد وقوعه فادعاء استحالته عقلا وعادة كما هو معنى الغلو قد يكون كفرا - نعوذ بالله من ذلك - فإنه صلى الله عليه وآله وسلم سرى إلى السماوات السبع ليلة الإسراء, ودوخ طباقها, وعاد قبل طلوع الفجر, لاشك في ذلك. فتسمية هذا غلوا فيه مالا يخفى.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
بلا غلو لو الدهر استجار به ... من الفنا لم يكن يوما بمنعدم
هذا أيضاً من الغلو المقبول في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وبيت بديعيتي هو قولي:
ولا غلو إذا ما قلت عزمته ... تكاد تثني عهود الأعصر القدم
دعوى إعادة عهود الأزمان الماضية مما يستحيل عقلا وعادة, إلا أن فعل التقريب وهو (تكاد) قرب ذلك من الصحة, وأخرجه عن الاستحالة, فهو من الغلو المقبول, على أنه لا غلو في ذلك كما أشرنا إليه في نفس البيت, لكونه في مديحه صلى الله عليه وآله وسلم.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
عريض جاه لو أن الدهر طال مدى ... كجاهه آمن الدنيا من العدم
التفريق
قاسوه بالبحر والتفريق متضح ... أين الأجاج من المستعذب الشبم
التفريق في اللغة ضد الجمع لا الاجتماع كما وهم ابن حجة, وضد الاجتماع إنما هو الافتراق لا التفريق. وفي اصطلاح البديعيين هو إيقاع تباين أمرين من نوع واحد في المدح أو غيره.
كقول الشاعر:
قاسوك بالغصن في الثني ... قياس جهل بلا أنتصاف
هذاك غصن الخلاف يدعى ... وأنت غصن بلا خلاف
وقول رشيد الدين الوطواط:
ما نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة عين ... ونوال الغمام قطرة ماء
وقد تلاعب الشعراء بمعنى هذين البيتين كثيرا, فللوأواء الدمشقي:
من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين شكلين
أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وهو إذا جاد دامع العين
ولبعضهم فيه:
من قاس جدواك يوما ... بالسحب أخطأ مدحك
السحب تعطي وتبكي ... وأنت تعطي وتضحك
وللأديب يعقوب النيسابوري:
رأيت عبيد الله يضحك معطيا ... ويبكي أخوه الغيث عند عطائه
وكم بين ضحاك يجود بماله ... وآخر بكاء يجود بمائه
ولأبي الفتح البستي:
يا سيد الأمراء يا من جوده ... أوفى على الغيث المطير إذا همى
الغيث يعطي بالحيا متجهما ... ونداك يعطي بالجدا متبسما
ولشرف الدين النجاري:
ما قست بالغيث العطايا منك إذ ... يبكي وتضحك إذ توالي للندى
وإذا أفاض على البرية جوده ... ماء تفيض لنا غيوثك عسجدا
وقلت أنا في ذلك:
من قاس جدوى راحتيك إذا همت ... بالغيث أخطأ في القياس وما درى
إذ أنت تعطي ضاحكا مستبشر ... والغيث يعطي باكيا مستعبرا
وقلت أيضاً:
من قاس جدوى يديك يوما ... بالغيث ما بر في امتداحك
الغيث ينهل وهو باك ... وأنت تعطي وأنت ضاحك
وما أبدع قول البديع الهمداني من قصيدته المقدم ذكرها:
وكاد يحيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر ولو عذبا
وما زلت معجبا بقول ابن اللبانة في المعتمد بن عباد:
سألت أخاه البحر عنه فقال لي ... شقيقي إلا أنه البارد العذب
لنا ديمتا مال وماء فديمتي ... تماسك أحيانا وديمته سكب
إذا نشأت برية فله الندى ... وإن نشأت بحرية فله السحب
وقال أبو العلاء المعري:
(1/323)
________________________________________
تنازع فيك الشبه بحر وديمة ... ولست إلى ما يزعمان بمائل
إذا قيل بحر فهو ملح مكدر ... وأنت نمير الجود عذب الشمائل
ولست بغيث فوك للدر معدن ... ولم تلف دار في الغيوث الهواطل
ومنه قول السيد علي بن محمد الحماني في الغزل: وجه هو البدر إلا أن بينهما=فضلا تحير عن حافاته النور
في وجه ذاك أخاليط مسودة ... وفي مضاحك هذا الدر منثور
وقول بعضهم:
يا غيوث السماء دمعك يفنى ... عن قليل وما لدمعي فناء
أنا أبكي طوعا وتبكين كرها ... ودموعي دم ودمعك ماء
وقول مهيار الديلمي:
أبكي وتبكي غير أن الأسى ... دموعه غير دموع الدلال
أخذه السيد أحمد الصفوي الدمشقي فقال:
صه يا حمام فلست المشوق ... ولا بات فيها كحالي
فما من تباكي كما من بكى ... ودمع الأسى غير دمع الدلال
والشعر في هذا المعنى يضيف عن الإحاطة به نطاق الحصر, وفي هذا النموذج كفاية.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
فجود كفيه لم تقلع سحائبه ... عن العباد وجود السحب لم يدم
هذا من بيت ابن اللبانة المقدم ذكره وهو:
لنا ديمتا ماء ومال فديمتي ... تماسك أحيانا وديمته سكب
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي:
لا يستوي الغيث مع كفيه نائل ذا ... ماء ونائله مال فلا تهم
ثقل تركيب هذا البيت, وتعقيد ألفاظه, وتداعي قافيته, ظاهرة مع سهولة نظم هذا النوع وخفة محمله.
على أنه مأخوذ من قول الأول:
فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
قالوا هو البحر والتفريق بينهما ... إذ ذاك غم وهذا فارج الغمم
قال ابن حجة: ليس في بديعية الموصلي بيت يناظر هذا البيت في علو طباقه, فإنه مشتمل على التورية باسم النوع, ولطف الانسجام والسهولة.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم
أغار ابن حجة على صدر بيت عز الدين الموصلي أغارة قبيحة, لا يرضى بها من له في الأدب خطوة فسيحة, على أنه مأخوذ من قول الأول:
حسبت جماله بدرا منيرا ... وأين البدر من ذاك الجمال
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
فاق النبيين والتفريق يظهر من ... دوام معجزة للغير لم تدم
لنظر الأديب في هذا البيت مجال يستغني عن المقال.
وبيت بديعيتي هو قولي:
قاسوه بالبحر والتفريق متضح ... أين الأجاج من المستعذب الشبم
التفريق في هذا البيت من جهتين: إحداهما أن البحر ملح, وهو مستعذب. والثانية أن البحر حار وهو بارد. والتفريق في أبيات البديعيات المذكورة كلها من جهة واحدة.
ولست أدعي في هذا البيت الاختراع بل هو من قول ابن اللبانة المقدم:
سألت أخاه البحر عنه فقال لي ... شقيقي إلا أنه البارد العذب
ولكن في بيتي تلميح إلى قوله تعالى (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) .
وبيت بديعية إسماعيل المقري قوله:
أين السحاب وأين البحر منه ندى ... البحر ملح وجود السحب لم يدم
هذا البيت فيه تفريقان كلاهما مأخوذ مما تقدم.
التلميح
تلميحه كم شفى في الخلق من علل ... وما لعيسى يد فيها فلا تهم
التلميح - قال العلامة التفتازاني في شرح التلخيص: صح بتقديم اللام على الميم, من لمحه, إذا أبصره ونظر إليه. وكثيرا ما تسمعهم يقولون في تفسير الأبيات: في هذا البيت تلميح إلى قول فلان, وقد لمح هذا البيت فلان إلى غير ذلك من العبارات.
وأما التلميح - بتقديم الميم - فهو مصدر ملح الشاعر: إذا أتى بشيء مليح, وهو ههنا خطأ محض, نشأ من قبل الشارح العلامة, حيث سوى بين التمليح والتلميح, وفسرهما: بأن يشار إلى قصة أو شعر. ثم صار الغلط مستمرا, وأخذ مذهبا لعدم التمييز. انتهى.
فلا عبرة بقول ابن حجة: وسماه قوم التمليح - بتقديم الميم - كأن الناظم أتى في بيته بنكتة زادته ملاحة.
(1/324)
________________________________________
وهو في الاصطلاح, أن يشار في الكلام إلى آي من القرآن, أو حديث مشهور, أو شعر مشهور أو مثل سائر, أو قصة, من ذكر شيء من ذلك صريحا. وأحسنه وأبلغه, ما حصل به زيادة في المعنى المقصود. قال الطيبي في التبيان: ومنه قوله تعالى (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) . وقال جار الله: قوله: وآتينا داود زبورا, دلالة على تفضيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم, لأن ذلك مكتوب في الزبور. قال تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) , وقال: وهو محمد صلى الله عليه وآله وأمته.
ولنرتب شواهد هذا النوع على فصول.
الفصل الأول فيما وقع التلميح فيه إلى آية من القرآن فمنه قول نصر بن أحمد الخبز أرزي رحمه الله:
أستودع الله أحبابا فجعت بهم ... بانوا وما زودني غير تعذيب
بانوا ولم يقض زيد منهم وطرا ... ولا انقضت حاجة في نفس يعقوب
لمح في المصراع الأول إلى قوله تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) , وفي الثاني قوله تعالى (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) .
ولمح إلى الآية الأولى البهاء زهير في مطلع قصيدة له فقال:
لم يقض زيدكم من حبكم وطره ... ولا قضى ليله من حبكم سمره
يا صارفي القلب إلا عن مودتهم ... وسالبي الطرف إلا عنهم نظره
ولمح في الثانية أيضاً الشريف الرضي رضي الله عنه في قوله:
وحاجة أتقاضاه وتمطلني ... كأنها حاجة في نفس يعقوب
ومنه قول بعضهم:
ما في الصحاب وقد سارت حمولهم ... إلا محب له في الركب محبوب
كأنما يوسف في كل راحلة ... والحي في كل بيت منه يعقوب
يشير إلى ما قصه سبحانه في القرآن العظيم من أمر يوسف. وحرض يعقوب عليهما السلام.
ولهذين البيتين حكاية لطيفة, وهي ما حكي أن الشيخ شهاب الدين السهروردي صاحب عوارف المعارف لما رجع من الشام إلى بغداد, وجلس على عادته للوعظ, أخذ يقلل أحوال الناس, ويهضم جانب الرجال ويقول: أنه ما بقي من يلقى وقد خلت الدنيا.
وأنشد:
ما في الصحاب أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه
وجعل يكرره ويتواجد, فصاح عليه من أطراف المجلس شاب عليه قبا وكلونة: يا شيخ كم تشطح وتتنقص بالقوم, والله إن فيهم من لا يرضى أن يجاريك, وقصاراك أن تفهم ما يقول, هلا أنشدت؟ (ما في الصحاب وقد سارت حمولهم) وأنشد البيتين. فصاح السهروردي ونزل عن كرسيه وقصد الشاب ليعتذر إليه فلم يجده, ووجدت مكانه حفرة فيها دم كثير لشدة ما كان يفحص برجليه عند إنشاد الشيخ البيت. وهو من قصيدة لابن المعلم الوسطى تقدم إنشاد بعضها في نوع الانسجام.
وقلت ملمحا التلميح المذكور لغرض سنح:
لله من واله عان بأسرته ... ومن محب غدا يبكيه محبوب
كأنه يوسف في السجن مضطهدا ... وكل ذي خلة في الحي يعقوب
ومن بديع هذا النوع قول أبي نصر محمد الأصبهاني في ذم مملوك له:
بليت بمملوك إذا ما بعثته ... لأمر أعيرت رجله مشية النمل
بليد كأن الله خالقنا عنى ... به المثل المضروب في سورة النحل
يشير إلى قوله تعالى (وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم ولا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير) الآية.
ومنه قول الباخرزي يمدح جعفر بن داود:
والله لولا حسن نيته لما ... لقي الشقاء ببأسه مسعود
كان الحديد فلان يوم لقائه ... حتى تحقق أنه دواد
يشير إلى قوله تعالى في داود (وألنا له الحديد) ومنه ما ذكره ابن الأبار في تحفة القادم: أن أبا بكر الشبلي جلس يوما على الجسر, فتعرض له بعض الجواري للجواز, فلما أبصرته رجعت بوجهها, وسترت ما ظهر له من محاسنها, فقال أبو بكر المذكور:
وعقيلة لاحت بشاطئ نهرها ... كالشمس طالعة لدى آفاقها
فكأنما بلقيس وافت صرحها ... لو أنها كشفت لنا عن ساقها
حورية قمرية بدوية ... ليس الجفا والصد من أخلاقها
قال بعضهم: ويمكن تغيير البيتين الأولين بأن يقال:
وعقيلة لاحت بشاطئ نهرها ... كالشمس تتلو في المشارق صبحها
لو أنها كشفت لنا عن ساقها ... لحسبتها بلقيس وافت صرحها
(1/325)
________________________________________
الإشارة في ذلك إلى قوله تعالى في قصة بلقيس مع سليمان عليه السلام (قيل لها أدخلي في الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها) الآية.
وجمع النفيس القطرسي بين التلميح إلى القرآن والشعر في قوله:
يسر بالعيد أقوام لهم سعة ... من الثراء وأما المقترون فلا
هل سرني وثيابي فيه قوم سبا ... أو راقني وعلى رأسي به ابن جلا
يشير إلى قوله تعالى عن قوم سبا (ومزقناهم كل ممزق) .
وإلى قول الشاعر:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
ومنه ما حكاه صاحب كتاب التبر المسبوك: أن السلطان محمودا كتب إلى الخليفة القادر بالله كتابا يتهدده فيه بالفيل, وخراب بغداد, وأن يحمل تراب دار الخلافة على ظهور الفيلة إلى غزنة. فكتب إليه القادر بالله كتابا صغيرا فيه بعد البسملة (ألم) لا غير, فلم يدر السلطان ما معناه, وتحيرت علماء حضرته في حل هذا الرمز, وجمعوا كل سورة من القرآن, أولها (ألم) فلم يكن فيها ما يناسب الجواب. وكان في الجماعة شاب فقال: إن أذن لي الملك أعزه الله حللت الرمز, فقال له الملك: قل, فقال: ألست كتب إليه تهدده بالفيلة وأنك تنقل تراب دار الخلافة على ظهورها إلى غزنة؟ قال: بلى, قال: فإنه كتب إليك (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) , فاستحسن الحاضرون منه ذلك, ثم اصطلح السلطان والخليفة.
ومن خفيه ما حكاه صاحب نزهة العشاق: أن الملك محمود بن صالح ظفر بعدو له فأعتقله, وكان لذلك العدو أخ, فأراد الملك أن يقبض على الأخ كما قبض على أخيه, فأمره أن يكتب إلى أخيه كتابا يدعوه إلى خدمة الملك, ويذكر في الكتاب أن الملك أكرمه وأحسن إليه. فأمتثل ما أمره, وكتب في آخر الكتاب: فعجل القدوم تنل الخير إن شاء الله تعالى, وجعل على رأسه النون تشديدة. فلما وصل الكتاب إلى أخيه فرح وطابت نفسه, فلما انتهى إلى التشديد على رأس النون أنكر ذلك واستراب, وقال: ما شددت هذه النون إلا لخطب شديد. فلم يزل يعمل فكره حتى فطن أن أخاه قصد قوله تعالى (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) . ثم كتب إلى أخيه كتابا, وذكر في آخره: أنا آت عقب كتابي إلى الملك أعزه الله, وشدد النون من (أنا آت) فلما وصل الكتاب إلى أخيه, ورأى ذلك طابت نفسه وفهم أن أخاه أشار إلى قوله تعالى (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها) .
ومنه قول علاء الدين الوداعي فيمن وعده بسمك:
يا مالكا صدق مواعيده ... خلي لنا في جوده مطعما
لم نعد في السبت فما بالنا ... لم تأتنا حيتاننا شرعا
(1/326)
________________________________________
يشير إلى قوله تعالى (وأسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا) . وكان بنو إسرائيل في زمن داود عليه السلام في قرية بأيلة على ساحل البحر, بين المدينة والشام, وحرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت, فكان إذا دخل السبت اجتمعت الحيتان من كل مكان حتى لم يبق حوت إلا اجتمع هناك, يخرجن خراطيمهن من الماء, حتى لا يرى الماء لكثرتها. فإذا مضى السبت تفرقن فلا يرى منها شيء. ثم أن الشيطان وسوس لهم وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت, فعمد رجال فحفروا حياضا نحو البحر, وشرعوا منه إليها الأنهار, فإذا كان عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تقدر على الخروج لبعد عمقها, وقلة مائها, فيأخذونها يوم الأحد, أو كانوا ينصبون آلات الصيد يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد. وفعلوا ذلك مدة, فلما لم ينزل بهم عقوبة قالوا: ما نرى إلا أنه أحل لنا السبت, فأخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكثر مالهم. فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية - وكانوا نحو سبعين ألفا - ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى, وصنف أمسك ولم ينه, وصنف انتهك الحرمة. فكان الناهون أثني عشر ألفا. ولما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا: والله لا نساكنكم. فقسموا القرية بجدار وتجبروا كذلك سنتين, فلعنهم داود, وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية. فخرج الناهون ذات يوم من ديارهم, ولم يخرج من المجرمين أحد, ولم يفتحوا لهم بابا, فلما أبطأوا تسوروا عليهم الحائط فإذا هم قردة لها أذناب يتعاوون, صار الشباب قردة, والمشايخ خنازير. فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا, ولم يبق مسخ فوق ثلاثة أيام, ولم يتوالدوا. وقال مجاهد: مسخت قلوبهم دون صورهم, وهذا خلاف الإجماع وما نطق به القرآن العظيم.
وفي الأمثال المولدة: عليه ما على أصحاب السبت. يعنون بذلك اللعنة.
قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: فان قيل: لما كان الله تعالى نهاهم عن الاصطياد يوم السبت, فما الحكمة في أن نثر الحيتان يوم السبت دون سائر الأيام, كما قال (تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) وهل هذا إلا إثارة الفتنة واردة الإضلال؟.
قلنا: أما على مذهب أهل السنة, فإرادة الإضلال جائزة من الله تعالى, وأما على مذهب المعتزلة فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازدياد الثواب.
الفصل الثاني فيما وقع التلميح فيه إلى حديث مشهور فمن ذلك قول بعضهم مع التورية:
يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التجري
وقبحوا لك وصلي ... وحسنوا لك هجري
فيفعلوا ما أرادوا ... لأنهم أهل بدر
يشير إلى قوله عليه السلام لعمر حين سأله قتل حاطب: لعل الله قد أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وما أحسن ما لمح إلى هذا الحديث أيضاً الشيخ عمر بن الفارض بقوله مع التورية:
ليهن ركب سروا ليلا وأنت بهم ... مسيرهم في صباح منك منبلج
فليصنع الركب ما شاؤا بأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج
ونظم ذلك بعضهم في مواليا فقال وأجاد:
يا بدر أهلك يقولوا لك علي جور ... وعلموك التجافي يا بهي النور
فليصنعوا ما أرادوا يا شقيق الحور ... لأنهم أهل بدر ذنبهم مغفور
ومنه ما حكي أن ابن الصابوني حضر مجلس أحد الفضلاء فقدم للحاضرين خيارا, فجعل أحد الأدباء يقشره بسكين, فخطف ابن الصابوني السكين من يده, فألح عليه في استرجاعها, فقال له ابن الصابوني: كف عني وإلا جرحتك بها, فقال صاحب المنزل لذلك الأديب: كف عنه لئلا يجرحك, فيكون جرحا جبارا, يلمح إلى قوله عليه السلام: جرح العجماء جبار. فأغتاض ابن الصابوني وخرج من عقله, وهجر بلسانه, وما كف إلا بعد الرغبة والتضرع إليه, وخرج عن ذلك المجلس مغضبا.
ومنه قول الحريري في المقامة السابعة والثلاثين: فلم أزل أتقرب إليه بالإلمام, وأتنفق عليه بالاجمام, حتى صرت صدى صوته, وسلمان بيته. يشير إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سلمان الفارسي: سلمان منا أهل البيت.
الفصل الثالث في ما وقع فيه التلميح إلى شعر مشهور.
(1/327)
________________________________________
فمنه ما حكاه ابن قتيبة قال: تمازح معاوية والأحنف - فما رئي مازحان أوقر منهما - قال معاوية: يا أبا بحر ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: السخينة يا أمير المؤمنين.
وإنما أشار معاوية إلى ما رمي به بنو تميم من النهم وحب الأكل في قول القائل:
إذا ما مات ميت من تميم ... وسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشيء الملفف في البجاد
تراه يطوف بالآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
وأراد الشاعر بالشيء الملفف في البجاد: وطب اللبن, والبجاد ككتاب: كساء مخطط. وأشار الأحنف إلى ما كانت تعير به قريش من أكل السخينة قبل الإسلام, لأن أكثر زمانها كان زمان قحط ومحل, والسخينة: ماء يسخن بالنار ويذر عليه دقيق, وغلب ذلك على قريش حتى سميت سخينة.
قال حسان:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغلب الغلاب
ومثل ذلك ما روي أن عبد الله بن ثعلبة المحاربي دخل على عبد الملك أبن يزيد الهلالي - وهو يومئذ والي أرمينية - فقال له: ماذا لقينا البارحة من شيوخ محارب؟ منعونا النوم بضوضاتهم ولغطهم. فقال عبد الله بن ثعلبة: أنهم - أصلح الله الأمير - أضلوا البارحة برقعا فكانوا يطلبونه.
أراد عبد الملك قول الشاعر:
تكش بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
وأراد عبد الله قول القائل:
لكل هلالي من اللؤم برقع ... ولابن يزيد برقع وجلال
وكان سنان بن أحمر النميري يساير الأمير عمر بن هبيرة الفزاري وهو على بغلة له, فتقدمت البغلة على فرس الأمير فقال: أغضض بغلتك يا سنان, فقال: إنها مكتوبة أصلح الله الأمير, فضحك الأمير وقال: قاتلك الله, ما أردت ذلك, قال: ولا أنا.
وإنما أراد ابن هبيرة قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وأراد سنان قول الأخطل:
لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
وكانت فزارة تعير بإتيان الإبل, ولذلك قال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة هذا ويخاطب يزيد بن عبد الملك حين ولاه العراق:
أمير المؤمنين وأنت بر ... تقي لست بالجشع الحريص
أأطعمت العراق ورافديه ... فزاريا أحذ يد القميص
ولم يك قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص
الرافدان: دجلة والفرات. وأخذ يد القميص: كناية عن السرقة والخيانة. وتفنق: تنعم وسمن, يقال: جارية فنق, أي سمينة. والبيت الآخر تلميح إلى إتيان الإبل الذي كانوا يعيرون به.
وعلى هذه الأبيات روى أبو عبيدة عن عبد الله بن عبد الأعلى قال: كنا نتغدى مع الأمير عمر بن هبيرة فاحضر طباخه جام خبيص, فكرهه للبيت السابق في هذه الأبيات, إلا أن جلده أدكه فقال: ضعه يا غلام, قاتل الله الفرزدق, لقد جعلني أرى الخبيص فاستحي منه.
قال المبرد: وقد يسير البيت في الواحد فيرى أثره عليه أبدا, كقول أبي العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة:
فما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتالا
فكسر حلية السيف ... وصغها لك خلخالا
فكان عبد الله إذا تقلد السيف فرأى من يرمقه بأن أثره عليه وظهر الخجل منه.
ومثل ذلك ما يحكى أن جريرا قال: والله لقد قلت في بني تغلب بيتا لو طعنوا بعده الرماح في أستأهم ما حكوها وهو:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
وحكى أبو عبيدة عن يونس قال: قال عبد الملك بن مروان يوما وعنده رجال: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ودوا أنهم افتدوا منه بأموالهم؟ فقال أسماء بن خارجة الفزاري: نحن يا أمير المؤمنين, قال: وما هو؟ قال: قول الحارث بن ظالم المري:
وما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
فو الله أني لا لبس العمامة الصيفية فيخيل لي أن شعر فقاي قد بدا منها.
وقال هاني بن قبيصة النميري: نحن يا أمير المؤمنين, قال: وما هو؟ قال: قول جرير:
فعض الطرف أنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
كان النميري إذا قيل ممن أنت, يقول: من نمير, فصار يقول بعد هذا البيت من عامر بن صعصعة.
(1/328)
________________________________________
وكان عبد الملك بن عمير القاضي يقول: والله أن التنحنح والسعال ليأخذاني وأنا في الخلا فأردهما حياء من قول القائل:
إذا ذات دل كلمته لحاجة ... وهم بأن يقضي تنحنح أو سعل
رجع إلى أمثلة التلميح إلى الشعر.
ومنه ما حكي أن تميميا قال لشريك النميري: ما أحب إلي من البازي, فقال شريك: خاصة إذا كان يصيد القطا.
أشار التميمي إلى قول جرير:
أنا البازي المطل على نمير ... أتيح من السماء له أنصبابا
وأشار شريك إلى قول الطرماح:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... لو سلكت طرق المكارم ضلت
ومثله ما حكي أن تميميا نزل بفزاري فقال له: قلوصك يا أخا تميم لا تنفر القطا, فقال: أنها مكتوبة, أشار الفزاري إلى بيت الطرماح المذكور, وأشار التميمي إلى قول الأخطل المقدم ذكره.
(ومثله) ما يحكى أن محمد بن عقال المجاشعي دخل على يزيد بن مزيد الشيباني وعنده سيوف تعرض عليه, فرفع سيفا منها إلى يد محمد فقال: كيف ترى هذا السيف؟ فقال: نحن أبصر بالتمر منا بالسيوف.
أراد يزيد قول جرير في الفرزدق:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت ... يداك وقالوا محدث غير صارم
وأراد محمد قول مروان بن أبي حفصة:
لقد أفسدت شيبان بكر بن وائل ... من التمر ما لو أصلحته لمارها
ولبيتي جرير المذكورين قصة يأتي ذكرها في نوع المواردة إنشاء الله تعالى.
وقد غلط السكاكس على جلالة قدره في تفسير قوله (ولم تضرب بسيف ابن ظالم) فقال: أن الفرزدق كان عرض عليه سيف غير صالح للضرب فقال: بل أضرب بسيف أبي رغوان مجاشع, يعني سيفه, وكأنه قال: لا يستعمل ذلك السيف إلا ظالم وابن ظالم, فلما نبا سيفه وبلغ جرير ذلك قال البيتين, وأشار بقوله: ابن ظالم إلى ذلك.
وتبعه على هذا جماعة من أهل الفضل. ولم يرد جرير ذلك قط, مع أن معنى البيت لا يستقيم على هذا التفسير كما لا يخفى. وإنما أراد جرير بابن ظالم, الحارث بن ظالم المري وكان فاتكاً, فتك بخالد بن جعفر بن كلاب وهو إذ ذاك نازل على النعمان بن المنذر, وإنما قال جرير ذلك لان ابن ظالم المذكور من قومه, وهو مشهور بالفتك فيهم, فقال: ضربت بسيف جدك فينا ولم يقطع, ولو ضربت بسيف ابن ظالم الذي هو من قومي لم ينب, ولكنك لم تضرب به. هذا معنى البيت المقصود لا ما ذكره السكاكي وغيره فأعلم.
ومن لطيف التلميح أيضاً ما روي, أن الفضل بن محمد الضبي بعث بأضحية هزيل إلى شاعر, فلما لقيه سأله عنها فقال: كانت قليلة الدم, فضحك الفضل وقال: مهلا يا أبا فلان.
أراد الشاعر قول القائل:
إذا ذبح الضبي بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضبي لحما ولا دما
وروى ابن الأعرابي في الآمالي قال: رأى عقال بن شبة بن عقال المجاشعي على أصبع بن عياش وضحا فقال: ما هذا البياض على إصبعك يا أبا الجراح؟ قال سلح النعامة يابن أخي.
أراد قول جرير:
فضح العشيرة يوم يسلح إنما ... سلح النعامة شبه بن عقال
وكان شبة قد برز يوم الطوانة مع العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى رجل من الروم, فحمل عليه الرومي فنكص وأحدث. فبلغ ذلك جريرا باليمامة فقال فيه ذلك.
ورأى الفرزدق مخنثا يحمل قماشة كأنه متحول من دار إلى دار فقال: إلى أين راحت عمتنا؟ فقال: قد نفاها الأغر يا أبا فراس.
يريد قول جرير في الفرزدق:
نفاك الأغر ابن عبد العزيز ... بحقك تنفى عن المسجد
وإنما قال جرير ذلك لأن الفرزدق ورد المدينة والأمير عليها عمر بن عبد العزيز, فأكرمه حمزة بن عبد الله بن الزبير وأعطاه, وقعد عنه عبد الله بن عمرو بن عثمان وقصر به, فمدح الفرزدق حمزة.
وهجا عبد الله فقال:
ما أنتم من هاشم في سرها ... فأذهب إليك ولا بني العوام
قوم لهم شرف البطاح وأنتم ... وضر البلاط وموطئ الأقدام
فلما تناشد الناس ذلك بعث إليه عمر بن عبد العزيز فأمره أن يخرج من المدينة, وقال له: إن وجدتك بها بعد ثلاث عاقبتك. فقال الفرزدق: ما أراني إلا كثمود حين قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.
وأنشد:
توعدني وأمهلني ثلاثاً ... كما وعدت لمهلكها ثمود
فبلغ ذلك جريرا فقال يهجوه:
(1/329)
________________________________________
نفاك الأغر ابن عبد العزيز ... بحقك تنفى عن المسجد
وسميت نفسك أشقى ثمود ... فقالوا ضللت ولم تهتد
وقد أجلوا حين حل العذاب ... ثلاث ليال إلى الموعد
وجدنا الفرزدق بالموسمين ... خبيث المداخل والمشهد
وروى أبو بكر بن دريد في كتاب الأمالي عن أبي حاتم عن العيبي عن أبيه: أنه عرض على معاوية فرس وعنده عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص فقال: كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرف؟ فقال: أراه أجش هزيما, قال معاوية: أجل, لكنه لا يطلع على الكنائن. فقال: يا أمير المؤمنين ما استوجبت منك هذا الكلام كله, قال: لقد عوضك عنه عشرين ألفا.
قال ابن دريد: أراد عبد الرحمن التعريض لمعاوية بما قاله النجاشي في أيام صفين:
ونجى ابن حرب سابح ذو غلالة ... أجش هزيم والرماح دواني
إذا قلت أطراف الرماح تنوشه ... مرته به الساقان والقدمان
فلم يحتمل معاوية منه هذا المزاح وقال: لكنه لا يطلع على الكنائن, لأن عبد الرحمن كان يتهم بنساء أخوته.
قال: وروى صاحب الأغاني هذا الخبر على وجه آخر فقال: عرض معاوية على عبد الرحمن بن الحكم خيله, فمر به فرس فقال له: كيف تراه؟ فقال: هذا سابح, ثم عرض عليه آخر فقال: هذا ذو غلالة, ثم مر به آخر فقال: وهذا أجش هزيم, فقال له معاوية: أبي تعرض؟ قد علمت ما أردت.
إنما أردت قول النجاشي في:
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجش هزيم والرماح دواني
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا ... كسيد الغضا ماض على النسلان
أخرج عني فلا تساكنني في بلد. فذهب إلى أخيه مروان وشكى إليه معاوية فقال له مروان: هذا عملك لنفسك؟ فانشأ يقول:
أتقطر آفاق السماء لها دما ... إذا قلت هذا الطرف أجرد سابح
فحتى متى لا نرفع الطرف ذلة ... وحتى متى تعيا علينا المنادح
فدخل مروان على معاوية فقال: حتى متى هذا الاستخفاف بآل أبي العاص؟ أما والله لتعلم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينا. ولقلَّ ما بقي من الأمد, فضحك معاوية وقال: قد عفوت لك عنه يا أبا عبد الملك.
ورواه أيضاً على وجه غير هذا فقال: قدم عبد الرحمن بن الحكم (على معاوية) وكان قد عزل أخاه مروان وجهه قبله وقال له: ألق معاوية وعاتبه لي واستصلحه.
فلما دخل عليه وهو يعشي الناس فأنشأ يقول:
أتتك العيس تنفخ في براها ... تكشف عن مناكبها القطوع
بأبيض من أمية مضر حي ... كأن جبينه سيف صنيع
فقال له معاوية: أزائرا جئت أم مفاخرا أم مكاثراً؟ فقال: أي ذلك شئت, فقال: ما أشاء من ذلك شيئا. وأراد معاوية أن يقطعه من كلامه الذي عن له فقال: أي الظهر أتيتنا عليه؟ قال له على فرس, قال: وما صفته؟ قال: أجش هزيم.
يعرض له بقول النجاشي له:
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجش هزيم والرماح دواني
(1/330)
________________________________________
فغضب معاوية وقال: أما أنه لم يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب, ولا هو ممن يتسور على جاراته, ولا يتوثب على كنائنه بعد هجعة الناس - وكان عبد الرحمن يتهم في امرأة أخيه - فخجل عبد الرحمن وقال: يا أمير المؤمنين ما حملك على عزلك ابن عمك؟ ألجناية أوجبت سخطا أم لرأي رأيته وتدبير استصلحته؟ فقال: بل لرأي رأيته وتدبير استصوبته, قال: فلا بأس بذلك, وخرج من عنده فلقي أخاه مروان فأخبره بما جرى بينه وبين معاوية فاستشاط غيظا وقال لعبد الرحمن: قبحك الله ما أضعفك عرضت للرجل بما أغضبته, حتى إذا انتصر منك أحجمت عنه. ثم لبس حلته وركب فرسه وتقلد سيفه ودخل على معاوية, فقال له معاوية حين رآه والغضب يتبين في وجهه: مرحبا بأبي عبد الملك, لقد زرتنا عند اشتياق إليك منا, قال: لا والله ما زرتك لذلك, ولا قدمت عليك فألفيتك إلا عاقا قاطعا والله ما أنصفتنا ولا جزيتنا جزاء, لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص, والصهر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم, والخلافة فيهم, فوصلوكم يا بني حرب, وشرفوكم, وولوكم فما عزلوكم, حتى إذا وليتم أبيتم إلا سوء صنيعة, وقبح قطيعة, فرويدا رويدا, قد بلغ بنو الحكم وبنو أبيه نيفا وعشرين, وإنما هي أيام قلائل حتى يكملوا أربعين ويعلم امرؤ أين يكون حينئذ منهم, ثم هم للجزاء بالحسنى والسوأى بالمرصاد. فقال له معاوية: عزلتك لثلاث, لو لم يكن إلا واحدة منهن لأوجبت عزلك: إحداهن أني أمرتك على عبد الله بن عامر وبينكما ما بينكما فلم تستطع أن تشتفي منه.
والثانية, كراهيتك لأمر زياد.
والثالثة, أن ابنتي رملة استعدتك على زوجها عمرو بن عثمان فلم تعدها. فقال مروان: أما ابن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني, ولكن إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه.
وأما كراهتي لأمر زياد, فإن سائر بني أمية كرهوه, وجعل الله لنا في ذلك الكره خيرا.
وأما استعداء رملة على عمرو, فو الله أنه ليأتي علي سنة أو أكثر وعندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا - يعرض له بأن رملة إنما تستعدي عليه بطلب النكاح - فقال له معاوية: يا بن الوزغ, لست هناك, فقال مروان: هو ذاك. ألآن والله إني أبو عشرة, وأخو عشرة, وعم عشرة, وقد كاد ولدي يكملون العدة, ولو قد بلغوها لعلمت أين تقع مني.
فانخزل معاوية ثم قال:
فإن أك في شراركم قليلا ... فإني في خياركم كثير.
بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلاة نزور
فلما فرغ مروان من كلامه خضع له معاوية وقال: لك العتبى وأنا رادك إلى عملك, فوثب مروان وقال له: كلا وعيشك, لا رأيتني عائدا إليه أبدا, وخرج.
فقال الأحنف بن قيس لمعاوية - وكان حاضرا -: ما رأيت قد لك سقطة مثلها, ما هذا الخضوع لمروان؟ وأي شيء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين؟ وأي شيء تخشاه منهم؟. فقال أدن مني حتى أخبرك بذلك. فدنا منه فقال له: أن الحكم بن أبي العاص كان أحد من قدم مع أختي أم حبيبة لما زفت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وهو تولى نقلها, فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحد النظر إليه, فلما خرج من عنده قيل له: يا رسول الله لقد أحددت النظر إلى الحكم؟ فقال: ابن المخزومية ذلك الرجل إذا بلغ ولده ثلاثين, أو قال: أربعين, ملكوا الأمر بعدي, فوالله لقد تلقاها مروان من عين صافية. فقال له الأحنف: لا يسمعن هذا منك أحد, فإنك تضع من قدرك وقدر ولدك, وأن يقض الله أمرا يكن, فقال معاوية: فاكتمها علي يا أبا عمرو إذن, فقد لعمري صدقت ونصحت.
ومن لطيف التلميح المذكور أيضاً, ما حكي أنه دخل عبد الحميد بن سعيد بن مسلم الباهلي ومعه ابنه الأفوه - وكان مبغما - فتخلى الناس حتى بلغ إلى عمر بن فرح المذحجي, فلما قرب منه قال له: من هذا؟ قال: ابني أصلحك الله, وهل يخفى القمر؟ فقال: إن كان كذلك فرفع عنه حاشية الأزرار.
أراد قول بشار بن برد:
إذا أعيتك نسبة باهلي ... فرفع عنه حاشية الأزرار
على أستاه سادتهم كتاب ... موالي عامر وسما بنار
(1/331)
________________________________________
ومنه حمزة بن بيض الحنفي الشاعر قدم على بلال بن بردة, وكان كثير المزاح معه, فقال لحاجبه: استأذن لحمزة بن بيض الحنفي, فدخل الحاجب فأخبره به, فقال: أخرج فقل له: حمزة بن بيض ابن من؟ فقال له: أدخل فقل له: الذي جئت إليه وأنت أمرد, فسألته أن يهب لك طائرا, فأدخلك وناكك ووهب لك الطائر, فشتمه الحاجب, فقال له: ما أنت ذا؟ بعثتك برسالة فأخبره الجواب, فدخل الحاجب وهو مغضب, فلما رأه بلال ضحك وقال: ما قال لك قبحه الله؟ فقال: ما كنت لأخبر الأمير بما قال. فضحك حتى فحص برجله الأرض وقال له: قد عرفنا العلامة فأدخله, فدخل وأكرمه, وسمع مديحه, وأحسن وصلته.
وأراد بلال: ابن بيض ابن من؟ قول القائل فيه:
أنت ابن أبيض لعمري لست أنكره ... فقد صدقت ولكن من أبو بيض
ومن التلميح الدقيق ما حكي أن قتيبة بن مسلم دخل على الحجاج وبين يديه كتاب قد ورد إليه من عبد الملك وهو يقرأه ولا يعلم معناه وهو مفكر, فقال: ما الذي أحزن الأمير؟ قال كتاب ورد من أمير المؤمنين لا أعلم معناه, فقال: إن رأى الأمير أعلامي به, فناوله إياه وفيه: أما بعد فأنك سالم والسلام. فقال قتيبة: مالي أن استخرجت لك ما أراد؟ قال: ولاية خرسان, قال: إنه ما يسرك أيها الأمير ويقر عينك.
إنما أراد قول الشاعر:
يديرونني عم سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر. فولاه خرسان.
ويشبه هذه الحكاية: أن الحجاج كتب إلى عبد الملك كتابا يغلظ فيه أمر الخوارج, ويذكر فيه حال قطري وغيره وشدة شوكتهم, فكتب إليه عبد الملك: أوصيك بما أوصى به البكري زيدا والسلام.
فلم يفهم الحجاج ما أراد عبد الملك, فاستعلم ذلك من كثير من العلماء بأخبار العرب فلم يعلم أحد منهم ما أراد. فقال: من جاءني بتفسيره فله عشرة آلاف درهم. وورد رجل من أهل الحجاز متظلم من بعض العمال, فقال له قائل: أتعلم ما أوصى به البكري زيدا؟ قال: نعم أعلمه, فقيل له: فأت باب الأمير فأخبره ولك عشرة آلاف درهم.
فدخل عليه وسأله فقال: نعم أيها الأمير أنه يعني قوله:
أقول لزيد لا تترتز فإنهم ... يون المنايا دون قتلك أن قتلي
فإن وضعوا حربا فضعها وان أبوا ... فعرضه نار الحرب مثلك أو مثلي
وإن رفعوا الحرب العوان التي ترى ... فشب وقود النار بالحطب الجزل
فقال الحجاج: أصاب أمير المؤمنين فيما أوصاني, وأصاب البكري فيما أوصى به زيدا, وأصبت أيها الأعرابي, ودفع إليه الدراهم.
وكتب الحجاج إلى المهلب, إن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيدا, وأنا أوصيك بذلك, وبما أوصى به الحارث بن كعب بنيه. فنظر وصية الحارث بن كعب فإذا فيها: يا بني كونوا جميعا ولا تكونوا شيعا فتفرقوا, وترووا قبل أن تنزوا, فموت في قوة وعز, خير من حياة في ذل وعجز. فقال المهلب: صدق البكري, وصدق الحارث وأصاب.
ومن لطائف التلميح قصة المنصور مع الهذلي. فقد روي أنه وعده بجائزة ثم نسي, فحجا معا ثم مرا في المدينة الشريفة ببيت عاتكة, فقال الهذلي: يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص:
يا دار عاتكة التي أتغزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
فأنكر عليه المنصور ابتداءه بالخبر من غير سؤال, ثم أمر المنصور القصيدة على خاطره ليعلم ما أراد, فإذا فيها:
أراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فعلم أنه أراد هذا البيت, فتذكر ما وعده به فأنجزه.
ومثله ما حكي أن أبا العلاء المعري كان يتعصب للمتنبي, وشرح ديوانه وسماه معجز أحمد, وكان يقول: إن المتنبي نظر إلي بلحظ الغيب حيث يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
فاتفق أنه حضر يوما مجلس الشريف المرتضى فجرى فيه ذكر أبي الطيب المتنبي, فأخذ المرتضى في هضم جانبه, فقال المعري: يا مولانا لو لم يكن للمتنبي من شعر إلا قوله (لك يا منازل في القلوب منازل) لكفاه. فغضب الشريف وأمر الغلمان بسحبه وإخراجه, فأخرج مسحوبا. فلامه الحاضرون على ذلك, فقال لهم: أنكم لا تدرون ما عنى بذكر هذا البيت.
إنما عنى به قوله في هذه القصيدة:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
(1/332)
________________________________________
فعجبوا من ذكاء الشريف فهمه لما عناه.
ومن لطيف التلميح بهذا البيت أيضاً ما حكاه صاحب الحدائق: أن الفتح بن خاقان ذكر ابن الصائغ في كتابه - قلائد العقيان - فقال فيه: رمد عين الدين, وكمد نفوس المهتدين, أشتهر سخفا وجنونا, وهجر مفروضا ومسنونا, ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة, ولا أظهر مخيلة إنابة, ولا استنجى من حدث, ولا شجى فؤاده مواراة في حدث, ولا قر بباريه ومصوره, ولا فر عن تباريه في ميدان تهوره. الإساءة إليه أجدى من الإحسان, والبهيمة لديه أهدى من الإنسان, إلى غير ذلك. فبلغ ابن الصائغ انتقاصه له, فمر يوما على الفتح وهو جالس في جماعة فسلم على القوم, وضرب على كتف الفتح وقال له: شهادة يا فتح, ومضى, فلم يدر أحد من القوم ما أراد بذلك إلا الفتح, فأنه تغير لونه, فقيل له: ما قال لك؟ فقال: إني وصفته بكتابي بما تعملون, فما بلغت بذلك عشر ما بلغ هو مني بهذه الكلمة.
فإنه يشير إلى قول المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ويقرب من هذا التلميح الدقيق ما حكاه أبو الوليد إسماعيل الشقندي - نسبة إلى شقندة, بالشين المعجمة, قرية مطلة على نهر قرطبة, مجاورة لها من جهة الجنوب - قال: كنت يوما بين يدي الفقيه الرئيس أبي بكر بن زهر, فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خرسان - وكان ابن زهر يكرمه - فقلت له: ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم؟ فقال: كبرت, فلم أفهم مقصده, واستبردت ما أتى به, وفهم عني أبو بكر بن زهر أني نظرته نظرة المستبرد المنكر فقال لي: أقرأت شعر المتنبي؟ قلت: نعم وحفظت جميعه, قال: فعلى نفسك إذن فلتنكر, وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم.
فذكرني بقول المتنبي:
كبرت حول ديارهم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق
فاعتذرت إلى الخرساني وقلت له: والله قد كبرت في عيني بعدما صغرت نفسي عندي حين لم أفهم نيل مقصدك.
ومن ذلك أيضاً قصة السري الرفاء مع سيف الدولة بن حمدان بسبب المتنبي, فإنهما كانا من شعرائه ومداحه فجرى ذكر المتنبي يوما بحضرة سيف الدولة, فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه وعلى شعره, فقال له السري: أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لا عارضها, ويتحقق بذلك أنه أركب في غير سرجه. فقال له سيف الدولة على الفور عارض لنا قصيدة القافية التي مطلعها:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق منه وما بقي
قال السري: فكتبت القصيدة واعتبرتها فلم أجدها من مختارات أبي الطيب, ولكني رأيته يقول فيها:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحق
فعلمت أن سيف الدولة إنما أشار إلى هذا البيت فأعرضت عن معارضته.
ومن ذلك أيضاً ما حكاه الشيخ الفاضل الأديب عبد علي بن ناصر الشهير بابن رحمة الحويزي في كتابه - المعول في شرح شواهد المطول -: أنه جرى بين السيّد علي بن بركات الحسني والشريف زيد بن محسن أمير مكة المشرفة عتاب طال به الخطاب, وكان السيّد علي بن بركات شيخا عالي السن, والشريف زيد شابا.
فأنشد السيّد علي قول الطفرائي:
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل
فغضب الشريف زيد وقال: لم ترد هذا, وإنما أردت ما قبله وهو:
ما كنت أحسب أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد السفل
انتهى بالمعنى.
ومن الطريف التلميح أيضاً ما يحكى أن رجلا قعد على جسر بغداد, فأقبلت امرأة بارعة الجمال من ناحية الرصافة إلى جانب الغربي, فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم, فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري, وما وقفا بل سارا مشرقا ومغربا. قال الرجل: فتبعت المرأة وقلت لها: لئن لم تخبريني بما أراد بابن الجهم, وما أردت بأبي العلاء المعري فضحكت.
فقالت: أراد بابن الجهم قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... ***ن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت أنا بأبي العلاء قوله:
فيا دارها بالخيف أن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
(1/333)
________________________________________
ومثل ذلك بعينه ما حكاه الشيخ فتح الدين بن السيّد الياس: أن الشيخ بهاء الدين النحاس دخل إلى الجامع الأزهر يوما, فوجد أبا الحسين الجزار جالسا إلى جانبه وإلى جانبه مليح, ففرق بينهما وصلى ركعتين, ولما فرغ قال لأبي الحسين الجزار: ما أردت إلا قول ابن سناء الملك, فقال أبو الحسين: وأنا تفاءلت بقول صاحبنا السراج الوراق.
أراد ابن النحاس قول ابن سناء الملك:
أنا في مقعد صدق ... بين قواد وعلق
وأراد الجزار قول السراج الوراق:
ومهفهف راض الأبي فقاده سلس القياد
لما توسط بيننا ... جرت الأمور على السداد
ومن لطيفه أيضاً ما روي: أن أحمد بن يوسف الوزير دخل على المأمون, وعريب جاريته تغمز رجله, فخالسها النظر وأومى إليها بقبلة فقالت: كحاشية البرد, فلم يدر ما أرادت, فحدث بذلك محمد بن بشير فقال له: أنت تدعي الفطنة ويذهب عليك مثل هذا؟ أرادت طعنة وعنت قول الشاعر:
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم
ومنه قول الحريري: وإني والله لطالما تلقيت الشتاء بكافاته, وأعددت له الأهب قبل موافاته.
يريد قول ابن سكرة:
جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا الغيث عن حاجاتنا حبسا
كن وكيس وكانون وكأس طلا ... مع الكباب وكس ناعم وكسا
وقال الآخر وفيه تلميحان:
يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هن إلا واحد غير مفترى
إذا صح كاف الكيس فالكل حاصل ... لديك وكل الصيد في باطن الفرى
لمح بكافات الشتاء إلى بيتي ابن سكرة, ولمح بقوله (وكل الصيد في باطن الفرى) إلى المثل المشهور (كل الصيد في جوف الفرى) وأصله: أن قوما خرجوا للصيد, فصاد أحدهم ظبيا, والآخر أرنبا, وأخر فرى, أي حمارا وحشيا, فقال لأصحابه في جوف القرى, يعني أن ما صاده كلكم يسير بالنسبة إلى ما صدته. ومن أظرف ما وقع من التلميح إلى بيتي ابن سكرة ما حكي: أن امرأة بارعة الجمال والأدب مرت بقوم وهي ملتفة بكساء, فقال لها بعضهم: من أنت؟ فقالت: أنا السادس في السابع. تشير إلى قوله (وكس ناعم وكسا) فكأنها قالت: أنا الكس الناعم في الكساء ونظم بعضهم هذا المعنى فقال:
رأيتها ملفوفة في كسا ... خوفا من الكاشح والطامع
قلت لها من أنت يا هذه ... قالت أنا السادس في السابع
وما ألطف قول أبي الحسين الجزار ملمحا إلى بيتي ابن سكرة أيضا:
وكافات الشتاء تعد سبعا ... ومالي طاقة بلقاء سبع
إذا ظفرت بكاف الكيس كفي ... ظفرت بمفرد يأتي بجمع
فائدة - قال في القاموس: الكس بالضم للحر ليس من كلامهم وإنما هو مولد. وقال الأنباري في شرح المقامات الكس والسرم لغتان مولدتان وليستا بعربيتين, وإنما يقال: دبر وفرج. وقال الحافظ السيوطي في المزهر: في لفظة الكس ثلاثة مذاهب لأئمة العربية, أحدها هذا, والثاني أنه عربي ورجحه أبو حيان في تذكرته, ونقله عنه الأسنوي في المهمات, وكذا الصغاني في كتاب خلق الإنسان ونقله عنه الزركشي في تتمات المهمات.
قلت: وحكى أبو حيان عن النحاس أنه سمع من كلام العرب:
وا عجبا للساحقات الورس ... الواضعات الكس فوق الكس
الثالث أنه فارسي معرب, وهو رأي الجمهور ومنهم المطرزي في شرح المقامات.
ومنه أيضاً قول بعضهم:
لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي ... أرق وأحنى منك في ساعة الهجر
ولمح فيه إلى قول الشاعر:
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقول ابن حجاج وفيه تلميحان:
نبهت منه لحاجتي عمرا ... ولم أعول فيها على عمرو
لمح في الصراع الأول إلى قول القائل:
إذا أيقضتك حروب العدى ... فنبه لها عمرا ثم نم
وفي المصراع الثاني إلى البيت المذكور.
الفصل الرابع فيما وقع فيه التلميح إلى مثل. فمنه قول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
(1/334)
________________________________________
يشير إلى المثل المشهور (أخلف من عرقوب) وهو رجل من العمالقة, وهو عرقوب بن زهي, أحد بني شمس بن ثعلبة, أو عرقوب بن صخر, على خلاف في ذلك. وكان من خبره أنه وعد أخا له ثمرة نخلة, وقال له: ائتني إذا طلع النخل, فلما أطلع قال: إذا أبلح قال: إذا أزهى (فلما أزهى) قال: إذا رطب قال: إذا أتمر, فلما أتمر جذه ليلا ولم يعطه شيئا.
وقال ( ... ) أو علقمة الأشجعي:
وعدت وكان الخلف منك سجية ... مواعيد عرقوب أخاه بيترب
قال التبريزي: والناس يروون (يثرب) في هذا البيت, بالثاء المثلثة والراء المكسورة, وإنما هو بالمثناة وبالراء المفتوحة: موضع بقرب مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, قال ابن الكلبي. قال ابن هشام: وقاله أبو عبيدة, وقد خولفا في ذلك.
قال ابن دريد: اختلفوا في عرقوب فقيل: هو من الأوس فيصح على هذا أن يكون بالمثلثة المكسورة. وقيل: من العماليق فيكون بالمثناة وبالمفتوحة, لأن العماليق كانت من اليمامة إلى وبار, ويترب هناك. قال: وكانت العماليق أيضاً في المدينة, انتهى.
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: سميت المدينة يثرب باسم الذي نزلها من العماليق, وهو يثرب بن عبيد, وبنو عبيدهم الذين سكنوا الحجفة, فأحجفت بهم السيول فسميت الحجفة.
ولا يجوز الآن أن تسمى المدينة يثرب لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يقولون: يثرب هي المدينة. وكأنه كره هذا الاسم, لأنه من مادة التثريب, وأما قوله تعالى (يا أهل يثرب) فحكاية عمن قاله من المنافقين.
ومنه قول المتلمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تفرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
يشير إلى المثل (إن العصا قرعت لذي الحلم) يضرب لمن إذا تنبه انتبه.
وذو الحلم هو عامر بن الظرب العدواني كان من حكماء العرب لا تعدل بفهمه فهما, ولا بحكمه حكما. فلما طعن في السن أنكر من عقله شيئاً فقال لبنيه: أنه قد كبرت سني, وعرض لي سهو فإذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا لي المحجن بالعصا. يقال: أنه عاش ثلاثمائة سنة.
وهو الذي يقول:
تقول ابنتي لما رأتني كأنني ... سليم أفاع ليله غير مودع
وما الموت أغناني ولكن تتابعت ... علي سنون من مصيف مربع
ثلاث مئين قد مررن كواملا ... ها أنا هذا ارتجي مر أربع
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه ... إذا رام تطيارا يقال له قع
أخبر أخبار القرون التي مضت ... ولابد يوما أن يطار بمصرعي
قال ابن الإعرابي: أول من قرعت له العصا عامر بن الظرب العدواني, وربيعة تقول: بل هو قيس بن خالد بن ذي الجدين, وتميم تقول: بل هو ربيعة بن مخاشن أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم, واليمن تقول: بل هو عمرو بن حممه الدوسي.
قال: وكانت حكام تميم في الجاهلية: أكثم بن صيفي, وحاجب بن زرارة, والأقرع بن حابس, وربيعة بن مخاشن, وضمرة بن ضمرة. غير أن ضمرة حكم فأخذ رشوة فعذر.
وحكام قيس: عامر بن الظرب, وغيلان بن سلمة الثقفي. وكانت له ثلاثة أيام: يوم يحكم بين الناس, ويوم ينشد فيه شعره, ويوم ينظر فيه إلى جماله. وجاء الإسلام وعنده عشر نسوة, فخيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فأختار أربعا فصار سنة.
وحكام قريش: عبد المطلب, وأبو طالب, والعاص بن وائل.
وحكيمات العرب: صخر بنت لقمان, وهند بنت الحسن, وجمعة بنت حابس, وابنة عامر بن الظرب الذي يقال له: ذو الحلم.
ومنه قول أبي العلاء المعري:
إذا وصف الطائي بالبخل مادرٌ ... وعير قسا بالفهاهة باقل
وقال السها للشمس أنت خفية ... وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
فيا موت زر أن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي أن دهرك هازل
فلمح في البيت الأول إلى أربعة أمثال. فإن الطائي وهو حاتم ويضرب به المثل في الجود, فيقال: أجود من حاتم. وقسا يضرب به المثل في البلاغة فيقال: أبلغ من قس. ومادرا يضرب به المثل في البخل, فيقال: أبخل من مادر. وباقلا يضرب به المثل في العي, فيقال: أعيا من باقل.
(1/335)
________________________________________
فأما حاتم, فهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج. كان جوادا شجاعا شاعرا مظفرا, إذا قاتل غلب, وإذا غنم أنهب, وإذا سئل وهب, وإذا ضرب بالقداح سبق؛ وإذا أسر أطلق, وإذا أثرى أنفق. وكان أقسم بالله لا يقتل واحد أمه.
ومن حديثه, أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة, فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم, يا أبا سفانة, أكلني الأسار والقمل, فقال: ويحك ما أنا في بلاد قومي, وما معي شيء, وقد أسأت بي إذ نوهت باسمي ومالك مترك. ثم ساوم به العنزيين واشتراه منهم فخلاه وأقام مكانه في قده حتى أتي بفدائه فأداه إليهم.
ومن حديثه. أن ماوية امرأة حاتم حدثت: أن الناس أصابتهم سنة فأذهبت الخف والظلف فبتنا ذات ليلة بأشد الجوع, فأخذ حاتم عديا, وأخذت سفانة, فعللناهما حتى ناما. ثم أخذ يعللني بالحديث لأنام, فرفقت به لما به من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمة. فقال لي: أنت؟ مرارا فلم أجبه, فسكت: ونظر من وراء الخباء فإذا شيء قد أقبل, فرفع رأسه فإذا امرأة تقول: يا أبا سفانة أتيتك من عند صبية جياع, فقال: أحضريني صبيانك. فو الله لأشبعنهم. قالت: قمت سريعا فقلت: بماذا يا حاتم؟ فو الله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل. فقام إلى فرسه فذبحه ثم أجج نارا. ودفع إليها شفرة وقال: أشوي وكلي وأطعمي ولدك. وقال لي: أيقظي صبييك, فأيقضتهما. ثم قال: والله (أن) هذا للؤم أن تأكلوا وأهل الصرم حالهم كحالكم, فجعل يأتي الصرم بيتا بيتا ويقول: عليكم بالنار, فاجتمعوا وأكلوا. وتقنع بكسائه, وقعد ناحية, حتى لم يوجد من الفرس على الأرض قليل ولا كثير, ولم يذق منه شيئا.
وزعم الطائيون أن حاتما أخذ الجود عن أمه غنية بنت عفيف الطائية, وكانت لا تليق شيئاً سخاء وجودا.
وأما مادر, فهو رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة, وبلغ من بخله أنه سقى أبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل فسلخ فيه ومد الحوض به فسمي مادرا لذلك, واسمه مخارق.
وفي بني هلال يقول الشاعر:
لقد جللت خزيا هلال بن عامر ... بني طرأ بسلحة مادر
فأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها ... بني عامر أنتم شرار المعاشر
قال حمزة: وحدثني أبو بكر بن دريد قال: حدثني أبو حاتم, عن أبى عبيدة, أنه قرأ عليه حديث مادر فضحك. قال: فقلت له: ما الذي أضحك؟ فقال: تعجبي من تسيير العرب من أمثال لها, ولو سيروا ما هو أهم منها لكان أبلغ لها, قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل مادر هذا جعلوه في البخل مثلا بفعلة صدرت منه تحتمل التأويل. وتركوا مثل ابن الزبير مع ما يؤثر على لفظه وفعله من دقائق البخل فتركوه كالغفل.
فمن ذلك أنه نظر إلى رجل من أصحابه - وهو يومئذ خليفة يقاتل الحجاج بن يوسف على دولته, وقد دق الرجل في صدور أهل الشام ثلاثة أرماح - فقال له: يا هذا اعتزل حربنا, فإن بيت المال لا يقوى على هذا. وقال في تلك الحرب لجماعة من جنده: أكلتم تمري وعصيتم أمري.
وسمع أن مالك بن أشعر الرزامي من بني مازن أكل من بعير وحده وحمل ما بقي على ظهره. فقال: دلوني على قبره أنبشه.
وقال لرجل أتاه مجتدياً - وقد أبدع به فشكى إليه حفى ناقته -: أخصفها بهلب, وأرقعها بسبت وأنجد بها يبرد خفها. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين جئتك مستوصلا لا مستوصفا, فلا بقيت ناقة حملتني إليك. فقال: إن وصاحبها.
قال أبو عبيدة: فلو تكلف الحارث بن كلدة طبيب العرب, أو مالك بن زيد مناة, وحنفيف الحاتم أطباء العرب من وصف علاج ناقة الإعرابي ما تكلفه هذا الخليفة لما كانوا يعشرونه, وكان مع هذا يأكل في كل أسبوع أكلة ويقول في خطبته: إنما بطني شبر في شبر, وعندي ما عسى يكفيني.
فقال فيه الشاعر:
لو كان بطنك شبرا وقد شبعت وقد ... أفضلت فضلا كثيرا للمساكين
فإن تصبك من الأيام جانحة ... لا نبك منك على دنيا ولا دين
وأما قس, فهو قس بن ساعدة بن حذاقة بن زهير بن أياد بن نزار الإيادي وكان من حكماء العرب, وأعقل من سمع به منهم, وهو أول من كتب من فلان إلى فلان, وأول من أقر بالبعث من غير علم, وأول من قال: أما بعد وأول من قال: البينة على من أدعى واليمين على من أنكر. وقد عمر مائة وثمانين سنة.
قال الأعشى:
وأبلغ من قس وأجرى من الذي ... بذي الغسيل من خفان أصبح خادرا
(1/336)
________________________________________
وأخبر عامر بن شراحيل الشعبي عن عبد الله بن عباس: أن وفد بكر بن وائل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فلما فرغ من حوائجهم قال: هل فيكم أحد يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا كلنا نعرفه, قال: فما فعل؟ قالوا: هلك, فقال صلى الله عليه وآله وسلم: كأني به على جبل أحمر بعكاظ قائما يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا, كل من عاش مات, وكل من مات فات, وكل ما هو آت آت. أن في السماء لخبرا, وأن في الأرض لعبرا. مهاد موضوع, وسقف مرفوع, وبحار تموج, وتجارة لن تبور. ليل داج, وسماء ذات أبراج. أقسم قس حقا لئن كان في الأمر رضى ليكونن بعده سخط. مالي أرى الناس يموتون فلا يرجعون؟ أرضوا؟ أم تركوا فناموا؟..
ثم أنشد أبو بكر رضي الله تعالى عنه شعرا حفظه له وهو قوله:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ... ولا نم الباقي غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
وأما باقل, فهو رجل من ربيع, وقيل من أياد. يقال: أنه أشترى ظبيا بأحد عشر درهما, فمر بقوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي. فلم يقدر على الكلام, فمد يديه ونشر أصابعهما, ودلع لسانه مشيرا يردي أحد عشر, وخلى الظبي فشرد.
ومنه قول بعضهم:
عشن بجد ولا يضرك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود
عش بجد وكن هبنقة القي ... سي نوكا أو شيبة بن الوليد
يشير إلى حمق هبنقة المضرب به المثل واسمه يزيد بن ثروان, ويلقب بذي الودعات, أحد بني قيس بني ثعلبة, وبلغ من حمقه أنه ضل له بعير فجعل ينادي: من وجد بعيري فهو له, فقيل له: فلم تنشده؟ قال: فأين حلاوة الوجدان؟.
ومن حمقه أنه اختصمت الطفاوة وبنو راسب إلى عرباض في رجل ادعاه هؤلاء وهؤلاء, فقال الطفاوة: هذا من عرافتنا, وقال بنو راسب: بل هو من عرافتنا, ثم قالوا: رضينا بأول من يطلع علينا؟ فلما دنا قصوا عليه قصتهم فقال هبنقة: الحكم عندي, أن يذهب به إلى نهر البصرة فيلقى فيه, فإن كان راسبيا رسب فيه, وإن كان طفاوياً طفا. فقال الرجل: لا أريد أن أكون واحد من هذين الحيين, ولا حاجة لي بالديوان.
ومن حمقه أنه جعل في عنقه قلادة من ودعة وعظام وخزف, وهو ذو لحية طويلة, فسئل عن ذلك فقال: لا عرف بها نفسي, ولئلا أضل. فبات ذات ليلة وأخذ أخوه قلادته فتقلدها, فلما أصبح ورأى القلادة في عنق أخيه قال: يا أخي أنت أنا فمن أنا؟.
ومن حمقه أنه كان يرعى غنم أهله, فيرعى السمان في العشب, وينحي المهازيل, فقيل له: ويحك ما تصنع؟ قال: لا أفسد ما أصلح الله, ولا أصلح ما أفسده.
ولنكتف من شواهد التلميح بهذا المقدار فإنه باب لا ينتهي حتى ينتهي عنه, ونورد الآن أبيات البديعيات.
فبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
إن ألقها تتلقف كلما صنعوا ... إذا أتيت بسحر من كلامهم
التلميح فيه هو الإشارة إلى قصة موسى عليه السلام مع *****ة لما ألقى العصا.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
وتقرع السمع عن حق زواجره ... قرع الرماح ببدر ظهر منهزم
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
وبان في كتب التاريخ من قدم ... تلميح قصة موسى مع معدهم
قال ابن حجة: لم ألمح من خلال بيت الشيخ عز الدين غفر الله له لمحة تلدني على نور التلميح, لكنه ساق حكاية مضمونها: أن كتب التاريخ القديمة بان فيها تلميح قصة موسى عليه السلام مع معد, والله أعلم. انتهى, وهو في محلة.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ورد شمس الضحى للقوم خاضعة ... وما ليوشع تلميح بركبهم
قد تقدم أن هذا التلميح استعملته الشعراء كثيرا في أقوالهم, أعني التلميح برد الشمس ليوشع, فما زاد ابن حجة عليهم بشيء يعلم, إلا بإعجابه بنظمه له, وتزكيته لنفسه بما تمجه الأسماع, وتنفر عنه الطباع.
وبيت بديعة الطبري قوله:
بمعجزات أتت كم أبهرت خصما ... كشاة خيبر تلميحا بعجزهم
(1/337)
________________________________________
التلميح فيه إلى قصة الشاة التي أهدتها اليهودية إليه صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر, وكانت قد صلتها وسمتها, فأكل منها وأكل القوم, فقال: أرفعوا أيديكم فأنها أخبرتني أنها مسمومة, والقصة مشهورة.
وبيت بديعيتي هو قولي:
تلميحه كم شفى في الخلق من علل ... وما لعيسى يد فيها فلا تهم
التلميح فيه هو الإشارة إلى إبراء عيسى عليه السلام للمرضى. قال البغوي في تفسيره: قال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا, من أطاق منهم أن يبلغه بلغه, ومن لم يطق مشى إليه عيسى. وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان.
وأما إبراء نبينا صلى الله عليه وآله وسلم للمرضى فقد وردت به روايات كثيرة.
روي أن عين قتادة بن النعمان أصيبت يوم أحد حتى وقعت على وجنته, فردها صلى الله عليه وآله, فكانت أحسن من عينه. وبصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قرد, قال: فما ضرب علي ولا قاح.
وروى النسائي عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله, أدع الله أن يكشف لي عن بصري, قال: فانطلق فتوضأ, ثم صلّى الله عليه وسلّم ركعتين, ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة. يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف عن بصري. اللهم شفعه في. قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره.
وروي أن ابن ملاعب الأسنة أصابه استسقاء, فبعث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فأخذ بيده جثوة من الأرض, فتفل عليها ثم أعطاها رسوله. فأخذها متعجبا يرى أن قد هزئ به, فأتاه بها - وهو على شفا - فشربها فشفاه الله.
وذكر العقيلي عن حبيب بن فديك - يقال: فويك - أن أباه ابيضت عيناه, فكان لا يبصر بهما شيئا, فنفث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عينه فأبصر, فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين.
ورمي كلثوم بن الحصين يوم أحد في نحره, فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه فبرأ. وتفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تمد. وتفل في عيني علي يوم خيبر وكان رمدا فأصبح بارئا. ونفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر فبرئت. وفي رجل زيد بن معاذ حين أصابها السيف إلى الكعب (حين قتل ابن الأشرف) فبرئت. وعلى ساق علي بن الحكم يوم الخندق إذ انكسرت فبرأ مكانه وما نزل عن فرسه.
واشتكى عليه بن أبي طالب عليه السلام فجعل يدعو, فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم اشفه (أو عافه) , ثم ضربه برجله فما اشتكى ذلك الوجع بعد.
وقطع أبو جهل يوم بدر يد معوذ بن عفراء. فجاء يحمل يده, فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وآله, وألصقها فلصقت. رواه ابن وهب. ومن روايته أيضاً, أن حبيب بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضربة على عاتقه, حتى مال شقه, فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفث عليه حتى صح.
وأتته امرأة من خثعم معها صبي به بلاء لا يتكلم, فأتي بما فمضمض فاه, وغسل يديهن ثم أعطاها إياه وأمره بسقيه, ومسه به, فبريء الغلام وعقل عقلا يفضل عقول الناس.
وعن ابن عباس, جاءت امرأة بابن لها به جنون, فسمح صدره فثع ثعة فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود وشفي.
وانكفأ القدر على ذراع محمد بن حاطب وهو طفل, فسمح عليه ودعا له, وتفل فيه فبريء لحينه.
وكانت في كف شرحبيل الجعفي سلعة تمنعه من القبض على السيف وعنان الدابة, فشكاها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها ولم يبق لها أثر.
وسألته جارية طعاما وهو يأكل, فناولها من بين يديه - وكانت قليلة الحياء - فقالت: إنما أريد من الذي في فيك, فناولها ما في فيه - ولم يكن يسأل شيئاً فيمنعه - فلما استقر في جوفها ألقى عليها من الحياء ما لم يكن امرأة بالمدينة أشد حياء منها.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
أهل الفضائل سيماهم تبين ولا ... سيماهم وهي نور في وجوههم
(1/338)
________________________________________
وقال ناظمة في شرحه: معناه هم أهل الفضائل (سيماهم تبين) أي تظهر. ولا سيماهم: الأصل, ولاسيما, بياء متحركة, وهي مركبة من سي, وما؛ يستثنى بها؛ فسكنت الياء بضرورة الشعر وهو جائز؛ والضمير المتصل يعود إلى الصحابة. وقوله: وهي نور في وجوههم, يعين أثر السجود. وفي البيت التجنيس الملفق. انتهى كلامه, وكأنه يريد التلميح إلى قوله تعالى (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) .
العنوان
وآدم إذ بدا عنوان زلته ... به توسل عند الله في القدم
العنوان بضم وقد يكسر, والأول أفصح. قال أبو الهيثم: أصله عنان كرمان, فلما كثرت النونات قلبت إحداهما واوا. ومن قال: علوان, جعل النون لاما, لأنها أخف وأظهر من النون. قال: وكلما استدللت بشيء تظهره على غيره فهو عنوان له. قال: وعننت الكتاب, وعنيته, وعنونته, وعلونته بمعنى واحد. قال: وسمي عنوان الكتاب عنوانا لأنه يعزله نم ناحيته.
وقال الجوهري: ويقال: عينان. وقال الليث: العلوان لغة في العنوان غير جيدة.
قال في المصباح: وعنوان كل شيء ما يستدل به عليه, ويظهره.
وفي اصطلاح البديعيين قال ابن أبي الإصبع: هو أن يأخذ المتكلم في غرض فيأتي لقصد تكميله وتأكيده بأمثلة في ألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدمة وقصص سالفة. ومنه نوع عظيم جدا, وهو عنوان العلوم, بأن يذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها.
فمن الأول قوله تعالى (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) الآية, فإنه عنوان قصة بلعام.
ومن الثاني قوله تعالى (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) الآية فيها عنوان علم الهندسة, فإن الشكل المثلث أول الأشكال, وإذا نصب في الشمس على أي ضلع من أضلاعه لا يكون له ظل, لتحديد رؤوس زواياه. فأمر الله تعالى أهل جهنم بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكما بهم. وقوله (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) الآيات, فيها عنوان علم الكلام, وعلم الجدل, وعلم الهيئة. انتهى.
وكثيرا ما يقع هذا النوع في أشعار المتقدمين بخلاف أقوال المتأخرين.
فمن ذلك قول أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وقد كتب إليه بعض إخوانه يوصيه بالصبر, وأجابه بقوله:
ندبت لحسن الصبر قلب نجيب ... وناديت للتسليم خير مجيب
ولم يبق مني غير قلب مشيع ... وعود على ناب الزمان صليب
وقد علمت أمي بأن منيتي ... بحد سنان أو بحد قضيب
كما علمت من قبل أن يهلك ابنها ... بمهلكه في الماء أم شبيب
فهذا عنوان لخبر أم شيب الخارجي. فإنها كانت قد رأت أنها ولدت نارا, فلم تزل النار تشتعل حتى بلغت السماء وعمت بضيائها أقطار الأرض ثم وقعت في ماء فطفئت. وكان إذا قيل لها: أن ابنك قتل لم تصدق, وإذا قيل لها: إنه مات قالت: لا, فلما قيل لها: أنه غرق, ناحت عليه. وكان وثب به فرسه في دجلة من أعلى الجسر فوقع في الماء, وأثقله الحديد الذي عليه فغرق. وحكي أن أصحاب الحجاج غاصوا عليه فأخرجوه من الماء, وشقوا بطنه, واستخرجوا قلبه فوزنوه فكان سبعة أرطال, ويقال: أنهم كانوا يضربون فيه الأرض فيطفر, وإن أحدهم كان يغمزه بأصبعه فيجده كالحجر صلابة, وحديثه معروف.
ومن هذه القصيدة أيضا:
تحملت خوف العار أعظم خطة ... وأملت نصرا كان غير قريب
وللعار خلى رب غسان ملكه ... وفارق دين الله غير مصيب
(1/339)
________________________________________
هذا أيضاً من نوع العنوان, فإنه يشير إلى قصة جبلة بن الأيهم, وهو آخر ملوك غسان, وهو بن الأيهم بن الحارث الغساني, وهو أول من ملك الشام من آل غسان, وكان طوالا, يقال: أن طوله كان اثني عشر ذراعا. وكان من خبره أنه قدم إلى عمر ليسلم, فخرج في خمسمائة فارس من عكل وجفنة. فلما قربوا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوجة بالذهب, والخز الأصفر, وحملهم على الخيل, وقلدها قلائد الفضة والذهب, ولبس تاجه, وفيه قرطا مارية, فلم يبق في المدينة إلا من خرج إليه. وفرح المسلمون بقدومه وإسلامه. ثم حضر الموسم مع عمر, فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ أزاره رجل من فزارة فحله, فالتفت إليه مغضبا فلطمه فهشم أنفه, فاستعدى عليه الفزاري عمر, فقال له: ما دعاك إلى لطم أخيك؟ قال: إنه وطئ أزاري, ولولا حرمة البيت لأزلت الذي فيه عيناه. فقال له عمر: أما أنت فقد أقررت, فأما أن ترضيه, وأما أن أقيده منك. قال: أتقيده مني وهو سوقه؟ قال: قد شملك وإياه الإسلام, فما تفضله إلا بالعافية, قال: قد رجون أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية, قال: وهو ذاك, قال: إذن أتنصر, قال: إذا تنصرت ضربت عنقك. واجتمع وفد فزاره, ووفد جبلة حتى كادت تكون فتنة. فقال جبلة: أنظرني إلى غد أنظر في أمري, قال: ذلك إليك. فلما جنح الليل خرج في قومه من عكل وجفنة, فتنصر وقدم على هرقل, فأعظم هرقل قدومه وسر به, وأقطعه الأموال والرباع.
فلما بعث عمر رسوله إلى هرقل يدعوه للإسلام, وأجابه إلى المصالحة, قال للرسول: ألقيت ابن عمك الذي أتانا في ديننا؟ قال: لا, قال: ألقه ثم ائتني وخذ الجواب مني. قال: فذهبت إليه فوجدت على بابه هيبة وجمعا ما رأيت مثله على باب هرقل, فلما أذن لي دخلت عليه فإذا هو على سرير من ذهب, أربع قوائمه أسد من ذهب, وعليه ثياب صفر, وعلى رأسه تاج فيه قرطا مارية. فلما رآني رحب بي وأكرمني وقال: أجلس على ذلك الكرسي, فاستعفي لمكان الذهب, فضحك وقال: إذا طهر قلبك فلا تبالي ما لبست, وعلى ما جلست, فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك. ثم أشار إلى خادم, فما كان أسرع من أن جاء ومعه وصائف يحملن صناديق الأطعمة, فوضعت, ثم أتي بمائدة من ذهب عليها صحائف الفضة, وأتيت بطبق من خيزران, وبآنية من الخلنج والزجاج. فلما رفعنا أيدينا, أتي بطست وكوز من ذهب فشرب به خمسة. ثم وضعت بين يديه كراسي عشرة فجلست عليها جوار مثل الدمى, وجاءت جارية في يمينها جام ذهبي, وفي شمالها جام فضي, وعلى رأسها حمام أبيض مزخرف, فوضعت الجامين, فإذا في الذهبي ماء ورد, وفي الفضي سحيق المسك. ثم نفرت الحمام, فوقع في ذلك مرة, وفي هذا أخرى. ثم طار بما لزق بجناحيه من ماء الورد والمسك حتى وقع على تاجه فانتفض.
ثم أقبل جبلة على الجواري فقال: أطربنني, فتغنين بقولهم:
لله در عصابة نادمتهم ... يوما بجلق في الزمان الأول
يسقون من ورد البريص عليهم ... راح تصفق بالرحيق السلسل
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الجواد المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
فضحك ثم قال: أتدري من قائل هذا؟ قلت: لا, قال: حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم, وأول الأبيات المذكورة (أسألت رب الدار أم لم تسأل) : ثم ألتفت إلى الجواري وقال: ابكينني, فتغنين بقولهم:
تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو تجافيت من ضرر
تداخلني فيها لجاج ونخوة ... فكنت كمن باع السلامة بالغرر
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي في الشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
فبكى حتى بل لحيته. ثم سألني عن حسان, قلت: عمي وقلت ذات يده, فدعى بخمسمائة دينار هرقلية وخمسة أثواب, ونزع جبة كانت عليه, وقال: أدفعها إليه.
فلما وفدت على عمر وقصصت عليه القصص, وأنه بعث معي إلى حسان كذا وكذا قال: أدع حسانا ولا تعلمه, فلما دخل حسان قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين, إني لأجد روائح آل جفنة, قال له: نعم قد آتاك على رغم أنفه معونة.
فأخذها وخرج وهو يقول:
(1/340)
________________________________________
أن ابن جفنة من بقية معشر ... لم يغذهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها ... كلا ولا متنصرا بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عطية ... إلا كبعض عطية المحروم
وحكي أن حسان دخل يوما على جبلة فقال له: قد دخلت علي ورأيتني ورأيت النعمان فكيف وجدتنا؟ فقال: والله لشمالك أندى من يمينه, ولقفاك أحسن من وجهه, وأمك خير من أبيه.
وفي خبر رسول عمر المذكور, إنه لما سمع جبلة يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم, طمع في إسلامه فقال له (ويحك يا جبلة الإسلام فقد عرفته وفضله) فقال: أبعد ما كان مني؟ قلت: نعم قد فعل رجل من فزارة أكثر مما فعلت, أرتد وضرب وجه المسلمين, ثم أسلم وقبل منه, فقال: زدني من هذا, إن كنت تضمن لي أن يزوجني عمر ابنته, ويوليني الأمر من بعده رجعت إلى الإسلام. فضمنت له التزويج, ولم أضمن له الخلافة.
قال: فرجعت إلى عمر فأخبرته, فقال: هلا ضمنت له الأمر, فإذا أسلم قضى الله علينا بحكمه. ثم جهزني عمر إلى قيصر وأمرني أن أضمن لجبلة الشرط, فقدمت القسطنطينية فوجدت الناس منصرفين من جنازته, فعملت أن الشقاء قد سبق عليه.
ومن قصيدة أبي فراس المذكورة:
ولم يرتغب في العيش عيسى بن مصعب ... ولا خف خوف بالحرون حبيب
وهذا عنوان لخبر عيسى بن مصعب بن الزبير, فإنه كان في حرب عبد الملك بن مروان مع أبيه وهو غلام حدث فقال له أبوه: انج بنفسك, فقال: ما كنت لأفارقك. فتقدم فقاتل حتى قتل بين يديه.
والحرون, هو حبيب بن المهلب بن أبي صفرة, وسمي الحرون لثباته في الحرب.
ومنه قوله أيضاً وقد أسرته الروم وساموا فداءه, فكتب إلى سيف الدولة (يسأله أن يفديه) قصيدة أولها:
دعوتك للجفن القريح المسهد ... لدي وللنوم الطريد المشرد
أناديك لا أني أخاف من الردى ... ولا أرتجي تأخير يوم إلى غد
وما ذاك بخلا بالحياة وإنها ... لأول مبذول لأول مجتدي
وما الأسر مما ضقت ذرعا بحمله ... وما الخطب مما أن أقول له قدى
وما زال عني أن شخصي معرض ... لنبل العدى إن لم يصب فكأن قد
ولكنني أختار موت بني أبي ... على صهوات الخيل غير موسد
إلى أن قال:
دعوتك والأبواب ترتج دوننا ... فكن خير مدعو وأكرم منجد
فمثلك من يدعى لكل عظيمة ... ومثلي من يفدى بكل مسود
ولا تقعدن عني وقد سيم فديتي ... فلست عن الفعل الكريم بمقعد
فإن مت بعد اليوم عابك مهلكي ... معاب الزرازيين مهلك معبد
هم عضلوا عنه الفداء فأصبحوا ... يهذون أطراف القصيد المقصد
ولم يك بدعا هلكه غير أنهم ... يعابون إذ سيم الفداء مما فدي
هذا عنوان لواقعة معبد بن زرارة التميمي أخي حاجب بن زرارة, وذلك أن بني عامر بن صعصعة كانوا قد أسروه فأشترى نفسه بأربعمائة بعير, فأبى أخوه لقيط أن يبذلها فيه, واعتذر بأن أباه أوصاه أن لا تطعموا العرب أثمان بني زرارة, فحبسه بنو عامر بن صعصعة حتى مات في الأسر, فندم أخوه لقيط, وانشأ فيه المراثي.
وما أحسن قول أبي فراس بعد هذا:
فإن تفتدوني تفتدوا لعلاكم ... فتى غير مردود اللسان ولا اليد
وأن تفتدوني شرق العدى ... أسرع عواد إليها معود
يدافع عن أحبابكم بلسانه ... ويضرب عنكم بالحسام المهند
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى ... طويل نجاد السيف رحب المقلد
وقال فيها يخاطب سيف الدولة:
فيا ملبسي النعمى التي جل قدرها ... لقد أخلقت تلك الثياب فجدد
ألم تر أني فيك صافحت حدها ... وفيك شربت الموت غير مصرد
وفيك لقيت الألف زرقا عيونها ... بسبعين فيهم كل أشأم أنكد
يقولون جنب عادة ما عرفتها ... عسير على الإنسان ما لم يعود
فقلت أما والله لا قال قائل ... شهدت له في الرب ألأم مشهد
وبكر سألقاها فإما منية ... هي الظن أو بنيان عز موطد
وهذا النوع في شعر أبي فراس كثير, ومنه قوله أيضا:
جمعت سيوف الهند من كل بلدة ... وأعددت للهجاء كل مجاهد
وأكثرت للغارات بيني وبينهم ... بنات البكيريات حول المذاود
إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الزرايا من وجوه الفوائد
(1/341)
________________________________________
فقد جرت الحنفاء حتف حذيفة ... وكان يراها عدة للشدائد
الحنفاء: فرس حذيفة بن بدر الفزاري, وهذا عنوان لخبره معها. فإن الحنفاء كان حافرها كبيرا جدا ولم ير حافر مثله, فلما كان يوم الهباءة انهزم حذيفة عليها, فلم يدر أين توجه. فقال قيس بن زهير: اتبعوا أثر الحنفاء, فتبعوه حتى لحقوه بماء الهباءة, فقتل هو وجماعة من أهله, وكانت الحفناء سبب قتله.
وقال بعده:
وجرت منايا مالك بن نويرة ... عقيلته الحسناء أيام خالد
يشير إلى حكاية مالك بن نويرة مع خالد بن الوليد. فإن مالكا لما أمتنع أن يؤدي الصدقات إلى أبي بكر أنفذ إليه خالد بن الوليد. فيذكر أن خالدا أعطاه الأمان, فلما رأى امرأة مالك أعجبته وكانت ذات جمال, فقتل مالكا وتزوج بها وبنى عليها من ليلته, والقضية في ذلك مشهورة.
وقال بعده:
وأردى ذؤابا في بيوت عتيبة ... أبوه وأهله بشدو القصائد
يشيير إلى خبر ذؤاب بن ربيعة قاتل عتيبة بن الحارث اليربوعي, وذلك أن بني يربوع أسروا ذؤابا ولم يعلموا أنه قاتل عتيبة, وباعوه من أبيه إلى وقت, فجاء أبوه, وتخلف اليربوعيون لمانع منعهم, فظن أبو ذؤاب أنهم قتلوه بعتيبة.
فقال أشعارا منها قوله:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
فبلغ اليربوعيين الشعر فقالوا: إنك لقاتل عتيبة؟ فقتلوه.
ومنه قول الفرزدق يخاطب جريرا من قصيدة هجاه بها:
وإني لأخشى لو خطبت إليهم ... عليك الذي لاقى يسار الكواعب
وهذا عنوان لخبر يسار المضروب به المثل. قال أبو عبيدة: إنه عبد لبني غدانة بن يربوع, أراد مولاته على نفسها, فنهته مرة بعد مرة, فلما أبى إلا طلبها أطعمته في نفسها, وأوعدته أن يأتيها ليلا. فأخبر بذلك عبدا كان معه فقال: يا يسار كل من لحم الحوار, واشرب من لبن الغزار, وإياك وبنات الأحرار. فلم يستمع منه, وأتى مولاته بموعدها, وقد أعدت له موسى فلما دخل عليها قالت: إني أريد أن أدخنك فإنك منتن الريح, قال: افعلي ما بدا لك, ثم أدخلت تحته مجمرة وقبضت على مذاكيره فبترتها, فلما وجد حر الحديد قال صبراً على مجامر الكرام, فذهبت مثلا.
وزعم ابن الكلبي: أن يسار الكواعب, كان عبدا للجبابن حنظلة بن نهد بن زيد بن ليث بن سود بن اسلم بن الحاف بن قضاعة - وليس في العرب أسلم إلا هذا, وأسلم بن القيانة بن عك, وكل شيء في العرب أسلم - وإن يسارا تعشق الرائقة بنت الجبا, بنت مولاه, فخضع لها بالقول فزبرته, فشكا عشقها إلى رفيقه وكان يرعى معه فقال: يا يسار كل لحم الحوار, أشرب لبن العشار, وإياك وبنات الأحرار. فعصاه, وخضع لها ثانية فضحكت إليه, فرجع فقال لصاحبه فأعاد عليه القول الأول ونهاه, ثم عاد إليها وخضع لها فقالت له: ائت مرقدي الليلة, فصار إليها وقد أحدت له موسى, فلما جاء قالت: إن للحرائر طبيبا فإن صبرت عليه أمكنتك من نفسي, فقال: شأنك, فجبته وجدعت أذنيه وشفتيه, فوقع مغشيا عليه, فلم تزل تضربه بالعصي حتى أفاق. فرجع إلى صاحبه مجدوعا, فضرب به العرب المثل.
ومنه قوله أيضاً يجيب جريرا عن قصيدته التي هجا بها عياش بن الزبرقان بن بدر:
وأن تهج آل الزبرقان فإنما ... هجوت الطوال الشم من هضب يذبل
وقد نبح الكلب النجوم دونه ... فراسخ تنضي الطرف للمتأمل
لهم وهب الجبار بردي محرق ... لعز معد والعديد المحصل
(1/342)
________________________________________
يريد بالجبار المنذر بن ماء السماء, وهي أمهن وأبوه امرؤ القيس, وابنه محرق وهو عمرو بن المنذر. ذكروا أن المنذر أبرز سريره وقد اجتمعت عنده وفود العرب, فدعا ببردي ابنه المحرق فقال: ليقم أعز العرب قبيلة, وأكثرهم عددا فليأخذ هذين البردين. فقام عامر بن أحيمر بن بهدلة فأخذهما فأتزر بواحد وارتدى الآخر. فقال له المنذر: ما أنت أعز العرب قبيلة, وأكثرهم عدد. قال: العز والعدد من العرب في معد, ثم في نزار, ثم في مضر, ثم في خندف, ثم في سعد, ثم في كعب؛ ثم في عوف؛ ثم بهدلة؛ فمن أنكر هذا في العرب فلينافرني. فسكت الناس, فقال المنذر عند ذلك لعامر: هذي عشيرتك ما تزعم, فكيف أنت في أهل بيتك وفي بدنك؟ قال: أنا أبو عشرة, وعم عشرة, وخال عشرة, وأخو عشرة, يعينني الأكابر على الأصاغر, والأصاغر على الآكابر. فأما قولك: كيف أنت في بدنك, فشاهد العز شاهدي, ثم وضع قدمه على الأرض وقال: من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل, فلم يقم إليه أحد من الناس. فذهب بالبردين, فسمي ذو البردين.
فقال الزبرقان بن بدر:
وبردا ابن ماء المزن عمي اكتساهما ... لعز معد حين عدت محاصله
رآه كرام الناس أولاهم به ... ولم يجدوا في غيرهم من يعادله
ومما وقع من نوع العنوان في الغزل قول الأرجاني:
ما في جفائكم إذا أنا لم أخن ... سبب يعاف حديثه ويعاب
سخط النبي على البريء وما درى ... مما جناه الآفك الكذاب
حتى استبان له بوحني نازل ... أن الذي قال الوشاة كذاب
يشير إلى واقعة الإفك على عائشة. وكان من أمرها أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أقبل من غزوة بني المصطلق, حتى إذا كان قريبا من المدينة قال أهل الإفك في عائشة أم المؤمنين ما قالوا. وحدثت, قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه, فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. فلما كانت غزوة بني المصطلق خرج سهمي عليهن, فخرج بي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. وكان الناس إذ ذاك خفافا, إنما يأكلن العلق لم يهجهن اللحم فيثقلن. وكنت إذا رحل بي بعيري جلست في هودجي, ثم يأتي القوم ويحملونني, ويأخذون بأسفل الهودج ويرفعونه ويضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله, ثم يأخذون برأس البعير وينطلقون به.
فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من سفره ذلك, ونزل منزلا قريبا من المدينة فبات به بعض الليل, ثم أذن في الناس بالرحيل, فارتحل الناس, وخرجت لحاجتي وفي عنقي عقد لي فيه جزع ظفار, فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري. فلما رجعت إلى الرحل ذهبت التمسه في عنقي فلم أجده - وقد أخذ الناس في الرحيل - فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته. وجاء القوم الذين كانوا يرحلون لي البعير - وقد فرغوا من رحلته - فأخذوا الهودج وهم يظنون أنني فيه كما كنت أصنع, فاحتملوه وشدوه على البعير, ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به.
ورجعت إلى المعسكر وما فيه من داع ولا مجيب, فتلففت ب***ابي, واضطجعت في مكاني, وعرفت أن لو افتقدت لرجع إلي. فو الله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي - وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس - فرآى سوادي فأقبل حتى وقف علي - وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب - فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون, ظعينة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم - وأنا متلففة في ثيابي - قال: ما خلفك رحمك الله؟ قالت: فما كلمته, ثم قرب البعير فقال: أركبي - واستأخر عني - فركبت, وأخذ برأس البعير وأنطلق حتى أصبحت, ونزل الناس, فلما أطمأنوا طلع الرجل يقود بي, فقالوا أهل الإفك ما قالوا, فارتج العسكر, ووالله ما أعلم بشيء من ذلك.
(1/343)
________________________________________
ثم قدمنا المدينة, فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة, ولا يبلغني من ذلك شيء, وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى أبوي, لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا. إلا أنني قد أنكرت من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض لطفه بي, فكنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي, فلم يفعل بي ذلك في شكواي, فأنكرت ذلك منه. وكان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال: كيف تيكم؟ ولا يزيد على ذلك, حتى وجدت في نفسي حين رأيت ما رأيت من جفائه, فقلت: يا رسول الله لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني؟ قال: لا عليك, فانتقلت إلى أمي, ولا أعلم بشيء مما كان, حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم, نعافها ونكرهها إنما كنا نذهب في فيح المدينة. وإنما كان النساء يخرجن في كل ليلة في حوائجهن, فخرجت ليلة في بعض حاجتي, ومعي أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح, فقلت: بئس ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا, قالت: أو ما بلغت الخبر يا بنت أبي بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك, قلت: أو قد كان هذا؟ قالت: نعم والله لقد كان.
قالت: فو الله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت. فو الله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع في كبدي, وقلت لأمي: يغفر الله لك, تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ قالت: أي بنية خفضي عليك الشأن, فو الله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها, لها ضرائر, إلا كثرن وكثر الناس عليها.
قالت: وقد قام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الناس وخطبهم - ولا أعلم بذلك - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي, ويقولون عليهم غير الحق, والله ما علمت منهم إلا خيرا ويقولون ذاك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا, وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي.
قالت: وكان قد كثر ذلك عند عبد الله بن أبي, في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش, ولم يكن من نسائه امرأة تناصيني في المنزلة غيرها. فأما زينب فعصمها الله بدينها, فلم تقل إلا خيرا, وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت, تضار بي لأختها فشقيت بذلك. فلما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تلك المقامة قام أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله أن يكونوا من الأوس نكفيكهم, وأن يكونوا من أخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك, فو الله أنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد ابن عبادة فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم, أم والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك عرفت أنهم من الخزرج, ولو كانوا من قومك ما قلت هذه المقالة, فقال أسيد: كذبت لعمر الله ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت: وتساور الناس حتى كاد يكون بين هذيين الحيين من الأوس والخزرج شر. ونزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فدعا علي بن أبي طالب عليه السلام وأسامة بن زيد فاستشارهما, فأما أسامة فأثنى خيرا ثم قال: يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا, وهذا الكذب والباطل. وأما علي فإنه قال: يا رسول الله أن النساء لكثير, وإنك لمقتدر أن تستخلف, وسل الجارية فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بريرة ليسألها فقام لها علي وهو يقول: أصدقي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا وما كنت أعيب على عائشة شيئا, إلا إني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام فتأتي الشاة فتأكله.
قلت وورد عن علي عليه السلام أنه قال: طلقها يا رسول الله. قال الشيخ محمد القابلي: وما أراد بذلك تنقيص قدرها, وإنما تعارض في حقه أمران مشكلان: إضرار عائشة بالطلاق, وإضرار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما نزل به من الأمر العظيم في شأن الإفك, والقاعدة فيما إذا تعارض إضراران, أن يرتكب أخفهما, ولاشك أن إضرار عائشة هو الأخف, فأراد راحته صلّى الله عليه وآله وسلّم مما حصل عنده, وعلم أنه ولابد أن ينزل عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك شيء, لأنه يعتقد نزاهتها وعظيم قدرها, وإن له صلّى الله عليه وآله وسلّم سبيلا إلى مراجعتها.
(1/344)
________________________________________
قالت عائشة: ثم دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعندي أبواي وعندي امرأة من الأنصار, وأنا أبكي وهي تبكي معي, فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله, فإن كنت قارفت سوء مما يقول الناس فتوبي إلى الله, فإن الله يقبل التوبة من عباده. قالت: فو الله ما هو إلا أن قال لي ذلك فقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئا, وانتظرت أبوي أن يجيبا عني فلم يتكلما.
قالت: وأيم الله لأنا كنت أحقر نفسي وأصغر شأنا أن ينزل الله فيّ قرآنا يتلى في المسجد ويصلى به, ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في نومه شيئاً يكذب الله به عني لما يعلم من برائتي, أو يخبر خبرا. فأما قرآن ينزل فيّ فو الله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك.
قالت: فلما لم أر أبوي يتكلمان قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ فقالا: والله ما ندري بماذا نجيبه. قالت: ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام. فلما استجمعا عليّ استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله, لا أتوب إلى الله عما ذكرت أبدا, والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس - والله يعلم أني منه بريئة - لأقولن ما لم يكن, ولئن أنا أنكرت ما يقول الناس لا يصدقونني. ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت: ولكني أقول كما قال أبو يوسف (فصبر جميل ولله المستعان على ما تصفون) .
قالت: فو الله ما برح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه, فتسجى بثوبه, ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه. فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فو الله ما فزعت ولا باليت قد عرفت أني بريئة, وإن الله غير ظالمي. وأما أبواي, فو الذي نفس عائشة بيده, ما سري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. ثم سري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم, فجلس وأنه لينحدر منه مثل الجمان في يوم شات, فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: ابشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك. فقلت: بحمد الله.
ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك, ثم أمر بمسطح بن أثاثة, وحمنة بنت جحش, وحسان بن ثابت - وكانوا ممن أفصح بالفاحشة - فضربوا حدهم.
قالت: ولما نزل في القرآن ذكر من قال من أهل الإفك فقال (إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما أكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) قيل: إنه حسان وأصحابه, وقيل: عبد الله بن أبي وأصحابه. ثم قال (لولا إذ سمعتوه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين) أي هلا قلتم إذ سمعتوه كما قال أبو أيوب الأنصاري وصاحبته أم أيوب, وذلك أنها قالت لزوجها: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ فقال بلى, وذلك الكذب, أكنت يا أم أيوب فاعلته؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله, قال: فعائشة والله خير منك. ثم قال تعالى (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) . فلما نزل هذا في عائشة قال أبو بكر - وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته -: والله لا أنفق على مسطح أبدا, ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة. قالت: فأنزل الله في ذلك (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسمعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) . قالت: فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي, فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفقها وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
وكان حسان قد عرض بصفوان بن المعطل بقوله:
أمس الخلابيس قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
فلما بلغ ذلك صفوان اعترض حسان فضربه بالسيف ثم قال:
تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذ هوجيت لست بشاعر
ولما سري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يا عائشة أما والله لقد برأك الله. فقالت أمي: قومي إليه, قالت عائشة: فقلت: والله لا أقوم إليه ولم أحمد إلا الله.
وبيت بديعية الصفي الحلي رحمه الله قوله:
(1/345)
________________________________________
والعاقب الحبر في نجران لاح له ... يوم التباهل عقبى زلة القدم
العنوان في هذا البيت هو الإشارة إلى قصة المباهلة التي ذكرها الله سبحانه في القرآن المجيد فقال (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساؤكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنه الله على الكاذبين) .
قال الإمام في تفسيره: روي أنه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران, ثم أنهم أصروا على جهلهم قال عليه السلام: إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم. فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع في أمرنا ثم نأتيك. فلما رجعوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل, ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم, والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم, ولئن فعلتم لكان الاستيصال, فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم, والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل, وانصرفوا إلى بلادكم.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج وعليه مرط من شعر أسود, وكان احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن, وفاطمة تمشي خلفه, وعلي عليه السلام خلفها, وهو يقول: إذا دعوت فأمنوا. فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها, فلا تباهلوا فتهلكوا, ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. ثم قال: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وإن نقرك على دينك. فقال صلوات الله عليه: فإذا أبيتم المباهلة فاسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين. فأبوا, فقال: إني أناجزكم الحرب, فقالوا: مالنا بحرب العرب طاقة, نصالحك على أن لا تغزونا, ولا تردنا عن ديننا, على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صفر, وألف في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد. فصالحهم على ذلك وقال: والذي نفسي بيده أن الهلاك قد تدلى على أهل نجران, ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير, ولاضطرم عليهم الوادي نارا, ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر, ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.
وروي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله, ثم جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة, ثم علي رضي الله عنهما, ثم قال (إنما يرد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) .
قال: وأعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث.
وابن جابر لم ينظم هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
بشرى المسيح أتت عنوان دعوته ... وقبله كل هاد صادق القدم
يريد بعنوانه قوله تعالى (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) . وعن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم أمة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء, كأنهم من الفقه أنبياء, يرضون من الله باليسير من الرزق, ويرضى الله منهم باليسير من العمل.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
به العصا أثمرت عزا لصاحبها ... موسى وكم قد محت عنوان سحرهم
هذا البيت عنوانه ظاهر لم يحتج إلى شرح.
وبيت بديعية الطبري قوله:
رجم الشياطين من عنوان بعثته ... وحين أرسل دين الكفر لم يقم
والعنوان في هذا البيت ظاهر أيضاً.
وبيت بديعيتي هو قولي:
وآدم إذ بدا عنوان زلته ... به توسل عند الله في القدم
(1/346)
________________________________________
العنوان في هذا البيت هو الإشارة إلى ما ذكره الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام في تفسيره قوله تعالى (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) قال: لما ذلت من آدم الخطيئة وأعتذر إلى ربه عز وجل وقال: يا رب تب علي وأقبل معذرتي, وأعدني إلى مرتبتي, وأرفع لديك درجتي, فلقد تبين بعض الخطيئة وذلها بأعضائي, وسائر بدني. قال الله تعالى (يا آدم أما تذكر أمر إياك بأن تدعوني بمحمد وآله الطيبين عند شدائدك ودواهيك, وفي النوازل التي تبهظك؟ قال آدم: يا رب بلى. قال الله عز وجل: فبهم, وبمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم خصوصاً فادعني, أجبك إلى ملتمسك, وأزدك فوق مرادك. فقال آدم: يا رب وإلهي قد بلغ عندك من محلهم أنك بالتوسل إليهم وبهم تقبل توبتي, وتغفر خطيئتي؟ وأنا الذي أسجدت له ملائكتك, وأبحته جنتك, وزوجته حواء أمتك, وأخدمته كرائم ملائكتك. قال الله: يا آدم إنما أمرت الملائكة بتعظيمك في السجود إذ كنت وعاء لهذه الأنوار, ولو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك أن أعصمك منها, وأن أفطنك لدواعي عدوك أبليس حتى تحترز منها, لكنت قد جعلت ذلك, ولكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقا لعلمي. فالآن فبهم فادعني لأجيبك. فعند ذلك قال آدم: اللهم بجاه محمد وآله الطيبين, بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم لما تفضلت بقبول توبتي, وغفران زلتي, وإعادتي من كرامتك إلى مرتبتي.
فقال الله عز وجل: قد قبلت توبتك, وأقبلت برضواني عليك, وصرفت الآئي ونعمائي إليك, وأعدتك إلى مرتبتك من كراماتي, ووفرت نصيبك من رحماتي. فذلك قوله عز وجل (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) .
وبيت بديعية الشيخ إسماعي المقري قوله:
وحاز حدا وجاز الحد حيث دنا ... كقاب قوسين أو أدنى ولم يرم
والعنوان فيه ظاهر والله أعلم.
التسهيم
به دعا إذ دعا فرعون شيعته ... موسى فأفلت من تسهيم سحرهم
التسهم مأخوذ من البرد المسهم أي المخطط, وهو الذي يدل أحد سهامه على الذي يليه لكون لونه يقتضي أن يليه لون مخصوص بمجاورة اللون الذي قبله أو بعده منه. والمراد به في الاصطلاح, أن يؤسس الكلام على وجه يدل على بناء ما بعده, ومناسبته للمعنى اللغوي ظاهرة.
وقيل: سمي تسهيما لأن المتكلم يصوب ما قبل عجز الكلام إلى عجزه. والتسهيم: تصويب إلى الغرض. ومنهم من سماه (الأرصاد) من أرصد له, بمعنى أعد أول الكلام لآخره, أو لأن السامع يرصد ذهنه لعجز الكلام بما دل عليه مما قبله.
قال الشيخ صفي الدين: ومن المؤمنين من سماه (التوشيح) والتوشيح غيره, والفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها, أن التسهيم يعرف به من أول الكلام آخره, ويعلم مقطعه من حشوه, من غير أن تتقدم سجعة النثر أو قافية الشعر, والتوشيح لا يعلم السجعة والقافية منه إلا بعد تقدم معرفتها.
والآخر, أن التوشيح لا يدلك أوله إلا على القافية فحسب, والتسهيم يدلك تارة على عجز البيت, وطورا على مادون العجز, بشرط الزيادة على القافية.
والثالث, أن التسهيم يدل تارة أوله على آخره, وطورا آخره على أوله, بخلاف التوشيح. فهذه الفروق ظاهرة. انتهى.
إذا عرفت ذلك فأعلم, أن التسهيم ضربان: أحدهما ما دلالته لفظية كقوله تعالى (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) فلو وقف على (أوهن البيوت) علم أن بعده (بيت العنكبوت) .
ومنه قول البحتري:
أحت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي
فليس الذي حللته بمحلل ... وليس الذي حرمته بحرام
وقوله أيضا:
فإذا حاربوا أذلوا عزيزا ... وإذا سالموا أعزوا ذليلا
وقول القائل - وينسب إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام:
ولي فرس بالجهل للجهل ملجم ... ولي فرس بالحلم للحلم مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم ... ومن شاء تعويجي فإني معوج
وقول ابن هاني الأندلسي:
وإذا حللت فكل واد ممرع ... وإذا ظعنت فكل شعب ما حل
وإذا بعدت فكل شيء ناقص ... وإذا قربت فكل شيء كامل
(1/347)
________________________________________
الثاني, ما دلالته معنوية, وأحسن شواهدها, ما روي أنه حين بلغت قراءته صلّى الله عليه وآله وسلّم في سورة المؤمنين إلى قوله تعالى (ثم أنشأناه خلقا آخر) قال عبد الله بن أبي سرح: (فتبارك الله أحسن الخالقين) فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم: أكتب هكذا نزل, فقال: إن كان محمد نبيا يوحى إليه, فأنا نبي يوحى إلي, ولحق مرتدا بمكة. فلما كان يوم الفتح أهدر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دمه, فأستأمن له عثمان (وكان أخاه من الرضاعة) فأمنه وأسلم يومئذ.
ومن غريب أمثلة هذا النوع - لأنوع التوشيح كما زعم ابن حجة وغيره لما عرفته في وجوه الفرق بينهما - ما حكى جعفر بن سعيد بن عبيدة العماري قال: أتى عمر بن أبي ربيعة عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وهو في حلقة في المسجد الحرام قال: أمتعني الله بك, إن نفسي قد تاقت إلى قول الشعر وقد أكثر الناس في الشعر, فجئت حتى أنشدك. فأقبل عليه عبد الله بن عباس فقال: هات, فأنشده: - (تشط غد دار جيراننا) فقال ابن عباس: - (وللدار بعد غد أبعد) فقال عمر: والله ما قلت إلا كذا, فقال ابن عباس: وهكذا يكون.
وقريب من ذلك ما يحكى أن عدي بن الرقاع أنشد الوليد بن عبد الملك بحضرة جرير والفرزدق قصيدته التي مطلعها: (عرف الديار توهما فأعتادها) حتى انتهى إلى قوله فيها: - (تزجي أغن كأن إبرة روقه) ثم شغل الوليد عن الاستماع بأمر عرض له فقطع عدي الإنشاد, فقال الفرزدق لجرير - في خلال ذلك -: ما تراه قائلا؟ فقال جرير: أراه يستلهب بها مثلا, فقال الفرزدق: إنه سيقول: - (قلم أصاب من الدواة مدادها) . فلما عاد الوليد إلى الاستماع, وعاد إلى الإنشاد قال كما قال الفرزدق. فقال الفرزدق: فو الله لقد سمعت صدر البيت فرحمته, فلما أنشد عجزه انقلبت الرحمة حسدا.
قال زكي الدين بن أبي الأصبع: الذي أقول: أن بين ابن العباس وبين الفرزدق في استخراجهما العجزين كما بينهما في مطلق الفضل, وفضل ابن العباس معلوم, وأنا أذكر الفرق. فإن بيت عدي بن الرقاع من جملة قصيدة تقدم سماع مطلعها مع معظمها, وعلم أنها دالية مردفة بألف, وهي من وزن قد عرف, ثم تقدم في صدر البيت ذكر ظبية تسوق خشفا لها قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه, مع العلم بسواده, وهذه القرائن لا تخفى على أهل الذوق الصحيح, أن فيها ما يدل على عجز البيت, بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حذاق الشعراء. وبيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي القوافي, ولا رويه من أي الحروف, ولا حركة رويه من أي ضرب هي من القوافي, ولا رويه من أي الحروف, ولا حركة رويه من أي الحركات, فاستخرج عجزه ارتجالا في غاية العسر, ونهاية الصعوبة, لولا ما أمد الله به هؤلاء الأقوام من المواد التي فضلوا بها غيرهم. انتهى كلام ابن أبي الإصبع. وإنما قال: إن بيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته ولا رويه, لأنه هو مطلع القصيدة ولم يتقدمه شيء يعلم به ذلك.
ومثل ذلك ما روي عن أبي عبيدة قال: أقبل راكب من اليمامة فمر بالفرزدق, فقال له: هل رأيت ابن المراغة؟ قال: نعم, قال: فأي شيء أحدث بعدي؟ فأنشده:
هاج الهوى بفؤادك المهتاج ... فقال الفرزدق
فانظر بتوضح باكر الأحداج ... فأنشد الرجل
هذا هوى شغف الفؤاد مبرح ... فقال الفرزدق
ونوى تقاذف غير ذات خداج ... فأنشد الرجل
إن الغراب بما كرهت لمولع ... فقال الفرزدق
بنوى الأحبة دائم التشحاج ... فقال الرجل: هكذا والله قال أفسمعتها من غيري؟ قال: لا ولكن هكذا ينبغي أن يقال.
وحكي أن جريرا لما أنشد الراعي النميري قصيدته التي هجاه بها كان الفرزدق حاضرا, فلما وصل إلى قوله: (ترى برصا بمجمع إسكتيها) غطى الفرزدق عنفقته فقال جرير: (كعنفقة الفرزدق حين شابا) فقال له الفرزدق: أخزاك الله, والله لقد علمت أنك لا تقول غيرها.
ومدح أبو الرخاء الأهوازي الصاحب بن عباد لما ورد الأهواز بقصيدة منها:
إلى ابن عباد أبي القاسم ال ... صاحب إسماعيل كفاي الكفاة
فاستحسن جمعه بين اسمه وكنيته لقبه واسم أبيه في بيت واحد. ثم ذكر وصوله إلى بغداد, وملكه إياها إلى أن قال: (ويشرب الخيل هنيئا بها) فقال له: أمسك, ثم قال: تريد أن تقول:
(1/348)
________________________________________
(من بعد ماء الري ماء الفرات) فقال: هو كذا والله, فضحك.
وبيت بديعية الصفي المحلي قوله:
كذاك يونس ناجى ربه فنجا ... من بطن حوت له في اليم ملتقم
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
تسهيمه في الوغى حسم لمتصل ... تسليمه في الرضا وصل لمنحس
قال ابن حجة: بيت عز الدين رماه بالتسهيم في العكس فتشوش, إذ صار كل من النوعين يجاذبه. انتهى.
والذي أعتقده أنا أن الشيخ عز الدين أخطأ سهم تسهيمه الغرض في هذا البيت.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
كذا الخليل بتسهيم الدعاء به ... أصابهم ونجا من حر نارهم
وبيت بديعية الطبري قوله:
وكل مقتحم في الحرب مبتدر ... لم يثنه ذاك عن تسهيم لحمهم
ما أحق الطبري أن ينشد في هذا المقام:
على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له فيها نصيب ولا سهم
وبيت بديعيتي هو قولي:
به دعا إذ دعا فرعون شيعته ... موسى فأخطأه تسهيم سحرهم
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
ساقي البرايا غدا ماء على قدم ... صدق فبورك من ساق على قدم
التشريع
لاح الهدى فهدى تشريع ملته ... لما بدا لسلوك المنهج الأهم
التشريع في اللغة مصدر شرع بالتضعيف. يقال: شرع بابا إلى الطريق تشريعا, أي فتحه وبينه, كأشرعه إشراعا, وشرع الناقة تشريعا إذا أدخلها في شريعة الماء - وهي مورد الإبل على الماء - والتشريع أيضاً إيراد أصحاب الإبل إبلهم شريعة لا يحتاج معها إلى الاستقاء من البئر, ومنه حديث علي عليه السلام: إن أهون السقي التشريع. ومن المعنى الأول نقل الاصطلاح وهو أن تبنى القصيدة على وزنين من أوزان العروض وقافيتين, فإذا أسقط من أجزاء البيت جزء أو جزآن صار ذلك البيت من وزن آخر, كأن الشاعر شرع في بيته بابا إلى وزن آخر. ولما خفي على ابن أبي الإصبع وجه مناسبة التشبيه بين اللغوي والاصطلاحي, أو استعبده, سمى هذا النوع التوأم ليطابق بين الاسم والمسمى.
قال الحافظ السيوطي في الإتقان: وزعم قوم اختصاصه بالشعر, وقال آخرون: بل يكون في النثر, بأن يبنى على سجعتين لو أقتصر على الأولى منها كان الكلام تاما مفيدا, وإن ألحقت به السجعة الثانية كان في التمام والإفادة على حاله مع زيادة معنى ما زاد من اللفظ.
قال ابن الإصبع: وقد جاء من هذا الباب معظم سورة الرحمن, فإن آياتها لو اقتصر فيها على أولى الفاصلتين دون فبأي آلاء ربكما تكذبان لكان تاما مفيدا, وقد كمل بالثانية فأفاد معنى زائدا عن التقرير والتدبيج.
قلت: التمثيل غير مطابق, والأولى يمثل بالآيات التي في أثنائها ما يصلح أن يكون فاصلة, كقوله (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) وأشباه ذلك.
ومن أمثلته في الشعر قول بعض العرب المتقدمين:
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... هوج الرمال بكثبهن شمالا
ألفيتنا نقري العبيط لضيفنا ... قبل القتال ونقتل الأبطالا
فإنه لو اقتصر على الرمال والقتال لكان الشعر من الضرب المجزو المرفل من الكامل وهو:
وإذا الرياح مع العشي ... تناوحت هوج الرمال
ألفيتنا نقري العبيط ... لضيفنا قبل القتال
فأما إذا أتم البيتين صارا من الضرب التام المقطوع منه, وصار لكل بيت منهما قافيتان, ومنه قول الحريري في مقاماته:
يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا أف لها من دار
ولا بأس بإيراد صدر المقامة المشتملة على هذه الأبيات, فإن فيه مع إيراد الشاهد على النوع بيان تشريعها, ولطف معانيها وبديعها.
(1/349)
________________________________________
قال: حدث الحارث بن همام قال: نبا بي مألف الوطن, في شرخ الزمن, لخطب خشي, وخوف غشي. فأرقت كأس الكرى, ونصصت ركاب السرى, وجبت في سيري وعورا لم تدمثها الخطى, ولا اهتدت إليها القطا, حتى وردت حمى الخلافة, والحرم العاصم من المخافة. فسروت إيجاس الروع واستشعاره, وتسربلت لباس الأمن وشعاره. وقصرت همي على لذة أجتنيها, وملحة أجتليها فبرزت يوما إلى الحريم لأروض طرفي, وأجيل في طرقه طرفي. فإذا فرسان متتالون, ورجال منثالون, وشيخ طويل اللسان, قصير الطيلسان, وقد لبَّبَ فتى جديد الشباب, خلق ال***اب, فركضت في أثر النظارة, حتى وافينا باب الإمارة. وهناك صاحب المعونة متربعا في دسته, ومروعا بسمته. فقال له الشيخ: أعز الله الوالي وجعل كعبه العالي, إني كفلت هذا الغلام فطيما, وربيته يتيما, ثم لم آله تعليما, فلما مهر وبهر؛ جرد سيف العدوان وشهر, ولم أخله يلتوي علي ويتقح حتى يرتوي مني ويلتقح. فقال له الفتى: علام عثرت مني حتى تنشر هذا الخزي عني؟ فو الله ما سترت وجه برك, ولا هتكت حجاب سترك, ولا ألغيت تلاوة شكرك, ولا شققت عصا أمرك. فقال له الشيخ: ويلك وأي ريب أخزى من ريبك؟ وله عيب أفحش من عيبك؟ وقد أدعيت سحري واستحلقته, وانتحلت شعري واسترقته. واستراق الشعر عند الشعراء, أفظع من سرقة البيضاء والصفراء, وغيرتهم على بنات الأفكار كغيرتهم على البنات الأبكار. فقال الوالي للشيح: وهل حين سرق سلح أم مسخ أم نسخ؟ فقال: والذي جعل الشعر ديوان العرب, وترجمان الأدب, ما أحدث سوى أن بتر شمل شرحه, وأغار على ثلثي سرحه.
فقال له أنشد أبياتك برمتها, ليتضح ما احتازه من جملتها. فقال:
يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا بعدا لها من دار
وإذا أظل سحابها لم ينتقع ... منه صدى لجهامه الغرار
غاراتها ما تنقضي وأسيرها ... لا يفتدى بجلائل الأخطار
كم مزدهى بغرورها حتى بدا ... متمردا متجاوز المقدار
قلبت له ظهر الجن وأولغت ... فيه المدى ونزت لأخذ الثار
فاربأ بعمرك أن يمر مضيعا ... فيها سدى من غير ما استظهار
واقطع علائق حبها وطلابها ... تلق الهدى ورفاهة الأسرار
وارقب إذا ما سالمت من كيدها ... حرب العدى وتوثب الغدار
واعلم بأن خطوبها تفجا ولو ... طال المدى وونت سرى الأقدار
فقال له الوالي ثم ماذا صنع هذا؟ قال: أقدم للؤمة في الجزاء, على أبياتي السداسية الأجزاء فحذف منها جزأين, ونقص من أوزانها وزنين, حتى صار الرزء فيها رزءين. فقال: بين ما أخذ ومن أين فلذ. فقال: أرعني سمعك, وأخل للتفهم عني ذرعك, حتى تتبين كيف أصلت علي وتقدر قدر اجترامه إلي.
ثم أنشد وأنفاسه تتصعد:
يا خاطب الدنيا الدني ... ة إنها شرك الردى
دار متى ما أضحكت ... في يومها أبكت غدا
وإذا أظل سحابها ... لم ينتقع منه سدى
غاراتها ما تنقضي ... وأسيرها لا يفتدى
كم مزدهى بغرورها ... حتى بدا متمردا
قلبت له ظهر المجن وأولغت فيه المدى
فاربأ بعمرك أن يمر ... مضيعا فيها سدى
واقطع علائق حبها ... وطلابها تلق الهدى
وارقب إذا ما سالمت ... من كيدها حرب العدى
وأعلم بأن خطوبها ... تفجا ولو طال المدى
فالتفت الوالي إلى الغلام وقال: تبا لك من خريج مارق, وتلميذ سارق. فقال الفتى: برئت من الأدب وبنيه, ولحقت بمن يناويه ويقوض مبانيه, إن كانت أبياته نمت إلى علمي, قبل أن ألفت نظمي. وإنما اتفق توارد الخواطر, كما قد يقع الحافر على الحافر. انتهى ما أردنا إيراده من هذه المقامة.
وأغرب ما وقع من هذا النوع ما جاء من غير قصد الشاعر, وقد وقع كثير منه في شعر المتأخرين.
فمنه قول الشيخ العارف عفيف الدين التلمساني من قصيدة أولها:
باكر إلى داعي الصبوح صباحا ... واجعل زمانك كله أفراحا
واجل التي تجلو همومك في الدجى ... حتى ترى لظلامه مصباحا
يا طالب الراحات ليس ينالها ... إلا الذي في الراح يجلو الراحا
أو مغرم أعطى الصبابة حقها ... تدعوه صبوته إليه كفاحا
(1/350)
________________________________________
نشوان من خمر الصبا فكأنه ... غصن يميل مع الصبا مرتاحا
الشاهد في البيت الأخير, فإنك إذا أسقطت من كل شطر من البيت جزء صار البيت هكذا:
نشوان من خمر الصبا ... غصن يميل مع الصبا
وقوله من أخرى وأولها:
يا برق نجد هل حكيت فؤادي ... في ذا التلهب والخفوق البادي
لولا اشتراك هواكما لم تسفحا ... دمعيكما في سفح ذاك الوادي
أترى سويكنة الحمى بجمالها ... سلبت رقادك في الهوى ورقادي
فإذا سقط من كل شطر من البيت الأخير جزء صار هكذا:
أترى سويكنة الحمى ... سلبت رقادك في الهوى
وقوله أيضاً من جملة قصيدة:
مهما انثنى فأنا الطعين بقامة ... هيفاء تهزء بالقنا المياد
وإذا رنا فأنا القتيل بمقلة ... نجلاء أمضى من حدود حداد
فإنك إذا أسقطت من البيت الأول قوله (تهزء بالقنا المياد) ومن الثاني قوله (أمضى من حدود حداد) صار البيتان هكذا:
مهما انثنى فأنا الطعين ... بقامة هيفاء
وإذا رنا فأنا القتي ... ل بمقلة نجلاء
وقوله أيضاً في مطلع قصيدة:
بالله بلغ سلامي أيها الحادي ... إلى غزال الصريم الرائح الغادي
فإنه يخرج منه بيت من منخرق المجتث وهو:
بالله بلغ سلامي ... إلى غزال الصريم
ومنه قول التلعفري:
نهاري كله قلق وفكر ... وليلي كله أرق وذكر
فإنه يخرج منه بعد إسقاط جزء من كل من الشطرين بيت وهو:
نهاري كله قلق ... وليلي كله أرق
وقول ابن النبيه:
خذ من حديث شؤونه وشجونه ... خبرا تسلسله رواة جفونه
لولا فضيحة خده بدموعه ... مازال شك رقيبه بيقينه
فإن البيت الثاني يخرج منه بيت وهو.
لولا فضيحة خده ... مازال شك رقيبه
ومن ألطف ما وقع من هذا النوع عن قصد قول ابن جابر صاحب البديعية:
يرنوا بطرف فاتر مهما رنا ... فهو المنى لا أنتهي عن حبه
يهفو بغصن ناضر حلو الجنى ... يشفي الضنى لا صبر لي عن قربه
لو كان يوما زائري زال العنا ... يحلو لنا في الحب أن نسمى به
أنزلته في خاطري لما دنا ... قد سرنا إذ لم يحل عن صبه
وهذه الأبيات من الرجز التام, وهو الضرب الأول منه, فإن تركتها كانت على حالتها من التام, وإذا أسقطت من البيت الأول (لا انتهي عن حبه) , ومن الثاني (لا صبر لي عن قربه) , ومن الثالث (في الحب أن نسمى به) , ومن الرابع (إذ لم يحل عن صبه) , صارت من الرجز المجزو. وإن أسقطت من البيت الأول (فهو المنى) إلى آخره, ومن الثاني (يشفي الضنا) إلى آخره, ومن الثالث (يحلو لنا) إلى آخره, ومن الرابع (قد سرنا) إلى آخره, صارت من الرجز المشطور. وأن أسقطت من الأول قوله (مهما رنا) ومن الثاني) (حلو الجنى) ومن الثالث (زال العنا) ومن الرابع (لما دنا) إلى آخره صار الرجز المنهوك.
ومثل ذلك قول بعضهم:
جمر غرامي واقد يحكي لظى ... شراره في القلب ليس ينطفي
ودمع عيني شاهد على الهوى ... مدراره والوجد ما لا يختفي
والنوم مني شارد لا يرتجى ... غراره فيا لطب مدنف
هل في الهوى مساعد ما قد عنى ... اعذاره في حب ظبي أهيف
مائل قد مائد إذا انثنى ... خطاره كالغصن المهفهف
فلحظه لي صائد أن ينتضى ... بتاره هل في الجفون مشرفي
قلبي عليه واجد لما نأى ... قراره بين الأسى والأسف
أرغب وهو زاهد وهو المنى ... أختاره من لي به فأشتفي
أسهر وهو راقد لما جفا ... نفاره عرضني للتلف
وجدي عليه زائد من الجوى ... أسعاره بين الدموع الذرف
ولأبي جعفر الغرناطي على أسلوب أبيات الحريري:
يا راحلا يبغي زيارة طيبة ... نلت المنى بزيارة الأخيار
حي العقيق إذا وصلت وصف لنا ... وادي منى يا طيب الأخبار
وإذا وقفت لدى المعرف داعيا ... زال العنا وظفرت بالأوطار
ولابن جابر الأندلسي:
من لي بآنسة تنام لحظها ... من غير نوم بل تتيه وتفتن
قالت ألست تخاف حين تزورني ... سطوات قومي كم تبوح وتعلن
فأجبتها في نيل وصلك لم أكن ... لأخاف لومي فهو عندي هين
ومنه قولي:
(1/351)
________________________________________
من مستهل دموعي يوم فرقته ... أمطرت سحبا غزارا فهي تنهمر
ومن لهيب ضلوعي في محبته ... أوقدت في الحي نارا فهي تستعر
وكم كتمت ولوعي خوف شهرته ... فزاد فيه اشتهارا والهوى عبر
فإنه يخرج من كل بيت بيت من مجزو المجتث هكذا:
من مستهل دموعي ... أمطرت سحبا غزارا
ومن لهيب ضلوعي ... أوقدت في الحي نارا
وكم كتمت ولوعي ... فزاد فيه اشتهارا
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
فلو رأيت مصابي عندما رحلوا ... رثيت لي من عذابي يوم بينهم
فإنك إذا أسقطت من كل شطر من البيت جزء صار البيت هكذا:
فلو رأيت مصابي ... رثيت لي من عذابي
وابن جابر نظم هذا النوع في بيتين فقال وتكلف ما شاء:
واف كريم رحيم قد وفى ووقى ... وعم نفعا فكم ضر شفى وكم
فقم بنا فلكم فقر كفى كرما ... وجود تلك الأيادي قد صفا فقم
قال ابن حجة - ونعم ما قال - أقول: لو اختصر العميان هذين البيتين, وأضافوهما إلى ما اختصروه من البديع لكان أجمل بهم, فإنهم أسقطوا من أنواع البديع نحو السبعين.
وقصد الناظم فيهما - أعني البيتين - أنك إذا أسقطت من البيت الكلمة الموازنة (فعلن) من آخر كل نصف وهما قوله (ووقى) وقوله (وكم) صار الوزن من الضرب الأول من البسيط وهو التام, إلى الضرب الثالث منه وهو المجزو.
لأنه قد حذف منه جزء من آخر كل نصف فصار:
واف كريم رحيم قد وفى ... وعم نفعا فكم ضر شفى
فقم بنا فلكم فقر كفى ... وجود تلك الأيادي قد صفا
وهذا مع ركية وثقالة نظمه, غير المشهور من البسيط, فإنه لم يشتهر منه غير العروض الأولى المخبونة, ووزنها (فعلن) ولها ضربان, المشهور منها الأول وهو مخبون مثلها.
وبيت بديعة الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
وفي الهوى ضل تشريع العذول لنا ... وكم هوى في مقال ذل من حكم
هذا البيت يخرج منه بيتان أحدهما من منهوك الرجز وهو:
وفي الهوى ... وكم هوى
والثاني من العروض الثالثة المحذوفة المخبونة من المديد وهو:
ضل تشريع العذول لنا ... في مقال ذل من حكم
ولقد برز الشيخ عز الدين على من تقدمه في هذا البيت, فإن الصفي وابن جابر لم يتحصل لهما بيتان من بيت ولهذا قال في شرحه: إن هذا النمط ما وقع للمتقدمين وهو معجز ليس لأديب عليه قدرة.
وقد نسج ابن حجة على منواله فقال:
طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا ... عل التقا فنعمنا في ظلالهم
فإنه يخرج منه بيتان أيضاً أحدهما:
طاب اللقا ... على النقا
والثاني:
لذ تشريع الشعور لنا ... فنعمنا في ظلالهم
وزاد على الشيخ عز الدين بتمام معنى البيت الأول الذي هو من منهوك الرجز, فإن بيته لا تتم به الفائدة, ولا يحسن السكوت عليه.
والطبري حاك على منوال الشيخ صفي الدين فقال:
تسرعوا بولائي إذ وثقت بهم ... لأن فيهم رجائي وفق شرعهم
وبيت بديعيتي محوك على منوال بيتي الموصلي وابن حجة وهو:
لاح الهدى فهدى تشريع ملته ... لما بدا لسلوك المنهج الأمم
فإنه يخرج منه بيتان أيضاً أحدهما:
لاح الهدى ... لما بدا
والثاني:
فهدى تشريع ملته ... لسلوك المنهج الأمم
والبيت الأول أعني الذي من منهوك الرجز تام المعنى, مستقل بنفسه, يحسن السكوت عليه كبيت ابن حجة, لا بيت الموصلي.
وبيت الشيخ إسماعيل المقري قوله:
فلو ترى ما أقاسي لأبليت به ... هوى يهد الرواسي غير منصرم
وهو كبيت الشيخ صفي الدين أيضاً يخرج منه:
فلو ترى ما أقاسي ... هوى يهد الرواسي
المذهب الكلامي
والله لولا هداه ما اهتدى أحد ... لمذهب من كلام الله ذي الحكم
هذا النوع أول من ذكره الجاحظ, وهو عبارة عن أن يأتي البليغ بحجة على ما يدعيه على طريقة المتكلمين, وهي أن تكون بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمدعى.
قال بعضهم: وإنما نسبت طريقة الاستدلال إلى المتكلمين والمتكفل ببيانها أهل الميزان, لكمال اجتهادهم في استعمال قواعد الاستدلال في المطالب الكلامية, حتى صاروا علما يضرب بهم المثل في البحث وإلزام الخصوم بأنواع الدليل.
(1/352)
________________________________________
وزعم الجاحظ أن هذا النوع - أعني المذهب الكلامي - لا يوجد منه شيء في القرآن, ورد بأنه مشحون به.
قال العلماء: قد اشتمل القرآن العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة. ما من برهان, ولا دلالة وتقسيم وتحديد ينهي من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطب به, لكن أورده على عادة العرب دون دقائق طرق المتكلمين, لأمرين: أحدهما, بسبب ما قاله (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) .
والثاني, أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجلي من الكلام, فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون, لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ولم يكن ملغزا, فاخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجلى صورة لتفهم العامة من جليها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة, ويفهم الخواص من أثنائها ما يربي على ما أدركه فهم الخطباء.
ومن بديع ما ورد من هذا النوع في القرآن المجيد قوله تعالى (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد وتفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) .
فإنه تعالى ذكر الدليل على فساد قول من يضيف هذه الحوادث إلى الطبع, وحرره على وجه أسقط كثيرا من الأسئلة, بأن بين أن في الأرض قطعا متجاورات يقرب بعضها من بعض, ليسقط قوله من قال: إن الأرض إذا تباعدت أطرافها اختلفت التربة, وكان منها الطيب والخبيث, لأن ذلك يبعد في المتقارب منها. وكذلك الهواء لا يمكن أن يدعى أن تغيره هو المؤثر لأن الأراضي ما لم يتباعد بعضها من بعض لا يظهر في أهويتها التغير, وكذلك الماء إذا كان واحدا لا يمكن لأحد أن يدعي أن اختلاف الأكل راجع إلى اختلاف الماء. فدل بذلك كله أنه بفعل القادر الحكيم, تبارك وتعالى.
فينبغي للمتأمل أن يتأمل هذا الكلام, ويتصفح كلام المتكلمين, هل لشيء منه هذا الحسن الرائع؟ فإنه تعالى جمع فيه بين حسن المعنى وشرف الموضوع, وجزالة اللفظ وعذوبته, مع جمع المقاصد الكثيرة في ألفاظ يسيرة, ربط بعضها ببعض بحيث حسم عنها مطاعن المعترض, فسبحانه من صانع عليم.
ومنه قوله تعالى أيضا: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) أي الإعادة أهون وأسهل عليه من البدء, وكل ما هو أهون فهو أدخل في الإمكان. فالإعادة أدخل في الإمكان وهو المطلوب.
وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام (فلما أفل قال لا أحب الآفلين) أي القمر آفل وربي ليس بآفل, فالقمر ليس بربي.
وقوله تعالى: (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) أي أنتم تعذبون والبنون لا يعذبون, فلستم ببنين له.
ومما ورد منه في الحديث, ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزل قوله تعالى: (وانذر عشيرتك الأقربين) صعد صلّى الله عليه وآله وسلّم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر, يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا, فجعل الرجل منهم إذا لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو. فجاء أبو لهب وقريش, فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا معشر قريش, أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم, ما جربنا عليك إلا صدقا, قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فألزمهم الاعتراف أولا بأنه مخبر صادق, ليلزمهم تصديقه فيما يخبر به, ثم إذا أخبرهم حملهم اللجاج والعناد على أن لم يصدقوه. فقال أبو لهب - تبت يداه -: تبا لك لهذا جمعتنا؟ فنزلت سورة تبت.
ومنه قول أمير المؤمنين علي عليه السلام لما انتهت إليه أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم, قال: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منا أمير ومنكم أمير, قال عليه السلام: فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أوصى بأن يحسن إلى محسنهم, ويتجاوز عن مسيئهم قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟ فقال عليه السلام: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم, ثم قال: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة.
(1/353)
________________________________________
تقرير الاحتجاج: - لو كانت الإمارة حقا لهم لما كانت الوصية بهم, لكنها بهم فليست الإمارة لهم. بيان الملازمة أن العرف قاض بأن الوصية والشفاعة ونحوهما إنما يكون إلى الرئيس في حق المرؤوس من غير عكس. وإما بطلان الثاني فللخبر المذكور. وأما قوله عليه السلام: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة, فهو كلام في قوة احتجاج له على قريش بمثل ما احتجوا به على الأنصار, وتقريره: إنهم إن كانوا أولى من الأنصار لكونهم شجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنحن أولى لكوننا ثمرته, وللثمرة اختصاص بالشجرة من وجهين: أحدهما القرب وميزته ظاهرة. والثاني أن الثمرة هي المطلوبة بالذات من الشجرة وغرسها, فإن كانت الشجرة معتبرة, فبالأولى اعتبار الثمرة. وإن لم يلتفت إلى الثمرة فبالأولى لا التفات إلى الشجرة.
ويلزم من هذا الاحتجاج أحد أمرين: إما بقاء الأنصار على حجتهم لقيام هذه المعارضة, أو كونه عليه السلام أحق بهذا الأمر وهو المطلوب.
ومنه ما حكي أن الوليد قال لأبي الأقرع: أنشدني قولك في الخمر فأنشده:
كميت إذا شجت ففي الكاس وردها ... لها في عظام الشاربين دبيب
تريك القذى من دونها وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب
فقال الوليد: شربتها ورب الكعبة, فقال: لئن كان وصفي لها رابك لقد رابني معرفتك بها.
وقصد شاعر أبا دلف العجلي فقال: ممن أنت؟ قال: من تميم, فقال:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلت
قال: نعم بتلك الهداية جئتك, فخجل أبو دلف, واستكتمه وأجازه.
ومنه قول النابغة من قصيدة يعتذر فيها إلى النعمان بن المنذر وقد كان مدح آل جفنة بالشام فتنكر النعمان من ذلك:
حلفت فلم أترك لنفسي ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب
لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولكنني كنت امرءاً لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب
ملوك وأخوان إذا ما مدحتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... فلم تر هم في مدحهم لك أذنبوا
يعني لا تلمني, ولا تعاتبني على مدح آل جفنة وقد أحسنوا إلي, كما لا تلوم قوما مدحوك وقد أحسنت إليهم, فكما أن مدح أولئك لك لا يعد ذنبا, كذلك مدحي لمن أحسن إلي.
وهذه الحجة على صورة التمثيل الذي يسميه الفقهاء قياسا. ويمكن رده إلى صورة قياس استثنائي بأن يقال: لو كان مدحي لآل جفنة ذنبا, لكان مدح أولئك القوم لك أيضاً ذنبا, لكن اللازم باطل, وكذا الملزوم.
وقول مالك بن المرحل الأندلسي:
لو يكون الحب وصلا كله ... لم تكن غايته إلا الملل
أو يكون الحب هجرا كله ... لم تكن غايته إلا الأجل
إنما الوصل كمثل الماء لا ... يستطاب الماء إلا بالعلل
البيتان الأولان قياس شرطي, والثالث قياس فقهي, فإنه قاس الوصل على الماء, فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش, فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد الهجر.
وقال الآخر:
دع النجوم لطرفي يعيش بها ... وبالعزائم فانهض أيها الملك
إن النبي وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا
يعني لو كان الظفر والفوز بالمطالب بالنجوم لم يظفروا بشيء مما ظفروا به, لأنهم نهوا عنها, لكنهم مع ذلك ظفروا, فلم يكن الظفر بها.
ومنه قولي:
تريك إذا بدت ليلا محيا ... يضيق لوصفه وسع العباره
ولولا أنه قمر تجلى ... لما دار الخمار عليه داره
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
كم بين من أقسم الله العلي به ... وبين من جاء باسم الله في القسم
مدعاه تفضيله صلّى الله عليه وآله وسلّم على غيره من الأنبياء, واحتج على ذلك بقسم الله سبحانه به في قوله تعالى (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) ولم يقسم بغيره منهم, بل هم أقسموا به سبحانه؛ وشتان بين المنزلتين.
والعمر بالفتح بمعنى العمر بالضم, إلا أنهم خصوا القسم بالفتح لإيثار الأخف. قال المفسرون: خاطب سبحانه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم, وأقسم بحياته كرامة له, وما أقسم بحياة أحد قط, وذلك يدلك على أنه أكرم الخلق على الله سبحانه.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
(1/354)
________________________________________
لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وأروت قلب كل ظمى
احتج على ما تقدم من الحكم بأن كفه صلّى الله عليه وآله وسلّم محيطة بالبحر, بأنها لو لم تكن كذلك لما شملت كل إنسان, وأروت كل ظمئ لكنها شملت وأروت, فثبت أنها محيطة به.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ومذهب في كلامي أن بعثته ... لو لم تكن ما تميزنا على الأمم
وبيت بديعية الطبري قوله:
أليس لولاه ما كنا الخيار ولا ... بمذهب من كلام لاحق ملتزم
وبيت بديعيتي هو قولي:
والله لولا هداه ما اهتدى أحد ... لمذهب من كلام الله ذي الحكم
تقرير الاحتجاج فيه: - أنه لو لم يثبت هداه لما اهتدى أحد لمذهب من كلام الله, لكن اهتدى كثير له ثبت هداه صلّى الله عليه وآله وسلّم, لأنه هو الذي جاء بكلام الله سبحانه.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
هل من ينادي غدا رب النجاة كمن ... به ينادى اشفعن للعرب والعجم
نفي الشيء بإيجابه
نفى بإيجابه عنا بسنته ... جهلا نضل به عن وأضح اللقم
لأهل البديع في تفسير هذا النوع عبارتان إحداهما ما فسره به ابن رشيق في العمدة, وهو أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء, وباطنه نفيه, بأني نفي ما هو من سببه كوصفه وهو المنفي في الباطن. والثانية ما فسره به غيره, وهو أن ينفى الشيء مقيدا والمراد نفيه مطلقا مبالغة في النفي وتأكيدا له. وسماه بعضهم: نفي الشيء بنفي لازمه.
ومنه قوله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافا) أي ليس لهم سؤال فيكونوا ملحفين, فإذن لا سؤال لهم أصلا, أو ليس لهم سؤال في حالة الاضطرار, بناء على أن المضطر من شأنه الإلحاف في السؤال, فانتفاؤه في غيرها بالطريق الأولى, أي لو وجد منهم سؤال لم يكن إلا على ذلك التقدير فأفاد أنهم يشرفون على الهلاك ولا يسألون.
وقوله تعالى: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) الغرض نفي الشفيع رأسا, وإنما ضمت إليه الصفة ليؤذن بأن انتفاء الموصوف أمر لا نزاع فيه, وبالغ في تحققه إلى أن صار كالشاهد على نفي الصفة.
ومثله قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي لا شافعين لهم فتنفعهم شفاعتهم ...
ومنه قول أمير المؤمنين علي عليه السلام في صفة مجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تنثني فلتانه, أي لا فلتات ولا انثناء.
وقول الشاعر:
لا تفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا أرنب يفزعها هول, ولا ضب ولا انجحار.
وقول امرئ القيس (على لاحب لا يهتدي بمناره) أي لا منار ولا اهتداء.
وقول سويد بن أبي كاهل:
من أناس ليس في أخلاقهم ... عاجل الفحش ولا سوء الجزع
أي لا فحش ولا جزع أصلا.
وقول مسلم بن الوليد بن يزيد بن مزيد:
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يسمح عينيه من الكحل
وقصده نفي الطيب والكحل مطلقا, ولذلك قال الممدوح لما أنشده الشاعر هذا البيت لقد حرمتني الطيب والكحل ما بقيت.
حكى مسلم المذكور قال: خلت على الأمير يزيد بن مزيد وهو جالس على كرسي, وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة وبيده هو مرآة ومشط يسرح لحيته, فقال لي: يا مسلم ما الذي أبطأك عنا؟ قلت: قلة ذات اليد أيها الأمير, قال: فأنشدني.
فأنشدته قصيدتي التي أولها:
أجررت حبل خليع في الصبا غزل ... وشمرت همم العذال في عذلي
رد البكاء على العين الطموح هوى ... مفرق بين توديع ومرتحل
أما كفى البين أن أرمى بأسهمه ... حتى رماني بسهم الأعين النجل
فلما صرت إلى قولي منها في مدحه:
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل
وضع المرآة في غلافها وقال للجارية: انصرفي, فقد حرم علينا مسلم الطيب والكحل.
ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
مراده أنهن لا يدخلن الحمام مطلقا, لأنهن بدويات لا يعرفن الحمام, وإن كان ظاهر الكلام أنهن لا يبرزن من الحمام على تلك الهيئات, والغرض أن حسنهن مستغن عن التصنع والتطرية.
كما قال قبله:
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
(1/355)
________________________________________
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
لا يهدم المن منه عمر مكرمة ... ولا يسوء أذاه نفس متهم
فمراده نفي المن والإساءة, وإن قديهما بالمكرمة والمتهم.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
لم ينف ذما بإيجاب المديح فتى ... إلا وعاقدت فيه الدهر بالسلم
هذا البيت ليس فيه من نفي الشيء بإيجابه إلا لفظا النفي والإيجاب, وأما المعنى الذي تقرر في تفسير هذا النوع فليس فيه بوجه. وقال ناظمه في شرحه: معناه أنه ما نفى الذم بإيجاب المديح كريم إلا وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد عاقد الدهر بالسلم على ذلك المعنى, قبل الذي فعل هذا الفعل المحمود, فإنه هو الأصل في الأسباب الخيرية. هذا كلامه بنصه, فلم يزد إلا بعدا عن الغرض من هذا النوع.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
لا ينتفي الخير من إيجابه أبدا ... ولا يشين العطا بالمن والسأم
ظاهره نفي انتفاء الخير في إيجابه صلّى الله عليه وآله وسلّم, والمن والسأم في العطاء, والمراد نفي ذلك مطلقا.
وبيت بديعية الطبري قوله:
لم ينف إيجاب ما أعطاه آمله ... بالمن مستكثرا حاشاه من وصم
مراده عدم نفي إيجاب ما أعطاه مطلقا, وإن قيده بالمن والاستكثار.
وبيت بديعيتي هو:
نفى بإيجابه عنا بسنته ... جهلا نضل به عن وأضح اللقم
ظاهره نفي الجهل الموصوف بالضلال به عن واضح سواء الصراط, والغرض نفي الجهل مطلقا. واللقم بالتحريك: وسط الطريق.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
ما راع جارا رعاه وجه حادثة ... ولا انثنى مازجا دمعا جرى بدم
قال ناظمه في شرحه: إنه نفى ارتياع جاره من وجود الحادثات فقط, فكأنها تطرقه ولا تروعه. ومراده نفي الحوادث من أصلها, والزيادة قوله: رعاه, فكأنه نفى ارتياع جار رعاه فقط, والمراد نفيه عنه مطلقا. وكذلك قوله: ولا انثنى مازجا, ظاهره نفي مزج الدمع بالدم, والمراد نفي البكاء من أصله.
الرجوع
ولا رجوع لغاوي نهج ملته ... بلى بإرشاده الكشاف للغمم
هذا النوع جعله بعضهم من نوع الاستدراك وليس كذلك, بل الصحيح أن كلا منهما نوع برأسه. أما الاستدراك فقد سبق ذكره. وأما الرجوع فهو العود على الكلام السابق بنقضه وإيطاله لنكتة, وليس المراد أن المتكلم غلط ثم عاد, لأن ذلك يكون غلطا لا بديع فيه, بل المراد أنه أوهم الغلط وإن كان قاله عن عند إشارة إلى تأكد الإخبار بالثاني, لأن الشيء المرجوع إليه يكون تحققه أشد.
كقول زهير:
قف بالديار التي لم تعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم
فإن أول الكلام دل على أن تطاول الزمان, وتقادم العهد لم يعف الديار, ثم عاد إليه ونقضه لنكتة, وهي إظهار الكآبة والحزن, والحيرة والدهش. كأنه لما وقف على الديار تسلط عليه كآبة أذهلته, فأخبر بما لم يتحقق, ثم ثاب إليه عقله, وأفاق بعض الإفاقة فتدارك كلامه السابق قائلا: بلى عفاها القدم, وغيرها الأرواح والديم.
ومثله قول الآخر:
فأف لهذا الدهر لا بل لأهله ... وإن كنت منهم ما أمل وأعذرا
وقول أبي البيداء:
ومالي انتصار إن عدا الدهر جائرا ... علي بلى إن كان من عندك النصر
وعد كثير منه قول ابن الطثرية:
أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل
وتعقبه بعض المحققين: بأن القليل الأول المثبت هو باعتبار القلة الحقيقية, والقليل الثاني النفي باعتبار المعنى والشرف فلم يتواردا على معنى واحد فلا رجوع.
ومنه قول المتنبي:
لجنية أم غادة رفع السجف ... لوحشية لا ما لوحشية شنف
وما أحسن قول أبي بكر الخوارزمي مع حسن التخلص:
لم يبق في الأرض من شيء أهاب له ... فلم أهاب انكسار الجفن ذي السقم
أستغفر الله من قولي غلطت بلى ... أهاب شمس المعالي أمة الأمم
وقول ابن اللبانة:
بكت عند توديعي فما علم المركب ... أذاك سقيط الطل أم لؤلؤ رطب
وتابعها سرب وإني لمخطئ ... نجوم الدياجي لا يقال لها سرب
وقول المتنبي أيضاً:
(1/356)
________________________________________
أقاضينا هذا الذي أنت أهله ... غلطت ولا الثلثان هذا ولا النصف
يقول: هذا الذي أثنيت به عليك أنت أهله, ثم قال: غلطت ليس هذا ثلثي ما أنت أهله ولا نصفه.
وقوله أيضا:
دمعي جرى فقضى في الربع ما وجبا ... لأهله وشفى أنى ولا كربا
يعني أنه بكى في أطلال الأحبة ما وجب لهم, وشفاه من وجده بهم, ثم رجع عن ذلك وقال: أنى أي كيف قضى ذلك ولا كرب, أي ولا قارب ذلك, يعني أنه لم يقض الحق, ولا شفى الوجد, وذلك أنه لما أكثر البكاء غلب على ظنه أنه بلغ قضاء حقهم وشفى وجده, ثم أنه عرف قصوره فرجع عما قال.
وعد منه الشيخ صفي الدين الحلي قول بشار:
نبت فاضح قومه يغتابني ... عند الأمير وهل علي أمير
ومثله قولي من قصيدة:
ما على من حملوها قمرا ... يهتدي الركب به إن جن جنح
لو أصاخوا للمعنى ساعة ... يشرح الوجد وهل للوجد شرح
قال ابن حجة: الذي أقول: إن هذا النوع لا فرق بينه وبين السلب والإيجاب. فإن السلب والإيجاب هو أن يبني المتكلم كلامه على نفي شيء من جهة, وإثبات من جهة أخرى, والرجوع هو العود على الكلام السابق بالنقض, وكل من التقريرين لائق بالنوعين. انتهى.
قلت: إني لا عجب من غباوة ابن حجة في هذا المقال, فإنه جعل ما هو حجة عليه حجة له, والفرق بين النوعين ظاهر من الحدين المذكورين للنوعين ظهور فلق الصباح, وأين نفي شيء من جهة وإثباته من أخرى, من العود على الكلام السابق بالنقض, فإن مفاد حد الرجوع: أن النفي والإيجاب يتواردان على معنى واحد, وحد السلب والإيجاب: أن النفي يكون باعتبار, والإيجاب باعتبار آخر, وبين الحالتين بون بائن فاعلم.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
أطلتها ضمن تقصيري فقام بها ... عذري وهيهات أن العذر لم يقم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
قلوا ببدر ففلوا غرب شانئهم ... به وما قل جمع بالرسول حمي
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
رمت الرجوع عن الأمداح أنظمها ... سوى مديح سديد القول محترم
ليس في هذا البيت - كما قال ابن حجة - سوى الرجوع عن حشمة الألفاظ في مديح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم, فإن قوله: سديد القول دون مقدار من أنزل القرآن في صفاته, وأقسم الرحمن بحياته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وما لنا من رجوع عن حماه بلى ... لنا رجوع عن الأوطان والحشم
لا يخفى أنه قد تقدم في حد هذا النوع أنه العود على الكلام السابق بنقضه وإبطاله, وابن حجة لم يبطل ما تقدم, بل نفى رجوعه عن حماه, وأثبت رجوعا آخر, وهذا من نوع السلب والإيجاب, لا من هذا النوع. لكن قد علمت أنه لم يفرق بين هذين النوعين فبنى بيته على حسب اعتقاده, وقد مر البحث معه آنفا.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
بلا رجوع فمدحي فيك قام بما ... يليق هيهات ذاك المدح لم يقم
لا يخفى ما في هذا البيت من قلة الأدب مع سيد العجم والعرب, ولعمري أنه قام بما لا يليق, لا بما يليق وإن كان قد رجع, إلا أنه ما رجع حتى اشمأزت النفوس, وملت الظنون, وبلغت القلوب الحناجر. ولا ريب أنه أراد أن يحوك على منوال بيت الشيخ صفي الدين, وهيهات أين حشمة بيت الشيخ صفي الدين من هذا.
وبيت بديعيتي هو قولي:
ولا رجوع لغاوي نهج ملته ... بلى بإرشاده الكشاف للغمم
دل أول البيت على أن من ضل طريق ملته صلّى الله عليه وآله لا رجوع له بوجه - فإن النكرة في سياق النفي تعم - ثم رجع إليه ونقضه لنكتة, وهي إظهار استعظام رجوع من ضل سبيل دينه صلّى الله عليه وآله وسلم حتى كأنه أخبر أولا بما لم يتأمل فيه, ثم تأمل فتدارك الكلام السابق فقال: بلى له رجوع بإرشاده الكشاف للغمم.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
قد كرر العبد مدحا كافيا وثنا ... هيهات لا مدحي تكفي ولا كلمي
1 @التورية
ردت بمعجزه من غير تورية ... له الغزالة تعدو نحو أفقهم
التورية أقرب اسم سمي به هذا النوع لمطابقته المسمى, لأنه مصدر وريت الحديث: إذا أخفيته وأظهرت غيره. قال أبو عبيد: لا أراه إلا مأخوذاً من وراء الإنسان, فإذا قال: وريته فكأنه جعله وراءه بحيث لا يظهر. ويسمى الأبهام, والتوجيه, والتخييل.
(1/357)
________________________________________
وهي في الاصطلاح أن يذكر لفظ له معنيان, أما بالاشتراك, أو التواطيء, أو الحقيقة والمجاز. أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة, والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية, فيقصد المتكلم المعنى البعيد, ويوري عنه بالقريب, فيتوهم السامع أنه يريد القريب من أول وهلة, ولهذا سمي أبهاما.
قال العلامة الزمخشري: لا ترى بابا في البيان أدق ولا ألطف من التورية, ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات من كلام الله تعالى وكلام الأنبياء عليهم السلام.
قال شيخ الأدب صلاح الدين الصفدي في ديباجة كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام: ومن البديع ما هو نادر الوقوع, ملحق بالمستحيل الممنوع, وهو نوع التورية والاستخدام, فإنه نوع تقف الأفهام حسرى دون غايته عن مرامي المرام.
نوع يشق على الغبي وجوده ... من أي باب جاء يعدو مقفلا
لا يفرع هضبته فارع, ولا يقرع بابه قارع, إلا من تنحو البلاغة نحوه في الخطاب, ويجري ريحها بأمره رخاء حيث أصاب. انتهى.
وإذا عرفت معنى التورية فاعلم أنها تنقسم إلى أربعة أنواع: مجردة, ومرشحة, ومبينة, ومهيأة.
فالنوع الأول وهي المجرد.
هي التي تنجرد عما يلائم كلا من المعنيين, أعني المورى به والمورى عنه. قالوا: فأعظم أمثلة هذا النوع قوله تعالى "الرحمن على العرش استوى" فإن الاستواء يطلق على معنيين, فالتورية لم يجامع شيئا مما يلائم المورى به ولا المورى عنه. واعترض بعض المحققين: بان فيه ما يلائم المورى به وهو العرش, لأنه ملائم للاستقرار, فهي إذن مرشحة لا مجردة. ومنه قوله صلى الله عليه وآله سلم في خروجه إلى بدر, وقد قيل له: من أنتم؟ فلم يرد أن يعلم السائل فقال: من ماء, أراد أنا مخلوق من ماء فورى عنه بقبيلته من العرب.
وقول صاحبه في خروجهما إلى المدينة من الغار وقد سئل عنه صلى الله عليه وآله وسلم, فقيل له: يا أبا بكر من هذا؟ فقال: هاد يهديني السبيل. أراد سبيل الخير فورى عنه بهادي الطريق.
وفي النهاية لابن الأثير: لقيهما في الهجرة رجل بكراع الغميم فقال من أنتم؟ فقال أبو بكر: باغ وهاد. عرض ببغاء الإبل, أي طلبها, وهداية الطريق, وهو يريد الطلب, والهداية من الضلالة.
وعد الصلاح الصفدي من هذا النوع _وتبعه ابن حجة_ قول القاضي عياض:
كأن كانون أهدى من ملابسه ... لشهر تموز أنواعا من الحلل
أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل
يعني كأن الشمس من كبرها وطول مدتها صارت خرفة قليلة العقل فنزلت في برج الجدي في أوان الحلول ببرج الحمل. والشاهد في الغزالة, فإنه لم يذكر معها شيء من لوازم الغزالة الوحشية, وهو المورى به كطول العنق, وحسن الالتفات, وسرعة النفور, وسواد العين. ولا شيء من لوازم الغزالة الشمسية, كالإشراق؛ والطلوع, والأفول.
قال: وليس القائل أن يقول: إن الغزالة قد ترشحت بالجدي والحمل, وهي مرشحة لهما, لأنا نشترط في لوازم التورية أن لا يكون لفظا مشتركا, والغزالة هنا مشتركة, وكذا الجدي والحمل فإنهما يطلقان على الحيوان المعروف, وعلى بعض البروج. انتهى بالمعنى.
والذي مشى عليه الخطيب في الإيضاح, والعلامة التفتازاني في المطول أنها من المرشحة.
قال في المطول: أراد بالغزالة معناها البعيد, أعني الشمس, وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب الذي ليس بمراد, أعني الرشأ, حيث ذكر الخرافة وكذا ذكر الجدي والحمل. انتهى.
وقد يقال: أنه فسر الخرافة بقلة العقل وهي لا تناسب الرشأ, لأنه لا عقل له, ويجاب بأن المراد به قلة الإدراك. لا يقال: الغزالة بالتاء مخصوصة بالشمس, ولا يقال لأنثى الغزال: غزالة, بل ظبية, كما نص عليه اللغويون فلا تصح التورية فيها. لأنا نقول: لم يثبت إجماع اللغويين على ذلك, بل حكى بعض الثقات منهم أنه يقال لأنثى الغزال: غزالة. قال أبو حاتم وهو أعلم اللغويين وأضبطهم بلا خلف: ولد الظبية أو ما يولد فهو طلا, ثم هو غزال والأنثى غزالة. وقال ابن السيد: الغزال: ابن الظبي إلى أن يقوى ويطلع قرناه, والجمع غزلة وغزلان, مثل غلمة وغلمان, والأنثى غزالة.
(1/358)
________________________________________
تنبيه, قال بعض علماء هذا الفن: إذا أتيت في التورية بلازم لكل من المعنيين فتكافئا ولم يترجح أحدهما على الآخر فكأنك لم تذكر شيئاً من اللازمين, وصار المعنى القريب والمعنى البعيد بذلك في درجة واحدة فتلحق هذه التورية بالمجردة, وتعد منها قسما ثانيا وتصير مجردة بهذا الاعتبار.
كقول ابن الوردي:
قالت إذا كنت تهوى ... وصلي وتخشى نفوري
صف ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري
فقوله: ورد خدي, يلائم أن يراد بقوله: جوري, اسم نوع من الورد, وهو المعنى المورى وهو المقصود. وقوله: وإلا أجور يلائم لأن يراد به فعل الأمر المستند إلى ضمير الواحدة, وهو المعنى القريب المورى به.
والنوع الثاني وهي المرشحة.
هي التي تجامع ملائما للمعنى المورى به إما قبل التورية أو بعده فهي قسمان: الأول ما جامع قبل التورية, كقوله تعالى "والسماء بنيناها بأيد" فإنه أراد (بأيد) معناها البعيد, أعنى القدرة, وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب, أعنى الجارحة, وهو قوله (بنيناها) هكذا قاله غير واحد, لكن قال السبكي في عروس الأفراح: وفيه نظر, لأن قوله تعالى (بأيد) له معنيان ... إلى آخره من الحواشي. انتهى.
وألطف تورية وقعت من هذا النوع المتقدم, قول يحيى بن منصور من شعراء الحماسة:
وجدنا أبانا كان حل ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
فلما نأت عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
فلما أسلمتنا عند يوم كريهة ... ولا نحن أغضينا الجفون على وتر
فإن لفظ (أغضينا) قبل (الجفون) رشحه للتورية, ورجحه في الظاهر لإرادة إغماض جفون العيون على إغماض السيوف, بمعنى إغمادها, لأن السيف إذا أغمد انطبق عليه, وإذا جرد انفتح للخلاء الحاصل بين الدفتين, لكن دل سياق كلامه على إرادة أنهم لا يغمدون سيوفهم ولهم وتر عند أحد.
وقول الآخر:
حملناهم طرا على الدهم بعدما ... خلعنا عليهم بالطعان ملابسا
الشاهد في الدهم, فإنه يحتمل الخيل الدهم وهو المعنى القريب المورى به, وقد تقدم لازمه المرشح له وهو لفظ الحمل, لأنه من لوازم الخيل, ويحتمل القيود وهو المعنى البعدي المورى عنه وهو المراد, لأنه أراد تقييد العدى, الثاني ما جامع ملائما بعد التورية.
كقول الصاحب عطاء الملك في امرأة اسمها شجر:
يا حبذا شجر وطيب نسيمها ... لو أنها تسقى بماء واحد
الشاهد في شجر, فإنه يحتمل ماله ساق من النبات وهو المعنى المورى به, وقد رشحه بعد التورية بما يلائمه وهو طيب النسيم والسقي بماء واحد ويحتمل اسم المرأة وهو المعنى المورى عنه وهو المقصود.
النوع الثالث وهي المبينة.
هي التي تجامع ملائما للمعنى البعيد المورى عنه إما قبلها أو بعدها, فهي أيضاً قسمان. الأول, ما جامع ملائما قبل التورية.
كقول شيخ الشيوخ بحماة:
قالوا أما في جلق نزهة ... تنسيك من أنت به مغرى
يا عاذلي دونك من لحظة ... سهما ومن عارضه سطرا (ى)
الشاهد هنا في السهم وسطرى, فإن المعنى المورى عنه هما الموضعان المشهوران من منتزهات دمشق, وقد جامعا ما يلائمهما قبلهما وهو ذكر النزهة, وإما المعنى القريب فسهم اللحظ, وسطر العارض. الثاني, ما جامع ملائما بعد التورية.
كقول ابن سناء الملك:
أما والله لولا خوف سخطك ... لهان علي ما ألقى برهطك
ملكت الخافقين فتهت عجبا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك
فإنه أراد بالخافقين قلبه وقرط محبوبته, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه, وقد بينه بالنص عليه في المصراع الأخير. ويحتمل أن يريد المشرق والمغرب, وهذا هو المعنى القريب المورى به.
والنوع الرابع وهي المهيأة.
هي التي تفتقر إلى ذكر شيء يهيئها لاحتمال المعنيين, أما قبلها, أو بعدها, وإلا لم تتهيأ التورية, أو تكون بلفظين أو أكثر لولا كل منها لم تتهيأ التورية في الآخر. فهي بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام.
الأول, ما تهيأت بلفظ قبلها.
كقول الشيخ أحمد ابن عيسى المرشدي في شداد ناقة لشريف مكة المشرفة. والشداد في عرف أهل الحجاز: الرحل.
أفق الشداد بدت به ... شمس الخلافة والهلال
ومن العجائب جمعه ... ليث الشرافة والغزال
(1/359)
________________________________________
الشاهد في الهلال والغزال, فإنهما يحتملان أن يكونا بمعنى القمر وولد الظبي, وهذا هو المعنى القريب المورى به, ويحتمل أن يراد به جزآن من الرحل. فإن الهلال في اصطلاحهم منفرج مقدم الرحل, والغزال للرحل كالقربوس للسرج, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه. ولولا ذكر الشداد قبلهما لما تهيأت التورية فيهما.
وأما ما استشهد به ابن حجة وغيره على هذا القسم من قول ابن سناء الملك يمدح الملك المظفر صاحب حماة:
وسيرك فينا سيرة عمرية ... فروحت عن قلب وأفرجت عن كرب
وأظهرت فينا من سميك سنة ... فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب
وقولهم: لولا ذكر السنة لما تهيأت التورية في الفرض والندب, ولا فهم منهما الحكمان الشرعيان اللذان صحت بهما التورية, فليس بصحيح. فإن كلا من الفرض والندب يهيئ الآخر للتورية ولو لم يذكر السنة -كما هو ظاهر- فهو القسم الثالث من أقسام التورية المهيأة, لا من هذا القسم.
الثاني _ ما تهيأت بلفظ بعدها. قال ابن حجة: ومن أمثلته نثرا قول علي عليه السلام في الأشعث بن قيس: انه كان يحوك الشمال باليمين. فالشمال يحتمل أن تكون جمع شملة, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه, ويحتمل أن يراد به الشمال التي هي إحدى اليدين, وهذا هو المعنى القريب المورى به. ولولا ذكر اليمين بعد الشمال ما تنبه السامع لمعنى اليد. انتهى.
قال بعض المحققين: توارى وجه التورية عن هذا المثال, وليس فيه غير إبهام الطباق بين اليمين والشمال, لما قالوه: من أن التورية إطلاق لفظ له معنيان يمكن حمله على كل منهما. ووصف الشمال بالحياكة نفى أن يراد بها مقابل اليمين, فانحصر لفظ الشمال في معنى الجمع كما لا يخفى. انتهى, وهو في محله.
والمثال الصحيح لهذا القسم قول ابن الربيع:
لولا التطير بالخلاف وإنهم ... قالوا مريض لا يعود مريضا
لقضيت نحبي في جنابك خدمة ... لأكون مندوبا قضى مفروضا
فإن المندوب يحتمل أن يكون اسم مفعول من ندب الميت: إذا بكاه, وهو المعنى البعيد الذي قصده الناظم وورى عنه, ويحتمل أن يكون خلاف المفروض, وهذا هو المعنى القريب المورى به, وذكر المفروض بعده هو الذي هيأه للتورية, ولو لم يكن لما كان فيه تورية البتة.
الثالث - ما وقعت فيه التورية بلفظين أو أكثر, لولا كل منهما لم تتهيأ التورية في الآخر.
كقول عمر ابن أبي ربيعة في محبوبته الثريا بنت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر, وقد تزوجها بن عبد الرحمن بن عوف:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
فإن كلا من الثريا وسهيل هيأ صاحبه للتورية, فلفظ الثريا هيأ سهيلا لاحتمال أن يراد به الكوكب المعروف, ولفظ سهيل هيأ الثريا لاحتمال أن يراد بها المنزلة المعروفة, لكون أحدهما شماليا والآخر جنوبيا, وهذا هو المعنى القريب المورى به. ومراد الشاعر إنما هو صاحبته الشامية الدار والقبيلة, لأنها من بني أمية الأصغر بن عبد شمس, وسهيل اليماني الدار لا القبيلة, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه, فتم له ما أراد من الإنكار على من جمع بينهما بألطف وجه.
ومنه قول المعري:
إذا صدق الجد افترى العم للفتى ... مكارم لا تكري وإن كذب الخال
فإن كلا من الجد والعم والخال يهيئ صاحبه للتورية بظاهر معناه, ومراده بالجد: الحظ, وبالعم: الجماعة, وبالخال: المخيلة.
تنبيهات الأول - الفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية, واللفظ الذي تترشح به, واللفظ الذي تتبين به: أن الأول لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلا, والثاني والثالث إنما هما مقويان للتورية, ولو لم يذكرا لكانت التورية موجودة. غير أن الثاني يكون من لوازم المعنى القريب المورى به, والثالث يكون من لوازم المعنى البعيد المورى عنه.
الثاني - ليس كل لفظ مشترك يتصور فيه التورية, بل لا بد من اشتهار معانيه وتداولها على الألسنة بخلاف اللغات الغريبة, إلا أن يختص قوم باشتهار لغة غريبة بينهم, فينبغي اعتبار حال المخاطب بها.
(1/360)
________________________________________
وإذ قد كشفنا اللثام عن عرائس أنواع التورية بأسرها, وفككنا رقاب أقسامها من وثاقها وأسرها, فها نحن نورد شيئاً من أمثلتها لتتميم الفائدة وتكملتها, ولم نرتبها حسب ترتيب الأنواع والأقسام, تشحيذا للأذهان, وتهذيبا للأفهام.
فمنها قول الشيخ تقي الدين السروجي:
في الجانب الأيمن من خدها ... نقطة مسك أشتهي شمها
حسبته لما بدا خالها ... وجدته من حسنه عمها
ومنه أخذ الشيخ عز الدين الموصلي فقال وأجاد:
لحظت في وجنتها شامة ... فابتسمت تعجب من حالي
قالت قفوا واستمعوا ما جرى ... قد هام عمي الشيخ في خالي
وقال آخر:
مذ همت من وجدي في خالها ... ولم أصل منه إلى اللثم
قالت تعالوا واسمعوا ما جرى ... خالي قد هام به عمي
والأصل في ذلك كله ما أنشده القاضي شمس الدين بن خلكان في تاريخه لبعضهم:
ومورد الوجنات أغيد خاله ... بالحسن من فرط الملاحة عمه
كحل الجفون وكان في أجفانه ... كحل فقلت سقى الحسام وسمه
قلت: وقد صدرت وعجزت أنا هذين البيتين ولم أخرج الأول عن التورية فقلت:
ومورد الوجنات أغيد خاله ... قد كاد يفتن بالوسامة عمه
إن خص قلبي بالغرام فربه ... بالحسن من فرط الملاحة عمه
كحل الجفون وكان في أجفانه ... عضب حكى ناب الشجاع وسمه
وبكى بطرف ذي أحورار زانه ... كحل فقلت سقى الحسام وسمه
ومن مخترعات القاضي الفاضل في التورية قوله:
وهذا الترب أم خد لثمنا ... فآثار الشفاه عليه شامة
وهذي روضة تندى وسطري ... بها غصن وقافيتي حمامة
ومثله قوله:
أما الثريا فنعل تحت أخمصه ... وكل قافية قالت لذلك طا
وقوله:
وكنت وكنا والزمان مساعد ... فصرت وصرنا وهو غير مساعد
وزاحمني في ورد ريقك شارب ... ونفسي تأبى شركة في المورد
ومنه أخذ الشيخ عز الدين الموصلي فقال:
لقد كنت لي وحدي ووجهك حضرتي ... وكنا وكانت للزمان مواهب
فعارضني في ورد خدك عارض ... وزاحمني في ورد ثغرك شارب
وأول شارب ورد منهل هذه التورية -فيما أظن- قول الأول:
ليس في صحة لناظره ... حصة فهو دائم السقم
صرت من ريقه وطلعته ... شارب الخمر عابد الصنم
وله نسخة قد اختصرت ... من فؤادي ولقبت بفم
فوه عين الحياة شاربها ... خضر لم يصل إلى الظلم
ومن بديع التورية أيضاً قول القائل:
وأعجب ما شاهدته فيه أنه ... يكلم قلبي لحظه وهو ساكت
ومثله قولي من قصيدة:
وما كلمتني يوم زمت رحالها ... ولكن قلبي راح وهو مكلم
ومنه قول مجير الدين بن تميم:
يا أيها الملك المنصور لا برحت ... أعوام عمرك لا يحصى له عدد
تجر في جمعة ذيل الخميس فلا ... يبقى إلى السبت في أرض العدى أحد
وقوله في رئيس اسمه الصدر:
بودي أرى في خدمة الصدر دائما ... وأنفق ما تبقي من العمر
واصحبه حتى الممات منعما ... كفى شرفا ادعى به صاحب الصدر
وقوله في شكوى الزمان وذم أهله:
تعبدت أصنام الزمان جهالة ... وضيعت عمري عند من لا له عند
فما فيهم إلا يعوق فقدته ... ولا يرتجى منهم يغوث ولا ود
وقوله في رئيس صرف واعتقل:
لئن صرفت وحاشا ... ك فالدنانير تصرف
وما اعتقلت كريما ... إلا وأنت مثقف
وقوله:
وكيف أخفي غراما ... أقام بين ضلوعي
والمرسلات جفوني ... والذاريات دموعي
ومنه قول ابن سيناء الملك:
ومع المشيب فبعد عندي صبوة ... يبلي القميص وفيه عرف المندل
أنا جد أنصار النبي لأنني ... يا أشهل العينين عبد الأشهل
وقوله:
ليس إلا دمعي الذي من رأى جف ... ني رآه كأن دمعي هدبي
أنجم الدمع لا تغيب شروقا ... مع أني ريتها في الغرب
وممن أولع بالتورية كثيرا الشيخ سراج الدين الوراق فإنه ممن جعلها له بضاعة, وساعده عليها اللقب والصناعة, حتى قيل له: لولا قلبك وصناعتك لذهب نصف شعرك. فمما ورى فيه بلقبه قوله:
إلهي قد جاوزت سبعين حجة ... فشكرا لنعماك التي ليس تكفر
(1/361)
________________________________________
وعمرت في الإسلام فازددت بهجة ... ونورا كذا يبدو السراج المعمر
وعمم نور الشيب رأسي فسرني ... وما ساءني أني سراج منور
وقوله:
بني اقتدى بالكتاب العزيز ... وراح لبري سعيا وراجا
فما قال لي أف مذ كان لي ... لكوني أبا ولكوني سراجا
وقوله:
وكنت حبيبا إلى الغانيات ... فألبسني الشيب هجر ******
وكنت سراجا بليل الشباب ... فأطفأ نوري نهار المشيب
وكتب لي بعض الرؤساء:
بكتبك راج لي أملي وقصدي ... وفي يدك النجاح لكل راج
ولولا أنت لم يرفع مناري ... ولا عرف الورى قدر السراج
وقال وقد اجتمع برئيسين يلقب أحدهما شمس الدين, والآخر بدر الدين:
لما رأيت الشمس والبدر معا ... قد انجلت دونهما الدياجي
حقرت نفسي ومضيت هاربا ... وقلت ما ذي ساعة السراج
وقال فيمن يلقب بضياء الدين:
أمولانا ضياء الدين دم لي ... وعش فبقاء مولانا بقائي
فلولا أنت ما أغنيت شيئا ... وما يغني السراج بلا ضياء
ومما أجاد فيه قوله:
كم قطع الجود من لسان ... قلَّد في نظمه النحورا
وها أنا شاعر سراج ... فاقطع لساني أزدك نورا
ومما ورّى فيه بصناعة الوراقة قوله:
يا خجلتي وصحائفي مسودة ... وصحائف الأبرار في إشراق
وموبخ لي في القيامة قائل ... أكذا تكون صحائف الوراق
وكتب إلى أبي الحسين الجزار في عيد الأضحى:
أجبت بعيد النحر من كان سائلي ... عن الحال في عيدي وقد مر ذكره
إذا بطل الجزار والعيد عيده ... فلا تسأل الوراق فالعذر عذره
وقوله:
نصب الحشا غرضا فقرطس إذ رمى ... وهي القلوب سهامها الأحداق
وسألته وصلا فقال يحجني ... يا ليت شعري أينا الوراق
ومن لطائفه في غير لقبه وصناعته:
رفضوا الشعر جهدهم ورموه ... بينهم بالهوان والازدراء
فلو أن الكتاب كان بأيديه ... م محوا منه سورة الشعراء
وقوله في المعنى:
وأحمق أضافنا ببقله ... لنسبة بينهما ووصله
فمن أقل أدبا من سفله ... قد مد في وجه الضيوف رجله
وقوله وهو في غاية الحسن:
ومهفهف عني يميل ولم يمل ... يوما إلي فقلت من ألم الجوى
لما لا تميل إلي يا غصن النقا ... فأجاب كيف وأنت من جهة الهوى
ومنه قوله:
وقفت بأطلال الأحبة سائلا ... ودمعي يسقي ثم عهدا ومعهدا
ومن عجب أني أروي ديارهم ... وحظي منها حين أسألها الصدا
ومنه قوله:
وبي من البدو كحلاء الجفون بدت ... في قومها كمهاة بين آساد
بنت عليها المعالي من ذوائبها ... بيتا من الشعر لم يمدد بأوتاد
وأوقدت وجنتاها النار لا لقرى ... لكن لأفئدة منا وأكباد
فلو بدت لحسان الحضر قمن لها ... على الرؤوس وقلن الفضل للبادي
وممن رفعت له راية التورية فكان عرابتها, وأهل في مانوس مقطوعاته غرابتها, الشيخ أبو الحسين الجزار فمن مقاطيعه قوله موريا في صناعته:
أني لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأب وسل عنهم إن رمت تصديقي
تضيء بالدم إشراقا عراصهم ... وكل أيامهم أيام تشريق
وكتب إليه الشيخ نصير الدين الحمامي موريا عن صناعته:
ومذ لزمت الحمام صرت بها ... خلا يداري من لا يداريه
أعرف حر الأشيا وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه
فأجابه أبو الحسين الجزار بقوله:
حسن التأني مما يعين على ... رزق الفتى والخطوب تختلف
والعبد مذ صارت في جزراته ... يعرف من أين تؤكل الكتف
ومن لطائفه البديعة ما كتب إلى بعض الرؤساء, وقد منع من الدخول إلى بيته في يوم فرح:
أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعملته من خمولي
أتيت لبابك أرجو الغنى ... فأخرجني الضرب عند الدخول
وكتب إلى بعض الرؤساء يستهديه قطرا:
أيا علم الدين الذي جود كفه ... براحته قد أخجل الغيث والبحرا
لئن أمحلت أرض الكنافة إنني ... لأرجو لها من سحب راحتك القطرا
هذا القطر تحلى به الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة بقوله:
(1/362)
________________________________________
لجود قاضي القضاة أشكو ... عجزي عن الحلو في صيامي
والقطر أرجو ولا عجيب ... للقطر يرجى من الغمام
ومن لطائف مجون أبي الحسين الجزار قوله:
تزوج الشيخ أبي شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن
لو برزت صورتها في الدجى ... ما جسرت تبصرها الجن
كأنها في فرشها رمة ... وشعرها من حولها قطن
وقائل قل لي ما سنها ... فقلت ما في فمها من سن
وقوله يمدح رئيسا اسمه علي:
أقول لفقري مرحبا لتيقني ... بأن عليا بالمكارم قاتله
وقوله في مطلع قصيدة:
يمضي الزمان وأنت هاجر ... أو ما لهذا الهجر آخر
يا من تحكم في القلوب ... بحاجب منه وناظر
مولاي لا تنس المحب فإن ... هـ لهواك ذاكر
وإذا رقدت منعما ... فاذكر شقيا فيك ساهر
شتان ما بيني وبينك ... في الهوى لو كنت عاذر
النار في كبدي وظلم ... ك بارد والجفن فاتر
وممن علا في التورية مقامه, وتحلى بدررها نظامه, ناصر الدين حسن بن النقيب فمن بدايع تغزلاته قوله:
وما لي سوى عين نظرت لحسنها ... وذاك لجهلي بالعيون وغرتي
وقالوا به في الحب عين ونظرة ... لقد صدقوا عين ****** ونظرتي
ومن لطائفه قوله:
أنت طوقتني صنيعا وأسمع ... تك شكرا كلاهما ما يضيع
فإذا ما شجاك سجعي فإني ... أنا ذاك المطوق المسموع
وقوله:
أبيات شعرك كالقصور ... ولا قصور بها يعوق
ومن العجائب لفظها ... حر ومعناها رقيق
وقوله:
جودوا لنسجع بالمدي ... ح على علاكم سرمدا
فالطير أحسن ما يغر ... د عندما يقع الندا
ومن لطائف الحكيم شمس الدين بن دانيال قوله:
يا سائلي عن حرفتي في الورى ... وضيعتي فيهم وإفلاسي
ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس
وقوله:
ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ومن بختي
قد بعت عبدي وحماري معا ... وصرت لا فوقي ولا تحتي
ومن بدائع القاضي محي الدين بن عبد الظاهر قوله:
لقد قال كعب في النبي قصيدة ... وقلنا عسى في فضلها نتشارك
فإن شملتنا بالجوائز رحمة ... كرحمة كعب فهو كعب مبارك
وقوله:
شكرا لنسمة أرضكم ... كم بلغت عني تحية
لا غرو إن حفظت أحا ... ديث الهوى فهي الذكية
وهذه النكتة أخذها الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال:
يا طيب نشر هب لي من نحوكم ... فأثار كامن لوعتي وتهتكي
أهدى تحيتكم وأشبه لطفكم ... وروى شذاكم إن ذا نشر ذكي
وأشار إلى هذه السرقة الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة بقوله: -ولم يخرج عما نحن فيه من التورية-
إن ابن أبيك لم تزل سرقاته ... تأتي بكل قبيحة وقبيح
نسب المعاني في النسيب لنفسه ... جهلا فراح كلامه في الريح
لا تسلني عن أول العشق أني ... أنا فيه قديم هجر وهجره
من دموعي ومن جبينك أرخ ... ت غراما بمستهل وغره
لكن تعقبه بعضهم, بان المستهل في البيت بكسر الهاء, لأنه يناسب الدموع, والمستهل الذي يؤرخ به إنما هو بفتح الهاء, من قولهم: استهل الهلال, ببناء الفعل لما لم يسم فاعله, فقولهم, كتب لمستهل شهر كذا؛ أي لوقت استهلاله, فلا تصح التورية في مستهل.
وقال البدر الدماميني في شرح التسهيل: فإن قلت: فهل له من وجه؟ قلت: يمكن أن يجعل المستهل اسم فاعل من قولهم: استهل الهلال, بمعنى تبين -ذكره في الصحاح- فيكون المراد بالمستهل بكسر الهاء, الهلال المتبين, ويصير حاصل قولهم: كتب لمستهل شهر كذا, بمثابة قولك: كتب لهلال كذا, أي وقت هلاله على حذف المضاف, وإقامة المضاف إليه مقامه والمراد بوقت الهلال وقت ظهوره, وهذا غاية ما يظهر فيه.
وقد زاحمه الشيخ جمال الدين بن نباتة على هذه التورية فقال:
أخط سؤالي بالرقاع ولا أرى ... جفاءك يا هذا بوصلك ينسخ
ويذبح جفني بالدموع وماله ... سوى الشهر بعد الشهر في البعد يسلخ
ترى هل لعامي من جبينك غرة ... بها لا بدمعي المستهل يؤرخ
لئن أشبهت منك الغصون معاطفا ... لقد أصبحت أيضاً تنبيه وتشمخ
(1/363)
________________________________________
ومن بديع اقتباس القاضي المذكور بالتورية قوله:
بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين
كم قد دفعت عواذلي من وجهها ... لما تبدت بالتي هي أحسن
وألم به الشيخ عز الدين الموصلي وما خرج عن إيضاحه بقوله رحمه الله تعالى:
قد سلونا عن المليح بخود ... ذات وجه به الجمال تفنن
ورجعنا عن التهتك فيه ... ودفعناه بالتي هي أحسن
ومنه قوله:
يا سيدي إن جرى من مدمعي ودمي ... للعين والقلب مسفوح ومسفوك
لا تخش من قود يقتص منك به ... فالعين جارية والقلب مملوك
ومنه قوله:
ذو قوام يجور منه اعتدال ... كم طعين به من العشاق
سلب القضيب لينها فهي غيظا ... واقفات تشكوه بالأوراق
ومنه قوله:
يا رب كأس صرت من شربها ... من بعد رشفي ريق معشوقي
ملتهب الأحشاء نارا لأن ... شربتها منه على الريق
ومن لطائف الشيخ عبد العزيز الأنصاري شيخ الشيوخ بحماة قوله:
أفدي حبيبا رزقت منه ... عطف محب على حبيب
بوجنة ما أتم ربحي ... وقد غدا وردها نصيبي
ومنه قوله:
ولا تنس وجدي بك يا شادنا ... بحبه أنسيت أحبابي
ما لي على هجرك من طاقة ... فهل إلى وصلك من باب
ومنه قوله:
مرضت ولي جيرة كلهم ... عن الرشد في صحبتي حائد
فأصبحت في النقص مثل الذي ... ولا صلة لي ولا عائد
ومن لطائفه قوله:
أكملت ستا وأربعين بها ... أخلت همومي من راحتي ربعي
وجزت في السبع خائفا وجلا ... لأنني جائز على سبع
ومن لطائف مجونه قوله:
سألته من ريقه شربة ... أطفئ بها من كبدي حره
فقال أخشى يا شديد الظما ... أن تتبع الشربة بالجر
ومن بدائع الأمير مجير الدين بن تميم قوله:
لما لبست لبعده ثوب الضنى ... وغدوت من ثوب اصطباري عاريا
أجريت واقف أدمعي من بعده ... وجعلته وقفا عليه جاريا
ومن نكتة الغريبة قوله في سجادة:
أيا حسنها سجادة سندسية ... يرى للتقى والزهد فيها توشم
إذا ما رآها الناسكون ذووا الحجى ... أمامهم صلوا عليها وسلموا
ومن لطائفه قوله:
وعيرني بالشيب قوم أحبهم ... فقلت وشأن العاشقين التجمل
بعثتم إلى رأسي المشيب بهجركم ... ومهما أتى منكم على الرأس يحمل
ومن بدائع نكتة قوله:
وليلة بت أسقى في غيابها ... راحا تسل شبابي من يد الهرم
ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم
ومن لطائف نكتة في أغزاله قوله:
خليلي قد صاد الفؤاد بحسنه ... غزال به عذر المحبين واضح
ولا غرو أن صاد الفؤاد بلحظة ... ألم تعلما أن العيون جوارح
ومن لطائف نكته قوله:
قالوا رأيناك كل وقت ... تهيم بالشرب والغناء
فقلت أني فتى قنوع ... أعيش بالماء والهواء
وقال في إهداء مهرة حمراء وهي من مخترعاته:
هنيتها يا مالكي مهرة ... جميلة الخلق بوجه جميل
مؤخرها والعنق قد أوقعا ... قلب الأعادي في العريض الطويل
قد لبست من شفق حلة ... تخبرنا أن أباها أصيل
ومن محاسن بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي قوله:
عرج على الزهر يا نديمي ... ومل إلى ظله الظليل
فالروض يلقاك بابتسام ... والريح تلقاك بالقبول
ومنه قوله:
وحديقة مطلولة باكرتها ... والشمس ترشف ريق أزهار الربا
يتكسر الماء الزلال على الحصى ... فإذا جرى بين الرياض تشعبا
ومن هنا أخذ الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي فقال من قصيدة:
وكأن ذاك النهر فيه معصم ... بيد النسيم منقش ومكتب
وإذا تكسر ماؤه أبصرته ... في الحال بين رياضه يتشعب
ومنه قوله:
أدر كؤوس الراح في روضة ... قد نمقت أزهارها السحب
الطير فيها شبق مغرم ... وجدول الماء بها صب
ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباته قوله:
دمعي عليك مجانس قلبي ... فارث على الحالين للصب
ومنه قوله:
البرد قد ولى فمالك راقدا ... يا أيها المدثر المزمل
(1/364)
________________________________________
أو ما ترى وجه الربيع وحسنه ... والروض يضحك والحيا يتهلل
ومن لطائف تغزلاته قوله:
حلا نبات الشعر يا عاذلي ... لما بدا في خده الأحمر
فشافني ذاك العذار الذي ... نباته أحلى من السكر
ومثله في اللطف قوله:
شوقي إليك على البعاد تقاصرت ... عنه خطاي وفصرت أقلامي
واعتلت النسمات فيما بيننا ... مما أحملها إليك سلامي
ومنه قوله أيضاً:
تعشقته لدن القوام مهفهفا ... شهي اللما أحوى المراشف أشنبا
وقالوا بدا حب الشباب بوجهه ... فيا حسنه وجها إلينا محببا
ومن نكته اللطيفة الغريبة البديعة قوله:
وذى قوام أهيف ... بين الندامى قد نشط
قام يقط شمعة ... فهل رأيت البدر قط
ومنه قوله:
وبمهجتي المتحملون عشية ... والركب بين ملازم وعناق
وحداتهم أخذت حجازا بعدما ... غنت وراء الركب في عشاق
ومن لطائفه الغريبة قوله:
رفقا بصب مغرم ... أبليته صدا وهجرا
وافاك سائل أدمعي ... فرددته في الحال نهرا
ومن لطائف قوله:
يا عاذلي فيه قل لي ... إذا بدا كيف أسلو
يمر بي كل وقت ... وكل ما مر يحلو
ومن لطائف القاضي محي الدين بن قرناص الحموي قوله:
مذ أتينا نبغي زيارة دوح ... قد حبانا بالجود والأكرام
ناولتنا أيدي الغصون ثمارا ... أخرجتها لنا من الأكمام
وقوله في مليح معذر:
ووجنة قد غدت كالورد حمرتها ... وأشبه الآس ذاك العارض النضر
كأن موسى كليم الله أقبسها ... نارا وجر عليها ذيله الخضر
وهذا المعنى استعمله في شجرة نارنج فقال:
نارنجة برزت في منظر عجب ... زبرجد ونضار صاغه المطر
كأن موسى كليم الله أقبسها ... نارا وجر عليها ذيله الخضر
ومن لطائفه في أغزاله قوله:
هويت في مكتب غلاما ... قلبي بهجرانه جريح
أهيف أضحى ضعيف خط ... وإنما شكله مليح
ومنه قوله:
قبلت خط عذراه لما بدا ... وهصرت لين قوامه المياس
وطلبت لي من خده المحمر ما ... يشفي الجوى فجاءني بآلاس
ومن لطائفه في أغزاله قوله:
إن الذين ترحلوا ... نزلوا بعين ناضرة
أنزلتهم في مقلتي ... فإذا هم بالساهرة
ومن طرائف الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني قوله فيما يكتب على كأس: -وأجاد: -
أدور لتقبيل الندامى ولم أزل ... أجود بنفسي للندامى وأنفاسي
وأكسو أكف الشرب ثوبا مذهبا ... فمن أجل هذا لقبوني بالكاس
ومن هنا أخذ الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة فقال مضمنا:
يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس
وكسى العذار الخد حسنا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكاس
وقوله وقد أهدى مجموعا:
يا أيها الصدر الذي وجه العلا ... منه يزان بمنظر مطبوع
لا يعتقد قلبي يحبك وحده ... ها قد بعثت لسيدي مجموعي
ومن نكته البديعة التي لم يسبق إليها قوله:
كان ما كان وزالا ... فاطرح قيلا وقالا
أيها المعرض عنا ... حسبك الله تعالى
أخذه القاضي مجد الدين فقال:
يا غصنا في الرياض مالا ... حملتني في هواك مالا
يا رائحا بعدما سباني ... حسبك رب السما تعالى
ومن لطائفه أيضاً قوله:
يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواء ثاني
لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان
وقد أورد على البيتين إيراد حسن, وهو أن الساكنين إذا اجتمعا كسر أحدهما وهو الأول, وكلامه يؤدي إلى أن المكسور غيرهما.
قال بعضهم: يمكن توجيه ما في البيتين بجعل في للسببية, أي لأي سبب كسرت قلبي والحال انه ما التقى فيه ساكنان, بسبب سكونه وإخلاده إلى حضيض الاطمئنان, وعدم تحركه واضطرابه خوفا من طروق نار الهجر, فيكون القلب إذا أحد الساكنين. ويحسن توجه السؤال عن كسره بلامين فتدبر. انتهى كلامه.
ونظم بعضهم جوابا للبيتين وهما:
سكنته وهو ذو سكون ... لم يثنه عن هواي ثاني
فكان كسري له قياسا ... لما التقى فيه ساكنان
وقال في مليح بدوي:
(1/365)
________________________________________
بدوي كم جدلت مقلتاه ... عاشقا في مقاتل الفرسان
ذو محيا يصيح يا لهلال ... ولحاظ تقول يا لسنان
وقال في مليح جرح بسكين:
لم تجرح السكين كف معذبي ... إلا لمعنى للغرام يحقق
هي مثل ما قد قيل جارحة له ... ولكل جارحة إليه تشوق
وقال يصف بساطا:
بساط يملأ الأحداق حسنا ... ويهدي للقلوب به سرورا
ويشرح حين يبسط كل صدر ... وخير البسط ما شرح الصدورا
وقوله وقد احتجب بعض أصحابه عنه:
ولقد أتيت إلى جنابك قاضيا ... باللثم للعتبات بعض الواجب
وأتيت أقصد زورة أحيا بها ... فرددت يا عيني هناك بحاحب
ومنه قوله:
أيسعدني يا طلعة البد طالع ... ومن شقوتي خط بخدك نازل
ولو أن قسا واصف منك وجنة ... لأعجزه نبت بها وهو باقل
أخذه الشيخ جمال الدين فقال:
تطاولت الأغصان تحكي قوامه ... وعند التناهي يقصر المتطاول
وأعيا فصيح الوقت نبت عذاره ... وعير قسا بالفهامة باقل
ومن لطائف نكت ابن العفيف قوله:
وافى بوجه كالهلال مركب ... في قامة غصنية هيفاء
وبمقلة خفق الفؤاد وقد رنت ... وكذا الجنون يكون عن سوداء
ومن لطائف اختراعاته قوله:
بدا وجهه من فوق أسمر قده ... وقد لاح من ليل الذوائب في جنح
فقلت عجيب كيف لم يذهب الدجى ... وقد طلعت شمس النهار على رمح
ومنه قوله والنكتة بديعية غريبة:
أسكرني باللفظ والمقلة ال ... كحلاء والوجنة والكاس
ساق يريني قلبه قسوة ... وكل ساق قلبه قاسي
ومنه قوله مع حسن التضمين:
جلا ثغرا وأطلع لي ثنايا ... يسوق بها المحب إلى المنايا
وانشد ثغره يبغي افتخاراً ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
ومن لطائفه قوله:
بأبي شادن غدا الوجه منه ... يخجل النيرين في الإشراق
سلب القضب لينها فهي غيظا ... واقفات تشكوه بالأوراق
ومن نكته البديعة الغريبة قوله:
ومستتر من سنا وجهه ... بشمس لها ذلك الصدغ في
كوى القلب منى بلام العذار ... فعرفني أنها لام كي
ومن نكته التي تطفل الناس بعده عليها قوله:
بأبي أفدي حبيبا ... تيم القلب غراما
عذر العازل فيه ... مذ رأى العارض لاما
ومن محاسن سيف الدين بن المشد في التورية قوله:
ومجلس راق من واش يكدره ... ومن رقيب له باللوم إلمام
ما فيه ساع سوى الساقي وليس به ... على الندامى سوى الريحان نمام
ومن لطائفه قوله:
لئن صرفت وحاشا ... ك فالدنانير تصرف
وما اعتقلت كريما ... إلا وأنت مثقف
ومن لطائفه أيضاً قوله:
لعبت بالشطرنج مع شادن ... رشاقة الأغصان من قده
أحل عقد البند من خصره ... والثم الشامات من خده
ومن بدايع الشيخ علاء الدين الوادعي قوله:
أثخنت عينها الجراح ولا إث ... م عليها لأنها نعساء
زاد في عشقها جنوني فقالوا ... ما بهذا فقلت بي سوداء
وقوله:
والروض يهدي مع نسيم الصبا ... نشر خزاماه وريحانه
وراسل القمري ورقاءه ... يشدو على أوتار عيدانه
وقوله:
لي مع الطرف كاتب يكتب الشو ... ق إليه إذا الفؤاد أمله
سلسل الدمع في صحيفة خدي ... هل رأيتم مسلسلات ابن مقلة
وقوله:
قلبي مطيع في هواك وأنت لي ... من بين دوح الحسن غصن خلاف
وقوله:
كيف أقوى لحمل سخط وبعد ... بعد ما كان عن رضى وتداني
فتكرم بعطفة والتفاف ... مثلها في الأغصان والغزلان
وقوله:
قال لي العاذل المفند فيها ... يوم وافت وسلمت مختاله
قم بنا ندعي النبوة في العش ... ق فقد سلمت علينا الغزالة
وقوله:
وليلة خلت مجلسنا سماء ... وصحبي كالثريا في اجتماع
فبات الطرف يرعى البدر منهم ... إلى أن حل منزلة الذراع
وقوله:
يا عز والله العزيز الذي ... قضى على نفسي بإذلالها
ما خطرت من نحوكم نسمة ... إلا تمسكت بأذيالها
وقوله:
رمتني سود عينيه ... فأصمتني ولم تبطي
(1/366)
________________________________________
وما في ذاك من بدع ... سهام الليل لا تخطي
وقوله:
أهل نجد هل تنجدون محبا ... صاده بالغوير ظبي ملول
كم دماء مطلولة في هواه ... وبها روض خده مطلول
وحديث عن السقام صحيح ... قد رواه عن طرفه مكحول
ومن بدايع الشيخ جمال الدين بن نباتة قوله:
ومولع بفخاخ ... يمدها وشباك
فقالت العين ماذا ... يصيد قلت كراك
وقوله:
أسعد بها يا قمري برزة ... سعيدة الطالع والغارب
صرعت طيرا وسكنت الحشا ... فما تعديت عن الواجب
وقوله:
وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنني نشوان من شفتيه
شغف العذار بخده وأراه قد ... نعست لواحظه فدب عليه
وقوله:
بروحي عاطر الأنفاس ألمى ... ملي الحسن حالي الوجنتين
له خالان في دينار خد ... تباع له القلوب بحبتين
أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال:
بروحي عاطر الأنفاس أضحت ... عليه شامة شرط المحبة
كأن الحسن يعشقه قديما ... فنقطة بدينار وحبه
فلما وقف الشيخ جمال الدين على هذين البيتين قال: لا إله إلا الله, سرق الشيخ صلاح الدين _كما يقال_ من الحبتين حبة.
قال الشيخ جمال الدين: قلت:
يا عاذلي شمس النهار جميلة ... وجمال فاتنتي ألذ وأزين
فانظر إلى حسنيهما متأملا ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن
(فأخذه الشيخ صلاح الدين مع البحر, بل أخذ الكل مع القافية وقال:
بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين
كم قد دفعت عواذلي عن وجهها ... لما تبدت بالتي هي أحسن)
وقوله:
فديتك أيها الرامي بقوس ... وطرفك يا ضنا جسدي عليه
لقوسك نحو حاجبك انجذاب ... وشبه الشيء منجذب إليه
وقوله:
أشكوا إلى الله ما أكابد من ... دمامل مسني بها الضر
فالليل عندي من حالها سنة ... فما لليلي ولا لها فجر
وقوله:
بروحي فاتر الأجفان ساج ... كأن الحسن لفظ وهو معنى
تفرد وهو فتان التثني ... فيا الله من فرد تثنى
أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال:
وأهيف حاز قدا ... قد حار فيه المعنى
تراه في الحسن فردا ... لكنه يتثنى
وقوله:
بروحي جيرة أبقوا دموعي ... وقد رحلوا بقلبي واصطباري
كأنا للمجاورة اقتسما ... فقلبي جارهم والدمع جاري
وقوله:
لك يا أزرق اللواحظ مرأى ... قمري أضحى على الخلق ينهى
يا لها من سوالف وخدود ... ليس تحت الزرقاء أحسن منها
وقوله:
يا مجريا دمعي وموقف لوعتي ... من جسمي المضني على الأطلال
يا من إذا سألوه عن بدر الدجى ... والمسك قال أخي الشقيق وخالي
وقوله:
هنيتم آل الشهيد بنجمكم ... وبوجه مولود لكم ما أزهره
من قبل ما عملت لديه عقيقة ... عملت له المدح الجواري جوهره
أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال:
أيا أندى الورى كفا ووجها ... وأقومهم إلى العليا طريقة
لقد جاءتك جوهرة المعاني ... فلا تبخل علينا بالعقيقة
وقوله:
يا غائبين تعللنا لغيبتهم ... بطيب عيش ولا والله لم يطب
ذكرت والكاس في كفي لياليكم ... فالكأس في راحة والقلب في تعب
وقوله:
بقلت وجنة المليح وقد ولى ... زمان الصبا الذي كنت أملك
يا عذار ****** دعني فإني ... لست في ذا الزمان من خل بقلك
وقوله:
إني إذ آنست هما طارقا ... عجلت باللذات قطع طريقه
ودعوت ألفاظ المليح وكاسه ... فنعمت بين حديثه وعتيقه
وقوله:
لله خال على خد ****** له ... والعاشقين كما شاء الهوى عبث
أورثته حبة القلب القتيل به ... وكان عهدي أن الخال لا يرث
وقوله:
وأغيد جارت في القلوب لحاظه ... وأسهرت الأجفان أجفانه الوسنا
أجل نظرا في حاجبيه وطرفه ... ترى ***** منه قاب قوسين أو أدنى
وقوله:
بروحي مشروط على الخد أسمر ... دنا ووفى بعد التجنب والسخط
وقال على اللثم اشترطنا فلا تزد ... فقبلته ألفا على ذلك الشرط
وقوله:
(1/367)
________________________________________
وا حربا من هوى رشيق ... معتدل كالقضيب مائل
عذراه لا يجيب دمعي ... وسائل لا يجيب سائل
وقوله:
وضعت سلاح الصبر عنه فما له ... يقاتل بالألحاظ من لا يقاتله
وسال عذار فوق خديه جائر ... على مهجتي فليتق الله سائله
وقوله:
أفديه لدن القوام منعطفا ... يسل من مقلتيه سيفين
وهبت قلبي له فقال عسى ... نومك أيضاً فقلت من عيني
وقوله:
مبقل الخد أدار الطلا ... وقال لي في حبها عاتبي
عن أحمر المشروب ما تنتهي ... قلت ولا عن أخضر الشارب
وقوله:
يا واصف الخيل بالكميت وبال ... نهد أرحني من طول وسواس
لا نهد إلا من صدر غانية ... ولا كميت إلا من الكاس
ومن هنا أخذ الشيخ فخر الدين ابن مكانس وقال:
ان ذكرت الخيل في الميدان ... فاشرب كميتا واعل فوق نهد
وقوله:
إذا سألوني عن هوى قد كتمته ... سكت أراعي واشيا ورقيا
وجاوب عني سائل من مدامعي ... فيا لك دمعي سائلا ومجيبا
ومن اختراعاته الغريبة مع بديع التضمين قوله:
لما رأيت نهودها قد أقبلت ... ورأت لقلبي عشقه يتجدد
قالت وقد رأت اصفراري من به ... وتنهدت فأجبتها المتنهد
وقوله:
وتاجر قلت له اذرنا ... رفقا بقلب صبره خاسر
ومقلة ينهب طيب الكرى ... منها على عينيك يا تاجر
وهذه النكتة زاحمه فيها الشيخ زين الدين بن الوردي وزنا وقافية ومعنى وقال:
وتاجر شاهدت عشاقه ... والحرب فيما بينهم دائر
قال علام اقتتلوا هكذا ... قلت على عينيك يا تاجر
وقوله:
يا حبذا خد ****** ... وقد أضاء شريقه
إن لم يكن في الحسن نف ... س الروض فهو شقيقه
أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال:
فديت حبيبا ضرج الحسن وجهه ... وصب على خديه ذوب عقيق
إذا أبصر الروض المدبج خده ... يقول لنا هذا أخي وشقيقي
وقوله:
نسبوه حسنا للهلال وعينه ... للظبي تنسب لا رميت ببينه
فإذا بدا فإلى هلال أصله ... وإذا رنا فهو الغزل بعينه
وقوله:
يرنو فيشرق حسنه ... في ناظري ولهانه
فهو الغزالة والغزا ... ل بعينه وعيانه
وقوله:
دعوني في حلي من العيش ما شيا ... ومرتقبا من بعده عفو راحم
أمد إلى ذات الأساور مقلتي ... وأسأل للأعمال حسن الخواتم
وقوله:
سلت مهجة قد كان صدعها الأسى ... فلا آخذ الله الأسى بصدوعها
وعين على حالي بعاد وجفوة ... عفا الله عما قد جرى من دموعها
ومن نكتة البديعة في المدائح قوله:
لنا ملك قد قاسمتنا هباته ... فنشر العطا ونظم الثنا منا
يذكرنا أخبار معن بجوده ... فننشي له لفظا وينشي لنا معنا
وقوله:
لا عدمنا لابن الأثير يراعا ... جاريا للعفاة بالأرزاق
كلما ماس في المهارق كالغص ... ن رأيت الندى على الأوراق
وقال وقد كتب إليه الملك المؤيد صاحب حماة:
فديتك من ملك يكاتب عبده ... بأحرفه اللاتي حكتها الكواكب
ملكت بها رقي وأنحلني الأسى ... فها أنا ذا عبد رقيق مكاتب
وقال يهنئ الصاحب شمس الدين بخلعة:
تهن مدى الأيام بالخلع التي ... وجدنا بها الأيام واضحة الأنس
أضاء بها وجه الزمان وأهله ... ولم لا ومن أطواقها مطلع الشمس
وقوله:
قصدت معاليك أرجو الندى ... وأزجي من العسر داء فينا
فما كان بيني وبين اليسار ... سوى أن مددت إليك اليمينا
وقوله يهني محتسبا:
تهن بها حسبة أدركت ... بأيام فضلك ما ترتقب
فإنك من أسرة تصطفي ... وترزق من حيث لا تحتسب
ومنه بقوله يهني بعيد النحر:
تهن بعيد النحر وابق ممتعا ... بأمثاله سامي العلي نافذ الأمر
تقلدنا فيه قلائد أنعم ... وأحسن ما تبدو القلائد في النحر
ومنه قوله _وقد أرسل إليه شرف الدين خالد القيسراني هدية جليلة في وقتها:
لك الله ما أزكى وأشرف همة ... وأحمد صنعا حيث تبلى المحامد
فأنت الذي قرت برؤيته العلى ... وهنئت الدنيا بأنك خالد
وقوله:
(1/368)
________________________________________
فديناك يا بن المحسنين مجودا ... بأقلامه أو جائدا بمكارمه
فحاتم عند الجود في بطن كفه ... وياقوت عند الخط في فص خاتمه
وقال يداعب صديقا له يروم ولاية القضاء:
رب إن ابن عامر مولع الفك ... ر معنى في صبحه والمساء
يتمنى عند الجود في بطن كفه ... وياقوت عند الخط في فص خاتمه
ومن لطائفه في هذا الباب قوله:
لقد عدناكم لما ضعفتم ... فلا والله ما جاز يتمونا
أقيموا في ضناكم أو أفيقوا ... فإن عدنا فإنا ظالمونا
ومن لطائفه قوله:
فقد لقبوا الراح بالعجوز وما ... تخرج ألقابهم عن العاد
ألانت الغادة التي امتنعت ... فصح إن العجوز قواده
وقال يداعب صديقاً له طلق زوجة تسمى دنيا:
قل لابن بغلان الذي أصبحت ... كرته بين الورى خاسره
ظلمت دنياك وفارقتها ... ورحت لا دنيا ولا آخره
وقوله:
تبسم الشيب بذقن الفتى ... يوجب سح الدمع من جفنه
حسب الفتى بعد الصبا ذلة ... أن يضحك الشيب على ذقنه
وقوله:
لله تصنيف له رونق ... كرونق الحبات في عقدها
كادته تصانيف الورى عنده ... تمت للهيبة في جلدها
وقوله وقد توفي له ولد لم يبلغ حولا:
يا راحلا من بعدها بعدما أقبلت ... مخائل للخير مرجوة
لم تكتمل حولا وأورثتني ... ضعفا فلا حول ولا قوة
ومثله قوله في ولده عبد الرحيم:
يا لهف قلبي على عبد الرحيم ويا ... شوقي إليه ويا شجوتي ويا دائي
في شهر كانون وافاه الحمام لقد ... أحرقت بالنار يا كانون أحشائي
ومنه قوله فيه:
آه لشمل قد وهي سلكه ... وكان ذا در بعبد الرحيم
فليتني لاقيت عنه الردى ... وعاش ذاك الدر درا يتيم
وقال في رثاء طفل:
بدا وفي خاله توار ... فيا لها طلعة شريقه
جوهرة ما عملت إلا ... دموع عيني لها عقيقه
وقال في رثاء ولده أيضاً:
قالوا فلان قد جفت أفكاره ... نظم القريض فلا يكاد يجيبه
هيهات نظم الشعر منه بعدما ... سكن التراب وليده وحبيبه
ومن محاسن الشيخ صلاح الدين الصفدي في باب التورية قوله:
أفديه ساجي العيون حين رنا ... أصاب مني الحشا بسهمين
أعدمني الرشد في هواه ولا ... أفلح شيء يصاب بالعين
وقوله:
لقد شب جمر القلب من فيض عبرتي ... كما أن رأسي شاب من موقف البين
فإن كنت ترضى لي مشيبي والبكا ... تلقيت ما ترضاه بالرأس والعين
وقوله:
ان عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى
بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها
وقوله:
ان لم تصدقني تصدق بالكرى ... ليزورني فيه الخيال الزائل
وانظر إلى فقري لوصلك واغتنم ... أجري وقل للدمع قف يا سائل
وقوله:
كن كيف شئت فإن قد ... رك قد علا عندي وعزا
مات السلو تعيش أن ... ت أما رأيت الصبر عزا
وقوله:
قالوا حكى بدر الدجى وجه الذي ... تهوى فقلت لهم قفوا وتربصوا
أنا ما أصدق من عليه كلفة ... فإذا حكى شيئاً يزيد وينقص
وقوله:
يقولون حاكاه الهلال فلا تزغ ... عن الحق واعرف ذاك إن كنت تنصف
فقلت إذا ما صار بدرا مكملا ... حكاه ومع هذا عليه تكلف
وقوله:
أقول وحر الرمل قد زاد وقده ... ومالي إلى شم النسيم سبيل
أظن نسيم الجو قد مات وانقضى ... فعهدي به في الشام وهو عليل
وقوله:
قل للعذول يسترح من عذلي ... ما أصبح المعشوق عندي مشتهى
وارتد قلبي عن سيوف لحظه ... وكل شيء بلغ الحد انتهى
وقوله:
أنفقت كنز مدائحي في ثغره ... وجمعت فيه كل معنى شارد
وطلبت منه جزاء ذلك قبلة ... فأبى وراح تغز لي في البارد
وقوله:
سكن البدو من أحب فقالوا ... زاد أهل الغرام في البعد بعدا
قلت بالله هل سمعتم ببدر ... غاب عن عاشقيه لما تبدا
وقوله:
أملت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيت من هجرانكم ما لا يرى
وعلمت أن بعادكم لا بد أن ... يجري له دمعي وكذا جرى
وقوله:
(1/369)
________________________________________
تناءى الذي أهوى فمت صبابة ... فقال عجيب كل أمرك في الهوى
صبرت لطرفي إذ رمتك سهامه ... ولم تتصبر إذ رمتك يد النوى
وقوله:
بأسياف الجفون قتلت نفسا ... مبرأة عن الشكوى زكية
فما أقوى جفونك وهي مرضى ... وأقدرها على قتل البرية
وقوله:
جاء بقد قد ثنته الصبا ... ورنحت أعطافه السامية
ومذ غدا في لينه واحدا ... كانت له ريح الصبا ثانية
وقوله:
يا قلب صبرا على الفراق ولو ... روعت ممن تحب بالبين
وأنت يا دمع أن أبحت بما ... أخفيت وجدا سقطت من عيني
وقوله:
لولا شفاعة شعره في صبه ... ما كان زار ولا أزال سقاما
لكن تطاول في الشفاعة عنده ... وغدا على أقدامه يتراما
وقوله:
قالوا علا نيل مصر في زيادته ... لقد بلغ الأهرام حين طما
فقلت هذا عجيب في بلادكم ... إن ابن ستة عشر يبلغ الهرما
وقوله:
لجود قاضي القضاة أشكو ... عجزي عن الحلو في صيامي
والقطر أرجو ولا عجيب=فالقطر يرجى من الغمام وقوله:
قلت له إذ هز لي ذقنه ... ولام فيمن همت في عشقها
تذكر إذ غنت فنادى نعم=فقلت وا شوقي إلى حلقها وقوله:
مللت كتابا أخلق الدهر جلده ... وما أحد في دهره بمخلد
إذا عاينت كتبي الجديدة حاله ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
ومن محاسن الشيخ زين الدين بن الوردي:
يا سائلي تصبرا ... عن لثم فيه لا تسل
ما تستحي تبدلني ... بالصبر عن ذاك العسل
وقوله:
ومليح إذا النحاة رأوه ... فضلوه على بديع الزمان
برضاب عن المبرد يروي ... ونهود تروي عن الرماني
وقوله:
قالت إذا كنت تهوى ... أنسي وتخشى نفوري
صف ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري
وقوله:
ضممتها عند اللقا ضمة ... منعشة للكلف الهالك
قالت تمسكت وإلا فما ... هذا الشذا قلت بأذيالك
وقوله:
وأغيد يسألني ... ما المبتدأ والخبر
مثلهما لي مسرعا ... فقلت أنت القمر
وقوله:
مهفهف القد إذا ما انثنى ... يقول لا تخش من الرد
ما أنت حملي يا كثيب النقا ... ولست يا غضن النقا قدي
لو نلت من خديه تقبيلة ... تزين الريحان بالورد
وقوله:
هويت أعرابية ريقها ... عذب ولي فيها عذاب مذاب
رأسي من شيبان والطرف من ... نبهان والعذال فيها كلاب
وقوله:
تقويم قدك مال يا من يغره ... در يقصر دونه التقويم
إني لأبكي من جفاك ولي أب ... وثغر يضحك منه وهو يتيم
وقوله:
قلت لفرا فرى أديمي ... وزاد صدأ وزاد هجرا
قد فر صبري وفر نومي ... قال نعم مذ عشقت فرا
وقوله:
ووعدت أمس بأن تزور فلم تزر ... فغدوت مسلوب الفؤاد مشتتا
ي مهجة في النازعات وعبرة ... في المرسلات وفكرة في هل أتى
ومن أغراضه اللطيفة قوله في صديق له بالمعرة يقال له شمس:
لي بالمعرة شمس ... رضاه غير مرادي
فلا تذموه اني ... أدري بشمس بلادي
وقوله:
يا شمس أشعلت شمعا ... عليك عشر الأصابع
رغما لمن قال قبلي ... الشمع في الشمس ضائع
ومنه قوله في آل النصيبي بحلب:
فؤادي إلى آل النصيبي مائل ... وودي لهم في محضري ومغيبي
فبيني وبين القوم تجانس ... إذا طاب أصل الورد كان نصيبي
وقوله:
لي صاحب واسمه سراج ... ما قر لي عنده قرار
لسانه محرق لقلبي ... إن لسان السراج نار
وقوله:
مرض الفؤاد وصح ودي فيهم ... وأقام تذكاري وصبري نازح
إنسان عيني كم سهادا كم بكا ... يا أيها الإنسان إنك كادح
وقوله:
يا آل بيت النبي بذلت ... في حبكم روحه فما غبنا
من جاء عن بيته يحدثكم ... قولوا له البيت والحديث لنا
وقوله:
من ولي الحسبة يصبر على ... تعرض الواقف والسائر
فليس يحظى بالمنى والغنى ... فيهم سوى المحتسب الصابر
زوجة مجد الدين والداها ... في أخذ عرض المجد أشبهاها
(1/370)
________________________________________
أن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
ومن تحريرات القيراطي قوله:
لما تبدا قوام قامته ... وحاجباه لناظر العين
رأيت موتي بسيف ناظره ... من قيد رمح وقاب قوسين
وقوله:
تنفس الصبح فجاءت لنا ... من نحوه الأنفاس مسكيه
وأطربت في العود قمرية ... وكيف لا تطرب عوديه
وقوله:
أرتاح للأقمار وهي طوالع ... وشموس راح للمغارب تجنح
ويهزني زجل الطيور بلحنها ... والروض بالزهر النظيم موشح
وقوله:
شبه السيف والسنان بعيني ... من لقتلي بين الأنام استحلا
فأبي السيف والسنان وقالا=حدنا دون ذاك حاشا وكلا وقوله:
أهيم بأعطاف القدود صبابة ... وإن هي زادتني جفا وتباعدا
ويعجبني بين الأنام تطفلي ... عليها إذا شاهدتهن موائدا
وقوله:
عبدك يا من جفا وصد وما ... درى بصب يموت بالكمد
جرى على الخد من مدامعه ... في الحب ما لا جرى على أحد
وقوله:
جزت النقا فحويت لين غصونه ... وكثيب واديه وجيد غزاله
وأخذت حسن البدر منه وقد بدا ... في أفقه بتمامه وكماله
وقوله:
يا هاجرا أوقعني هجره ... وصده في حالة صعبه
أخذت قلبي بالتجني وما ... تركت لي منه ولا حبه
ومن لطائف ابن المعمار:
لما تبدا عذار الحب قلت له ... رفقا ومهلا عليه أيها الجاني
ولا تخشن فما في الخد محتمل ... بأن تخط عليه عرق ريحان
وقوله:
تملك قلبي خادم قد هويته ... من الهند معسول اللمى أهيف القد
أقول لصحبي حين يرنو بلحظه ... خذوا حذركم قد سل صارمه الهندي
ومن لطائفه قوله مع التضمين:
عزمت على رقيا محاسن وجهه ... بأنوار آيات الضحى حين أقبلا
فلما بدا يفتر عن نظم ثغره ... بدأت ببسم الله في النظم أولا
وقوله:
أيا بدر المحاسن حزت جودا ... وفضلا شاع بين العالمينا
وكنت من الكرام فحزت خطا ... فصرت من الكرام الكاتبينا
وقوله:
قسما بما أوليت من أحسانه ... وجميله ما عشت طول زماني
هذا وإن كنتم على سفر به ... فتيمموا منه صعيدا طيبا
وقوله:
قد ذبت من كربي لفقد النسا ... أفور كالتنور من ناريه
وقد طغى الماء فمن لي بأن ... أحمل بالجود على جارية
ومن لطائف العلامة شمس الدين بن الصائغ الحنفي رحمه الله تعالى في باب التورية قوله:
من هجر سلمى ما سلمت ومن ترى ... يقوى لحمل الشوق والهجران
لا تغترر يوما بحلو رضابها ... فلقد بدا من قدها مران
وقوله:
ثنى غصنا ومد عليه فرعا ... كحظي حين أطلب منه وصلا
وأسبله على الأرداف منه ... ولم أرى مثل ذاك الفرع أصلا
وقوله:
هجرت فأحشائي توقد جمرها ... هذا وليست في المحبة فاتره
وتظل تحرقني بنيران الجفا ... ومن الذي يقوى لنار الهاجره
وقوله:
يا مليحا رووا لنا عنه حسنا ... وقبيح إن لم يكن ثم حسنى
طبت لفظا مع الرواة ولكن ... ينبغي أن تكون في الدهر معنى
وقوله:
بروحي أفدي خاله فوق خده ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال
تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخالي
وقوله في الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
لتقي الدين ذقن ... تملأ الكف وتفضل
فاعمل المنخل منها ... لدقيق العيد وانخل
وقوله:
جفني عليك ساهر ... بحرقة قد ذقتها
ودمعتي جارية ... إن زرتني أعتقتها
وقوله في قيم حمام:
وقيم قيم في حسن صنعته ... حاز الجمال على حسن من الترف
لو يخدم البدر أنقى من البدر من كلف ... لكنه لم يزل ما بي من الكلف
ومن أغراضه البديعة في الشطرنج قوله:
تأمل ترى الشطرنج كالدهر دولة ... نهارا وليلا ثم بؤسا وأنعما
محركها باق وتفنى جميعها ... وبعد الفنا تحيا وتبعث أعظما
وقوله:
فاخرت الأقلام سمر القنا ... والسعد في الأقسام مكتوب
فقلت للخطي لا تستطل ... كلاكما للخط منسوب
وقوله:
(1/371)
________________________________________
ولائم زاد لوما ... في أسود أشتهيه
وقال أسود تهوى ... فقلت عينك فيه
ومن مختارات الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة قوله:
قل للهلال وغيم الأفق يستره ... حكيت طلعة من أهواه بالبلج
لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج
وقوله في غلام يدعى مقبلا:
يا من تحجب عن محب صادق ... ما زال عنه كل حين يسأل
من لي بيوم فيه تقبل باللقا ... ويقال لي هذا حبيبك مقبل
وقوله في فانوس مع حسن التضمين:
وكأنما الفانوس نجم نير ... منع الظلام من الهجوم طلوعه
أو عاشق أجرى الدموع بحرقة ... من حر نار تحتويه ضلوعه
وقوله:
يحكي سنا الفانوس من بعد لنا ... برقا تألق موهنا لمعانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه
ومن نكته الغريبة في باب التورية قوله -وكتب به إلى ابن الزين المعروف بلبيكم-:
يا شاعرا قد حاز حسن بديهة ... وتطيعه درر النجوم إذا نظم
وتجيبه قبل السؤال لنقده ... وتقول يا ابن الزين لبيكم نعم
ومن بدائع الشيخ بدر الدين الزغاري قوله:
قالت وقد أنكرت سقامي ... لم أر ذا السقم يوم بينك
لكن أصابتك عين غيري ... فقلت لا عين بعد عينك
وقوله:
قيل لي إذا رأيت أقمار تم ... عن بدور السماء للطرف تلهي
أي وجه أضناك قلت دعوني ... فسقامي قد صح من كل وجه
وقوله مضمنا وأجاد:
يقول العاذلون نرى رمادا ... على خديه من شعر العذار
فقلت لهم صدقتم غير إني ... أرى خلل الرماد وميض النار
وقوله:
وافى كتابك يا خليلي بعدما ... حكمت علي ببعدك الأيام
لكن أرى نار اشتياقي لم تكن ... بردا علي وفيه منك سلام
وقوله:
سرت من بعيد الدار لي نفحة الصبا ... وقد أصبحت حسرى من السير ظالعه
فمن عرق مبلولة الجيب بالندى ... ومن تعب أنفاسها متتابعه
ومن لطائف الشيخ شهاب الدين الحاجبي قوله:
لها عين لها غزل وغزو ... مكحلة ولي عين تباكت
وحاكت في فعايلها المواضي ... فيا لك مقلة غزلت وحاكت
وقوله:
وصفت خصره الذي ... أخفاه ردف راجح
قالوا وصف جبينه ... فقلت ذاك واضح
وقوله:
عودوا لصب بكى عليكم ... يا جيرة ودعوا وساروا
فدمع عينه عاد بحرا ... وقلبه ماله قرار
وقوله:
لا تبعثوا غير الصبا بتحية ... ما طاب في سمعي حديث سواها
حفظت أحاديث الهوى وتضوعت ... نشرا فيا لله ما أذكاها
وقوله:
وخذوا حديثا قد ألم بمهجتي ... وازداد حتى أهملته العذل
ثاني المعاطف كنت أول عاشق ... في حبه ولكل ثان أول
يرنوا فيحلوا للمتيم لحظه ... إذ ذاك لحظ بالنعاس معسل
وتميل منه شمائل لم أدر من ... مشموله أو حركتها الشمال
متلون الأوصاف سيف لحاظه ... ماض ولكن هجره مستقبل
منها قوله:
أيجود لي دهر بطيف خياله ... وأظنه برجوع ذلك يبخل
أم كيف يأتي الطيف جفنا بابه ... بالفتح من أرق الصبابة مقفل
وقوله:
لم أنس أيام الصبا والهوى ... لله أيام النجا والنجاح
ذاك زمان مر حلو الجنى ... ظفرت فيه بحبيب وراح
ومن محاسن الشيخ زين الدين بن العجمي:
وافى وفي كميه ورد أحمر ... حيا به مذ شب تحت لثامه
فرشفت حلو الراح من خرطومه ... وجنيت ورد الخد من أكمامه
وقوله:
أنظر إلى الغدران كيف تجمدت ... أمواجها فزهت وراقت منظرا
وحكت سطورا في طروس خطها ... قلم النسيم بلطفه لما انبرا
وقوله:
أفدي الذي ساقت حروب الهوى ... بحسن ساقيها لمشتاقها
جادلت عذالي على حسنها ... فقامت الحرب على ساقها
وقوله:
قاسوا حماة بجلق فأجبتهم ... هذا قياس باطل وحياتكم
فعروس جامع جلق ما مثلها ... شتان بين عروسنا وحماتكم
وقوله:
غنى على القانون حتى غدا ... من طرب يهتز عطف الجليس
داوى قلوبا من غليل الأسى ... وكان فيها من هواها رسيس
(1/372)
________________________________________
وصاحت الجلاس عجبا به ... يا صاحب القانون أنت الرئيس
ومن لطائف الشيخ عز الدين الموصلي في باب التورية قوله:
يقول وقد بدا قمرا وغصنا ... حباه حسنه هيفا بلين
تنشق مسك أصداغي حلالا ... فهذا الطيب من عرق الجبين
وقوله:
حديث عذار الحب باد وساقه ... له أوجه تبدي لقلبي اشتياقه
درى إننا نسعى إلى الحسن كلنا ... فأبدى لنا ذاك الحديث وساقه
وقوله:
حديث عذار الحب في خده جرى ... كمسك على الورد الجني مسطرا
فقبلته حتى محوت رسومه ... كأن لم يكن ذاك الحديث ولا جرى
وقوله:
ذو حور أصابني ... بعينه لما نظر
فليس قتل صبه ... إلا كلمح بالبصر
وقوله:
وبي ناتف للعارضين يقول صف ... نبات عذار زان في الحسن منظري
فناديت يا حلو الشمائل ما الذي ... يقول لساني في النبات المكرر
ومن محاسن الشيخ جمال الدين عبد السوسي في باب التورية قوله:
أهوى غزالا عليه صبري ... قد بان في الحب وهو عذري
قد أسرت مقلتاه قلبي ... فرحت مملوكه بأسري
وقوله:
تهاون بي شمس الندى وهو صاحب ... وأظهر لي أضعاف ما تظهر العدى
نزلت به أبغي الندى وهو طالع ... وعند طلوع الشمس يرتفع الندى
وقوله:
زجرت النفس عن نذل لئيم ... أقر بموعدي غلطا وأنكر
وقد ذكرته عنه مرارا ... وهيهات المؤنث لا يذكره
ومن محاسن الصاحب فخر الدين بن مكانس قوله:
يقول مفندي إذا همت وجدا ... بخد خلت فيه الشعر نملا
أتعرف خده للعشق أهلا ... فقلت له نعم أهلا وسهلا
وقوله:
زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كي تختفي فأبى شذا العطر
يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا في اللف والنشر
وقوله:
علقتها معشوقة خالها ... إذ عمها بالحسن قد خصصا
يا وصلها الغالي ويا حبسها ... لله ما أغلى وما أرخصا
وقوله:
ومقلة ظبي يرشق القلب سهمها ... ولكنه رشق يزال به الهم
على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم
ومن أغراضه الغريبة (قوله في ولده) مجد الدين:
أرى ولدي قد زاده الله بهجة ... وكمله في الخلق والخلق مذ نشا
سأشكر ربي حيث أوتيت مثله ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا
وقال يمدح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام:
يا بن عم النبي إن أناسا ... قد توالوك بالسعادة فازوا
أنت للعمل في الحقيقة باب ... يا إماما وما سواك مجاز
وقوله:
وا سوأتاه إذا وقفت بموقف ... ما مخلصي فيه سوى الاقرار
وسواد وجهي عند أخذ صحيفتي ... وتطلعي فيها شبيه القار
ومن محاسن (ولده) مجد الدين فضل الله بن (عبد الرحمن) قوله:
وأغيد بت منه ... في نار خديه أقلى
رمى من اللحظ سهما ... به نموت ونبلى
وقوله:
قالوا وقد هزوا لنا ... قاماتهم والأعينا
إن رمت تلقانا فلج ... بين السيوف والقنا
وقوله:
يقولون هل من ****** بزورة ... ومناكم المطلوب قلت لهم منا
فقالوا لنا غوصوا على قده وما ... يحاكي إذا ما اهتز قلت لهم غصنا
وقوله:
بحق الله دع ظلم المعنى ... ومتعه كما يهوى بأنسك
وكف الصد يا مولاي عمن ... بيومك رحت تهجره وأمسك
وقوله:
قال خلي لحبيبي صل فتى ... بك قد أضحى معنى مغرما
قال هل يولم إن واصلته ... قال إن فاز بثغر أولما
وقوله:
يا لائمي إن فقدت الصبر في قمر ... أصداغه سلبت أهل الهوى وسبت
كلت سيوف اصطباري عنه حين بدا ... آس العذار على وجناته ونبت
ومن مدائحه يهني والده بعوده من السفر:
هنيت يا أبتي بعودك سالما ... وبقيت ما طرد الظلام نهار
ملئت بطون الكتب فيك مدائحا ... حتى لقد عظمت بك الأسفار
وقال فيه أيضاً وقد أهدى له هدية حسنة:
تناهيت في بري إلى أن هديتني ... ولولاك كنت الدهر في الغي ساديا
وأهديت لي ما حير العقل حسنه ... فلا زلت في الحالين للعبد هاديا
(1/373)
________________________________________
ومن لطائف الشيخ أبي الفضل بن أبي الوفاء:
عبدك الصب المعنى ... عرف الفقر وذاقه
فلكم فاخر محتا ... جا شكا فقرا وفاقه
ومن مخترعاته في باب التورية مع بديع التضمين:
ما خادم واسمه في در مبسمه ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
وريقه مع ثناياه التي انتظمت ... كأنه منهل بالراح معلول
وقوله:
سألتها رشف ريق ... مستعذب الطعم حلو
قالت فصفني ارتجالا ... فقلت بعد التروي
وقوله:
ذكرك لي في اللوم مستحسن ... واللوم عندي غير مستحسن
كم قلت للمعرب في لومه ... إن جئت نحوي قط لا تلحني
وقوله:
تعنت دهر لج فينا بخطبه ... وذللنا من بعد عز وأنكانا
قسا وانثنى يختال في جبروته ... وجرر أذيالا علينا وأردانا
ومن محاسن الشيخ بدر الدين الدماميني:
قلت له والدجى مول ... ونحن في مجلس التلاق
قد عطس الصبح يا حبيبي ... فلا تشمته بالفراق
وقوله:
يا عذولي في مغن مطرب ... حرك الأوتار لما سفرا
كم تهز العطف به طربا ... عندما تسمع منه وترا
وقوله:
بدا وقد كان اختفى ... وخاف من مراقبه
فقلت هذا قاتلي ... بعينه وحاجبه
وقوله:
أمنيتي أنت يا مليحا ... ما مثله في الزمان ثان
فكيف يبدي جفاك خوفا ... وأنت لي غاية الأمام
وقوله:
وعزيز الجمال أوجب ذلي ... وهواه علي أصبح فرضا
فهو في الحسن والجمال سماء ... صرت يا صاح منه بالذل أرضا
وقوله:
تناسبت أوصاف من وصله ... ينفي عن القلب جميع الكرب
في الخد تسهيل ومن ثغره ... يطيب للصب ارتشاف الضرب
وقوله:
لا ما عذاريك هما أوقعا ... قلب المحب الصب في الحين
فجد له بالوصل واسمح به ... ففيك قد هام بلامين
وقوله:
في ليلة البدر أتى ... حبي فقرت مقلتي
وقال لي يا بدر قم ... فقلت هذي ليلتي
وقوله:
قم بنا نركب طرف الل ... هو سبقا للمدام
واثن يا صاح عناني ... لكميت ولجام
ومن مختارات الشيخ الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني:
سألوا عن عاشق في ... قمر باد سناه
أسقته مقلتاه=قلت لا بل شفتاه وقوله:
أتى من أحبائي رسول فقال لي ... ترفق وهن واخضع تفز برضانا
فكم عاشق قاسى الهوى إن يحبنا ... فصار عزيزا حين ذاق هوانا
وقوله:
خاض العواذل في حديث مدامعي ... لما رأو كالبحر سرعة سيره
فحبسته لأصون سر هواكم ... حتى يخوضوا في حديث غيره
وقوله:
يا عاذلي وسهام اللحظ ترشقني ... عن قوس حاجب بدر خده قبسي
أن تستطع لنجاتي في الهوى سببا ... فاستنبط العلم لي من أسهم وقس
وقوله:
ولم أنس إذ زار ****** بروضة ... فغارت من المحبوب أعينها المرضى
ولاحت بخد الورد حمرة خجلة ... حياء رأينا طرف نرجسها غضا
وقوله:
نحن أهل الهوى بلوناه قدما ... بين خوف من أهله وأمان
وشربنا خمر الهوى كل حين ... بكؤوس قد أترعت وأوان
وقوله:
سرت وخلفتني غريبا ... في الربع أصلي جوى بنازك
أغث حشا أحرقت غراما ... في ربعك المعتلي ودارك
وقوله:
وبدر تم جميل ... محجب بالدلال
إذا همست بأني ... أسلو هواه بدالي
وقوله:
نهاني حبيبي أن أطيع عواذلي ... لكي أتهنا بالوصال الذي سرا
فقلت فدتك النفس سمعا وطاعة ... فلم أر نهيا منه أهنأ ولا أمرا
وقوله:
وأهيف حياني بطيب وصاله ... ومن ريقه الخمر الحرام حلالي
أدار لي الكأسين خمرا وريقة ... ونزهني عن جفوة وملال (لي)
وقوله:
تجرد من أحب فقال لي من ... يلوم وأظهر الحسد المكتم
أجاد لك ****** بلمس جسم ... له كالخز قلت نعم وأنعم
وقوله:
تيه فلان الدين مع فقره ... أقوى دليل أنه جاهل
لثوبه بالصقل من فوقه ... قعاقع ما تحتها طائل
وقوله:
يا أيها الشيخ المطيع هواه دع ... هذي الدعابة قد أتى داعي الردى
(1/374)
________________________________________
وخيوط هذا الشيب لا تنسج بها ... ثوب التصابي فهي ما خلقت سدا
وقوله:
خليلي ولي العمر منا ولم تنب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا
في وصفها ألسن الأقلام قد نطقت ... وطال شرحي في لامية العجم
وقوله:
أرخت لنا ذوائبا من شعرها ... عشرا وفرق الفجر فيها يسري
فصرت بالفجر لها معوذا ... لما بدا بين ليال عشر
وقوله:
أرشفني ريقه وعانقني ... وخصره يلتوي من الدقه
فصرت من خصره وريقته ... أهيم بين الفرات والرقه
وقوله:
قال أراك الحمى تعوض ... بغصن قدي إذا جفاكا
فقلت من بعد قد حبي ... والله ما أشتهي أراكا
وقوله:
برامة لي ظبي ... تخشى الأسود مرامه
كم هام قلبي فيه ... بين العذيب ورامه
وقوله:
هويت غصنا لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجه تغريد
قالت لواحظه إنا نسود على ... بيض الظبا قلت أنتم أعين سود
وقوله:
جاد النسيم على الربا ... بندى يديه وقال لي
أنا ما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي
ومن التواري التي وقعت لناظمها عفوا بل سحرا من غير كد قول القائل:
قاسوك بالغصن في التثني ... قياس جهل بلا انتصاف
فذاك غصن الخلاف يدعي ... وأنت غصن بلا خلاف
ومن ذلك قول جلال الدين شاعر ماردين قديما:
ويوم يرد يد أنفاسه ... تخمش الأوجه من قرصها
يوم تود الشمس من برده ... لو جرت النار إلى قرصها
ومثله قول شرف الدين بن منقذ:
ولرب ليل تاه فيه نجمه ... وقطعته سهرا فطال وعسعسا
وسألته عن صبحه فأجابني ... لو كان في قيد الحياة تنفسا
ومثله قول أمين الدين السليماني:
أضيف الدجى معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر
وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر
ومنه قول محاسن الشواء:
ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما فيهم إلا للحمى قارض
وقد بهتوا لما رأوني ساهيا ... وقالوا به عين فقلت وعارض
ومثله قول إبراهيم بن عبد الله الغرناطي:
يا رب كأس لم تشج شمولها ... فأعجب لها جسما بغير مزاج
لما رأينا ***** من أشكالها ... جملا نسبناها إلى الزجاجي
ومنه قول فخر الدين بن الجنان الشاطبي:
تؤمون الحجاز وما علمتم ... بأن القلب بيتكم العتيق
وألفاظي العذيب وأضلعى المنحن ... ى ودموع مقلتي العقيق
ومثله قول الشريف محمد قاضي الجماعة بغرناطة وهو:
حدائق أنبتت فيها الغوادي ... ضروب النور رائقة البهاء
فما يبدو بها النعمان إلا ... نسبناه إلى ماء السماء
ومنه قول الشيخ شمس الدين الأدفوي:
كم للنسيم على الربا من نعمة ... وفضيلة بين الورى لن تجحدا
ما زارها وشكت إليه فاقة ... إلا وهز لها الشمائل بالندى
ومثله في الحسن واللطافة قول الشيخ موفق الدين الحكيم:
لله أيامنا والشمل مجتمع ... نظما به خاطر التفريق ما شعرا
وا لهف قلبي على عيش ظفرت به ... قطعت مجموعة المختار مختصرا
وقول علاء الدين بن البطريق ناظر الجيش ببغداد:
دار السراج بديعة ... فيها تصاوير بمكنه
تحكي كتاب كليلة ... فمتى أراها وهي دمنة
ويعجبني في هذا الباب قول القائل في حمام:
إن حمامك التي نحن فيها ... أي ماء لها وأية نار
قد نزلنا فيها على ابن معين ... وروينا عنه صحيح البخار
ويعجبني من نظم المواليا في هذا الباب قول القائل:
حبي ومحبوبتي مذ بان يوم البين ... رأوا عشا ليلة الاثنين قبل الحين
فصرت أنظر إلى زينة وألمح زين ... وأقول يا قلب ما أحلى ليلة الاثنين
ويعجبني قول الشيخ حامد الحكاك:
ثار الغرام الذي في مهجتي خامد ... وسال دمعي الذي كنت أعهدو جامد
وأنا ببغداد والمحبوب في آمد ... مصيبتي عظمت وأنا لها حامد
قال المؤلف عفا الله عنه:
(1/375)
________________________________________
هذا الذي أوردته من شواهد التورية هو عيون ما أورده ابن حجة في شرح بديعيته, فإنه جاء بالطم والرم, ولم يميز بين الروح والجرم, أورد الغث والسمين, وجمع بين الرخيص والثمين. وهذا حين أورد ما للمتأخرين والمعاصرين في هذا الباب, مما يرق ويروق لأولي الألباب: فمن محاسن الشيخ الأديب يحيى بن محمد بن حامد الصفدي المعروف بابن مليك الحموي قوله:
ومذ تاه الليل وقد ضللنا ... بليل ليس يهدي سالكوه
فأشرق وجه من أهوى ونادى ... أنا ابن جلا ألا لا تنكروه
ووجه الصبح وافانا سريعا ... وقال وقد حكاه أنا أخوه
فقلت لصاحبي أنعم صباحا ... لعمرك قد تعارفت الوجوه
وقوله:
قلت مذ سل فؤادي ... وانثنى عني وولى
يا رشيق القد رفقا ... بمحب مات ملا
وقوله:
بأبي من رنت وماست دلالا ... ربة الحسن والحياء البديع
لا تقل كالغزال والغصن قدا ... لا ولا البدر فهي ست الجميع
وقوله:
قد كان لي فرو جديد طالما ... قد كنت أقلبه بغير تكلف
واليوم لي قد قال حين قلبته ... قلبي يحدثني بأنك متلفي
وقوله:
ووالله إني ما تركتك سلوة ... ولم يحل لي هجر ولا مر في بالي
ولكن أرى القالين زادوا وإنني ... عليك الذي يخشى من القيل والقال
وقوله:
بي سكري قد تلج ثغره ... وحلا ممازجة بماء الكوثر
بالله حلو حديثه كرر على ... سمعي فما أحلى حديث السكري
وقوله:
وعدت أصيلا بالزيارة بكرة ... لما رأتني بالصدود بخيلا
فعليك يا طرفي الرقاد محرم ... حتى تشاهد بكرة وأصيلا
وقوله:
بأبي رشا قد دق منه خصره ... عذب اللمى حلو القوام رشيق
مالي جعلت تغزلي في خصره ... إلا لعلمي فيه وهو دقيق
وقوله:
يا جارة لصدودها لي ألبست ... ثوب السقام ولم تخف من عار
دمعي لطول جفاك أضحى جاريا ... فعلام لا ترعي حقوق الجار
وقوله:
وقالوا هلال الأفق في الوضع قد حكى ... لحسن الذي تهواه واتضح الحق
فقلت نعم حاكى الهلال جبينه ... ولكن غدا في الحسن بينهما الفرق
وقوله:
تهنيك تاج الدين من خلعة ... في حسنك الباهي عليها خفر
من فلك الأزرار قد أطلعت ... شمسا وبدر التم منها ظهر
وقد غدا السعد لها ناظرا ... لما بدا الطالع فيها القمر
وقوله:
يا عاذلي عاد لي مفتاح وانتعشت ... روحي فكن عاذري ان رمت اصلاحا
أما ترى لي أبواب الهنا فتحت ... لما اتخذت لها في الحب مفتاحا
وقوله:
إن عيني مذ غاب مثقال عنها ... أورثتني البكا وعز اصطباري
وعلى مثل مثقال عيني تبكي ... لا على درهم ولا دينار
وقوله:
أتيتك أعرج يا ذا العلا ... وغير نوالك لا أرتجي
عساك تحدث عن جابر ... حديث صحيح عن الأعرج
وقوله:
رب بدر بات يجلي ليلة ... شمس راح من لماه معتصر
وعجيب تحت أذيال الدجى ... اجتماع الشمس عندي والقمر
وقوله:
فرطت في ذا الخريق حتى ... مني قد استملك الخطاما
وصحت إذ لم أجد سبيلا ... إليه يا حسرتي على ما
وقوله:
تهن بشكل مولود سعيد ... بديع الوصف زاد على السماع
أتى والشمل مجتمع فأكرم ... بشمل قد تولد في اجتماع
وقوله:
سهام عينيك دائي ... وأصل ما بي وسقمي
وقد أخذت نصيبي ... منها ورحت بسهمي
وقوله:
لقد طال بي وجدي ولازمني الأسى ... وضاقت على المشتاق في حبك السبل
وقد أصبح القلب الكئيب كما ترى ... معنى بوراق وما عنده وصل
وقوله:
عذار حبي لام ... والثغر كالميم أضحى
وعذلي فيه ولوا ... مذ عاينوا الصدغ كالحا
وقوله:
كتبت إليك أشكوا شجو حالي ... وما ألقاه من ألم افتقاري
لعل إذا قرأت اليوم خطي ... ترق لحالتي يا خير قاري
وقوله:
أمولاي إن الفقر قد صال وقد طغى ... ومال على ضعفي وبالغ في جرحي
لعل إذا ضاقت وسدت مذاهبي ... أتوب ونصر الله يؤذن بالفتح
وقوله:
(1/376)
________________________________________
أنا قاصم الأعداء في يوم الوغى ... ومجدل الفرسان عند طعان
وإذا تكنَّت في الحروب أنالها ... وتطاولت ناديت يال سنان
وقوله:
أهديتموا لي لبنا طيبا ... في طاسة عن فضلكم تعرب
أمسكها والله عيبا أرى ... وردها فارغة أعيب
وإنما أطعمني فيكم ... أصلكم واللبن الطيب
وقوله:
ألا يا بني الروم القتال فدونكم ... فأنا تدرعنا الحديد إلى الحشر
وما برحت للفتح تتلو رماحنا ... وأسيافنا تتلو بها آية النصر
وقوله:
علقتها خودا لها مقلة ... تزري بالحاظ الظبا السارحة
يا فتية العشق خذوا حذركم ... فإنما مقلتها جارحة
وقوله:
رجوتك عونا فخاب الرجا ... وقل الوفاء وعز الطلب
لذا انقطع الحبل ما بيننا ... وقد زاد قبضي بهذا السبب
ومن بدائع العلامة ابن الحجاج الغرناطي قوله في الحافظ علم الدين أبي القاسم بن محمد بن يوسف البزالي:
نوى النوى علم الدين الرضى فأنا ... من بعد فرقته بالشام ذو ألم
فلا تلمني على حبي دمشق فقد ... أصبحت فيها زمانا صاحب العلم
وقال في الحافظ شمس الدين الذهبي:
رحلت نحو دمشق الشام متبعا ... رواية عن ذوي الأحلام والأدب
ففزت في كتب الآثار حين غدت ... تروى بسلسلة عظمى من الذهب
وقال في قاضي القضاة العالم الشهير صاحب التفسير عماد الدين الكندي:
ولما اختبرت ذوات الورى ... تعجبت من حسن ذات العماد
فتلك التي لم أكن مبصرا ... مدى عمري مثلها في البلاد
وقال:
بكيت شجا ففاض الدمع يحكي ... يتامى الدر إذ يهوي تواما
وسلت من محاجرها سيوفا ... فخفت على المحاجر واليتاما
وقال:
لعمرك ما ثغره باسم ... ولكنه حبب لاعب
ولو لم يكن ريقه مسكرا ... لما دار من حوله الشارب
وقال وقد وقف حاجب السلطان على عين ماء ببعض الثغور وشرب منها:
تعجبت من ثغر هذي البلاد ... ومولاي من عينها شارب
فلله ثغر أرى شاربا ... وعين بدا فوقها حاجب
وقال:
وحمراء في الكأس مشمولة ... تحث على العود في كل بيت
فلا غزو أن جائني سابقا ... إلى الأنس خل بحث الكميت
وقال:
أتوني فعابوا من أحب جماله ... وذاك على سمع المحب خفيف
فما فيه عيب غير أن جفونه ... مراض وإن الخصر منه ضعيف
وقال:
أيا عجبا كيف تهوى الملوك ... محلي وموطن أهلي وناسي
وتحسدني وهي مخدومة ... وما أنا إلا خديم بفاس
وقال:
لي المدح يروى حيث كنت كأنما ... تصورت مدحا للورى وثناء
ومالي هجاء فأعجبن لشاعر ... وكاتب سر لا يقيم هجاء
وقال:
ومهاة تقول أن هي كلت ... ودعا للمزاج خل ممازج
دار ذا الردف إن في الأزر مني ... رمل يبرين يا طبيب وعالج
وقال:
أيا ضوء الصباح ارفق بصب ... تسيل دموعه في الخد سيلا
وكنت بليلة ليلاء طالت=فها أنا في الورى مجنون ليلى وقال يخاطب شيخه سيف الدين:
لمولاي سيف الدين في الفقه بيننا ... مقام اجتهاد ليس يلحقه الحيف
فتقليده فرض على أهل عصرنا ... ولا عجب عندي إذا قلد السيف
وقال:
رعى الله معطار النسيم فإنه ... رأى من غصون البان ما شاء من عطف
وأيدي من حديث الغيث وهو مسلسل ... لذاك لعمري ليس يخلو من الضعف
وترشحت التورية بكون المحدثين يقولون الحديث المسلسل لا يخلو من الضعف, ولو في التزام التسلسل, مع كون متن الحديث صحيحا, كما قرر في محله.
وقال:
نظرت إلى روض الجمال بخده ... وسقيته دمعا به العين تكلف
فصح حديث الحسن عن ورد خده ... وإن كان أضحى وهو راو مضعف
ويعجبني قول الشيخ علاء الدين المارديني:
أنظر صحاح المبسم السكري ... رواية صحت عن الجوهري
وصحح النظام في ثغره ... ما قد رواه خاله العنبري
معتزلي أصبح لما بدا ... في خده عارضه الأشعري
قد كتب الحسن على خده ... يا أعين الناس قفي وانظري
أمطر دمعي عارض قد بدا ... يا مرحبا بالعارض الممطر
(1/377)
________________________________________
وجه لأزهار إليها جامع ... من لي بذاك الجامع الأزهر
أشهرت لحظا يا فقيها به ... قد راحت الروح على الأشهر
وللأستاذ الشيخ محمد البكري:
أنا المعشوقة السمرا ... وأجلى في الفناجين
وعود الهند لي طيب ... وذكري شاع في الصين
وللشيخ أحمد المدني المعروف باليتيم:
أرسلت رسلي لقهوة سحرا ... فما أتوا سرعة من الكسل
فقيل صفها فقلت مقتبسا ... جاءت على فترة من الرسل
وله أيضاً:
ما الحال قالوا صف لنا ... فلعل ما بك أن يزاح
فأجيب ما يخفاكم ... حال السراج مع الرياح
وقد سبقه لمثله في كثير من شعره السراج الوراق.
وللشيخ عبد الرحمن بن كثير المكي:
كبار زماننا أضحوا صغارا ... وقد غضب الزمان على الكبار
كان زماننا من قوم لوط ... له ولع بتقديم الصغار
وللعلامة محمد بن حجر المكي:
يا ذا الذي من خاله حبة ... سوداء في الخد الشديد الصفا
دعني أقبلها تزيل الضنى ... فالحبة السوداء فيها الشفا
وله في مليح اسمه علي:
لعلي محاسن ... ما لها قط مشبه
وبشامات خده ... كرم الله وجهه
ولمحمد الخياط المحلي:
لنا صاحب ما زال يتبع بره ... بمن وذاك البر بالمن لا يسوى
سلوناه لا بغضا ولا عن ملالة ... ولكن لأجل المن تستعمل السلوى
ومثله قول التلمساني: هواكم هو المن الذي ماله سلوى=وحبكم عندي هو الغاية القصوى ومن محاسن الأردبيلي قوله في غلام يهودي:
من آل إسرائيل علقته ... أوقعني بالصد في التيه
قد أنزل السلوى على قلبه ... وأنزل المن على فيه
وللشيخ يوسف المغربي في رجل يعرف بالعاملي:
إن اليهودي غدا عاملا ... في الناس بالجور وبالباطل
يعمل في الدين كما يشتهي=فلعنه الله على العامل وله من قصيدة أخرى:
اشرب ولا تعيب على عاذل ... فشله في الناس لم يعتب
وإن تسكن يا سيدي طالبا ... درا وياقوتا من المطلب
فالكأس والصهباء فيها المعنى ... فخذ حديث الكنز عن مغربي
وله يمدح أستاذه يحيى الأصيلي:
مدحت البحر إذ أضحى يحاكي ... علوم البر ذي الفخر الجليل
وإني إن مدحت يوما ... فمدحي فيه للبر الأصيلي
وللشيخ يحيى الأصيلي:
من منصفي من ظالم ... بيت المظالم بيته
أخفيه خشية بأسه ... وأود لو سميته
وهذا كقول السراج الوراق:
رزقت بنتا ليتها لم تكن ... في ليلة كالدهر قضيتها
فقيل ما سميتها قلت لو ... مكنت فيها كنت سميتها
وقد قيل أن التورية لم تعقد له, لأنه إنما قال: سممتها, وقيل: مثله يسمى إبهام التورية, والصحيح أنه من باب (تقضى البازي) بمعنى تقضض وفي كلام بعضهم ما يقتضي اطراده.
وله أيضاً:
إلا أن لي يا آل صديق أحمد ... لشمس الهدى منكم به الكرب ينجلي
فلي منه أستاذ ولي منه مرشد ... ولي منه قطب ذو اتصال ولي ولي
ومثله قول ابن مكانس:
نعم نعم محضتهم ... صدق الولا تطولا
وما رعوا عهدا ولا ... مودة ولا ولا
وله أيضاً:
لي صاحب متمرض ... متقلق في ذاته
يا رب صبرني عسى ... أقوى على مرضاته
وهذا مأخوذ من قول جارية المعتمد بن عباد لمولاها: يا مولاي لا نقوى على مرضاتك في مرضاتك.
وله:
أتيت جنينة أستاذنا ... وقد جمعت كل معنى كمل
بها آي ورد وآس به ... تفرق شمل عداه وفل
والفل نوع من الياسمين بلغة أهل اليمن, ذكي الرائحة, ولم يذكره أهل اللغة, فهو لغة مولدة, وسماه البيطار في مفرداته: النمارق.
وكتب لخالة بالإسكندرية:
لخالي في الإسكندرية رغبة ... ومن بعده قد حال لي في الهوى حال
فإن يك أضحى ثغرها موطنا له ... فيا حبذا في ذلك الثغر لي خال
وله:
مذ بان من أهوى همت ... عيني بماء منهمر
فقلت للقلب إذا ... لم تلق صبرا فاستعر
وللشيخ عبد الواحد الرشيدي:
قلت للنائب الذي ... قد رأينا معائبه
لست عندي بنائب ... إنما أنت نائبه
وهو كقول آخر:
(1/378)
________________________________________
وقاض لنا حكمه باطل ... وأحكام زوجته ماضيه
فيا ليته لم يكن قاضيا ... ويا ليتها كانت القاضية
وللشيخ محمد بن بدر الدين الزيات في الفاضل العزي:
إلى الفاضل العزي وجهت مطلبي ... لأظفر منه بالذخيرة والكنز
وقالوا تذلل تبلغ المجد والعلى ... فقلت لهم قد نلت ذلك بالعز
ولصفي الدين بن محمد العزي في مليح متجانس:
علي رفقا بمن ذابت حشاشته ... صب أزل الكرى عن مقلتيه وصب
حديد قلبك يا نحاس يمنعه ... لجين جسمك والنوم المصون ذهب
وله في صديقه الصحافي:
يا عاذلي في هواه ... تلاف قبل تلافي
وهات لي الدن واجمع ... بيني وبين الصحافي
وللشيخ أحمد بن عواد في بعض الحبوش:
حبشية حسنية أبصرتها ... تهتز كالغصن الرطيب المثمر
فسألتها عن جنسها ما خفي ... قالت فما تبغيه جنسي أم حري
وهذا كقول آخر:
بي أمحري ناعم الخدين ذو ... شرطين فعلهما كفعل الخنجر
لم أدر مذ صافحت صفحة خده ... ورد زها هو أم خديد أم حر
وها هو هنا أمر لا كما قال فيه:
من كل معنى بديع لو يمر على ... فهم السقيم ولو في نومه شفيا
وقلما أبصرته عين ذي أدب ... إلا وراح بذاك البرء مكتفيا
ويعجبني قول بعض المتأخرين:
أسرفت في الصد فخف خالقا ... لا يرتضي إسراف مخلوق
يا هاجرا من لم يذق وصله ... جرعته الصبر على الريق
وللشيخ شهاب الدين أحمد المعروف بقعود:
لي حبيب من هجره زاد سكري ... وسلوي هواه أقبح ذنب
جاءني داعيا وقال أنت إني ... أولم اليوم قلب المحب
ومثله لابن مكانس:
قال خلي لحبيبي صل فتى ... فيك قد أضحى معنى مغرما
قال هل يولم إن واصلته ... قال إن فاز بثغر أو لما
وله: وحقك لو أتلفت مالي جميعه=لما رضي الواشون فيك مكارمي
ولو أنني أولمت ألف وليمة ... لأجلك لم يشكر عذولي ولا يمي
وللشيخ سري الدين بن الصايغ الحنفي:
قلت لتاج الدين في خلوة ... وقد علاه عبده الأكبر
التاج يعلو فوقه غيره ... قال نعم ياقوت أو جوهر
وللشيخ محي الدين الغزي (أحمد الدين الغزي ابنه) :
يا راكب البغلة الشموص ... وقائد المهر والقلوص
بساحل المرج لا تعرج ... وانزل على ساحل الخصوصي
بساحل المرج لا تعرج ... وانزل على ساحل الخصوصي
أحب مصر التي تسامت ... ففضلها جاء بالنصوص
لأن مقت الإله ربي ... قد حل في الروم بالخصوص
وللشيخ نور الدين بن الجزار الشافعي في (الوجه) وهو منهل معروف بطريق مكة شرفها الله تعالى:
ولما رأيت الوجه سال من الحيا ... وقد طاب فيه للحجيج مقام
وعاينت ركب الحج حل بسفحه ... وقد ضربت في جانبيه خيام
ومدوا إلى الغيث الهطول أكفهم ... فجاد عليهم بالعطاء غمام
فقلت على الوجه المليح تحية ... مباركة من ربنا وسلام
وللقيراطي فيه أيضاً:
أتيت إلى الحجاز فقلت لما ... تبدى وجهه لي وارتويت
وكم في الأرض من وجه مليح ... ولكن مثل وجهك ما رأيت
وللحافظ ابن حجر العسقلاني وقد مر به فوجده مسننا:
أتينا إلى الوجه المرجى نواله ... فشح ولم يسمح بطيب نداه
وأسفر عن وجه وما فيه من حيا ... فقلت دعوه ما أقل حياة
ولما عاد إليه وجده ممطرا قد صفت مشاربه واخضرت جوانبه, وطاب به القيل فقال:
أرانا الجميل الوجه معتذرا لنا ... فأوليته شكرا وما زلت مثنيا
وأطرقت نحو الأرض رأسي خجلة ... وما أسطعت رفع الرأس من كثر الحيا
وللأديب أبي عبد الله الفيومي فيه:
ولما وجدنا الوجه عند وروده ... خليا من الماء القراح فناؤه
زممت مطي ثم قلت ترحلوا ... فلا خير في وجه إذا قل ماؤه
وللشهاب المنصوري في مليح اسمه يونس:
لست لأغصان النقا مادحا ... لأن حبي قده أميس
ولست بالأقمار مستأنسا ... لأن عندي قمري يونس
وللشيخ نور الدين علي العسيلي:
بكفك طوفان تروى به الورى ... وعهدي بالطوفان يأتي بتنكيد
(1/379)
________________________________________
ولا غرو أن أرست بنا سفن الرجا ... ببابك يا مولى النوال على الجودي
وله في عيد يسمى فرجا:
إني ابتليت بزنجي قبائحه ... ليست تعد على ما فيه من عوج
كل الأمور إذا ضاقت لها فرج ... إلا أموري إذا ضاقت فمن فرج
وللشيخ علي الحنائي:
أرى من صدغك المعوج دالا ... ولكن تقطعت من مسك خالك
فصارت داله بالنقط ذالا=فها أنا هائم من أجل ذلك وهو أحسن من قول الخوارزمي:
وأراك خديه ولاح عليهما ... صدغان ذو خال وآخر خالي
فكأن ذا ذال خلت من نقطة ... وكأن ذا دال ونقطة ذال
ومن قول أبي بكر الزوزني:
نقطت خدك ذالا ... فالويل من شكل ذلك
لو أن ذلك ذالي ... سجدت من أجل ذلك
وله:
أسروه من ثغر العدو فأصبحوا ... أسرى بمبسمه الشهي وثغره
أسروه كي يمسي أمير جماله ... فهو الذي ملك الفؤاد بأسره
وله:
وافي وأنفاسي تصعد من جوى ... فقال أمن كأس الصبابة تغتبق
وهل تحت رق الحب قلبك في لظى ... فقلت أجل ان القلوب لتحترق
ولابن المبلط نحوه:
يا نائما وقنه ... من فوقه كفحل جن
يحقنه بمائه ... مالي أراك تحت قن
وللشهاب المنصوري:
قلبي بحبك قد علق ... فامنن له وصلا ورق
يا من يحمل مهجتي ... في حبه ما لم تطق
ها قد ملكت جوا نحي ... فانظر تجدها تحترق
عيناك تسترق الحشا=ولكل حر تسترق وللأديب ماميه الرومي:
قال عواذلي بدعد في الهوى ... فتنت أم بزينب وسلما
أم الرباب أم سعاد قل لنا ... أجبتهم إن هي إلا أسما
وله:
إذا شمت برق الأبرقين على النقا ... تذكرت ثغرا قد تبسم بالضيا
ولو شاهدت سحب الغمام مدافعي ... وما قد جرى منها لأدركها الحيا
وله:
فديت من الهلال غدا نطاقه ... يصد وليس للهجران طاقه
وكم أدنى فؤادا في هواه ... إلى الأشجان معصمه وساقه
وله:
لمرسل الدمع فوق الوجنتين نبا ... وأمر قلبي غدا بين الورى عجبا
صبا إلى وصب يشكو تحكمه ... فيا له من فؤاد قد شكا وصبا
وله:
هل من جانب الحجاز هلال ... هام فيه قلبي الشجى ورامه
ولقد لعلع المنى لمحب ... قد رأى بارق العذيب وشامه
وله:
ميز بني العسال تلقى منهم ... رشا يصول بلحظه الغزال
لا غرو إن طعن الفؤاد قوامه ... فالطعن منسوب إلى العسال
وله:
بي غزال قد غزاني لحظه ... فاطر القلب بصاد وسبا
جسمه الأبيض يحكي فضة ... وبه كنز اصطباري ذهبا
وله:
هذا زمان أصبحت فيه ... غني فضل فقير مال
إن كنت أضحيت ذا افتقار ... فهل لأهل الغنى كمالي
وله:
يا تاج دين سما بين الأنام ومن ... غدا مدى الدهر كهف الخائف الراجي
أهديت در نظامي بالمديح لكم=والدر أحسن ما يهدى إلى التاج وللقاضي تاج الدين المالكي في البرقع الشرقي المعروف بالحجاز وهو أول من ابتكر هذا المعنى:
بدا البرقع الشرقي كالشفق الذي ... على فرقه لاح الهلال بلا فرق
وأبدى عجيبا في عجيب لأنه ... أرانا هلال الأفق يبدو من الشرق
وتلاه القاضي أحمد بن عيسى المرشدي فقال:
وخود كبدر التم في جنح مضون ... حماها عن الأبصار برقعها الشرقي
سوى طرة مثل الهلال بدت لنا ... على شفق والفرق كالفجر في الأفق
فقلت لها لاح والفجر طالع ... من الغرب أم لاح الهلال من الشرق
وللقاضي تاج الدين المالكي أيضاً:
غنيت بحلية حسنها ... عن لبس أصناف الحلي
وبدت بهيكلها البديع ... تقول شاهد واجتلى
تجد المحاسن كلها ... قد جمعت في هيكلي
وتلاه أيضاً القاضي أحمد المرشدي فقال:
أنا ربة الحسن الجلي ... لمؤملي المتأمي
صدري ووجهي منية ... للمجتني والمجتلي
فالحظ بديع محاسني ... من تحت أنواع الحلي
تجد المحاسن والحلي ... جمالها من هيكلي
وللقاضي يحيى بن سيد عمر الحسيني المكي في ذلك:
أفدي كعوبا ذات حسن ناهدا ... قد صاغها الباري بأجمل هيكل
(1/380)
________________________________________
خطرت بهيكل قدها وبهيكل ... في جيدها الباهي السني المنهل
بين الغواني المبدعات بحسنها ... وجمالها مهدي الجمالة للحلي
وتقول عجبا بينهن ورفة ... هل هيكل في الحسن يحكي هيكلي
وأنشدني الوالد لنفسه في ذلك:
خود جلا الأنوار نور جبينها ... والفرع منها كالبهيم الأليل
تزهو بجيد الريم إلا انه ... هاد إلى الوجه المنير الأجمل
قالت لصب قد تزايد وجده ... من صدها بتعزز وتدلل
أنا نزهة الأبصار ذاتا فاجتلي ... مني محاسن قد هواها هيكلي
وأنشدني لنفسه في المعنى أيضاً:
خود جلالي وجهها ... بدرا منيرا معتلي
قالت لمدنف هجرها ... بتعزز وتدلل
أنا نزهة الأبصار ذا ... تا والبها بي يعتلي
ومحاسن الدنيا جميعا ... قد هواها هيكلي
وللشيخ أحمد الجوهري المكي:
وأهيف كالسيف ألحاظه ... وقده المياس كالسمهري
أخجلني ثغر له باسم ... فاعجب لثغر مخجل الجوهري
وله:
قال عذولي إذ رأى ... أخا الغزال الأعفر
هذا الذي مبسمه ... فتت قلب الجوهري
وله:
جرح اللحظ خال خد غلام ... فضح البان قده باعتداله
فإذا ثار طاعنا لفؤادي ... قال خذها من طالب ثار خاله
ومما قلته أنا في هذا الباب قولي:
رأيت قوما من بني هاشم ... دنوا من العليا وما أبعدوا
قد وصفوا بالحمد آباءهم ... وأظهروا في المجد ما شيدوا
حتى إذا ما سألوا عن أبي ... قلت لهم أن أبي أحمد
وقلت:
لما حنى الطرف ورد وجنته ... عذب قلبي بنار هجران
فقلت قد جرت يا فديتك بي ... عذبت قلبي وطرفي الجاني
وقلت:
لما رأت عيني الذي ... عاد لقربي بعد أبعادي
قالت لقلبي لا تشك الصدى ... ما أقرب العين من الصادي
وقلت:
يا حسنها جارية أقبلت ... في الليل والليل بها كالنهار
لما رأتني خفضت طرفها ... فقلت ما أحسن خفض الجوار
وقلت:
قال العواذل لما ... رأوا أخا البدر لاحا
وعلني من لماه ... ما زاد قلبي ارتياحا
أراح يسقيك شهدا ... من ثغره قلت راحا
وقلت من قصيدة:
بدا بدرا ولاح لنا هلالا ... وأشرق كوكبا واهتز غصنا
وثنى قده الحسن ارتياحا ... فهام القلب بالحسن المثنى
وقلت من أخرى:
لها خد تسعر جل ناري ... به لما أراني جلناره
توق أخا الغرام رضاب فيها ... فكم شقت حلاوته مراره
وقلت:
ورب ساق قلبه قلبه ... أفديه من قاس ومن ساق
تحارب العشاق في حبه ... فقامت الحرب على ساق
وقلت:
لله روض بات نرجسه به ... ساهي الجفون ملاحظا نمامه
والورد رومي الملابس والحلى ... أو ما تراه مزررا أكمامه
وبيت بديعية والبرهان صفي الدين الحلي قوله:
خير النبيين والبرهان متضح ... في الحجر نقلا وعقلا واضح اللقم
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
لا يرفع العين للراجين يمنحهم ... بل يخفض الرأس قولا هاك فاحتكم
ربيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
يمشى الورى خلفه رسل وغيرهم ... يتلون آثار ما أوتي من الحكم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
أوصافه الغر قد حلت بتورية ... جيدي وعقد لساني بعد ذا وفمي
وبيت بديعية الطبري قوله:
خير الخلائق ذو جد يناصره ... وعمه للعدى ورى بغزوهم
وبيت بديعيتي هو قولي:
ردت بمعجزه من غير تورية ... له الغزالة تعدو نحو أفقهم
وبيت بديعية المقري قوله:
لا تطعني هند فالأنساب واحدة ... ونحن أن نفترق نرجع إلى حكم
أراد: حكم بن سعد العشيرة.
تجاهل العارف
تجاهل العارف الباغي فقال له ... أمعجز ما نرى أم سحر مجترم
تجاهل العارف هو كما سماه السكاكي: سوق المعلوم مساق غيره لنكتة. قال: ولا أحب تسميته بالتجاهل, لوروده في كلام الله تعالى.
والتسمية الأولى لابن المعتز, وخصه بعضهم بأن يكون على طريق التشبيه, ليوهم أن شدة التشبيه بين المشبه والمشبه به أحدثت التباس أحدهما بالآخر, وفائدته المبالغة كقول البحتري:
(1/381)
________________________________________
ألمع برق سرى أم ضوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي
فإنه يعلم أن الابتسام غير لمع البرق وضوء المصباح, لكنه لما قصد المبالغة في وصفه باللمعان والضياء, استفهم استفهام من لا يعلم, حتى كأنه من شدة الشبه بينهما التبس عليه أحدهما بالآخر, والمشهور الأول, أعني سوق المعلوم مساق المجهول, سواء كان على طريق التشبيه أو غيره, لكن لا بد له من نكتة, كالمبالغة في المدح, أو الذم, أو التعظيم, أو التحقير؛ أو التوبيخ؛ أو التقرير؛ أو التدله؛ أو التعريض, أو غير ذلك.
قال التفتازاني: ونكت التجاهل أكثر من أن يضبطها العالم.
فمما ورد منه للمبالغة في المدح قول حسان بن ثابت:
أنسيم ريقك أخت آل العنبر ... هذا أم استنشأته من مجمر
وبديد ثغرك ما أرى أم لمحة ... من بارق أم معدن من جوهر
وقول مهيار الديلمي رحمه الله وفيه التعظيم والتدله:
أمن بابل أم من نواظرك ***** ... أمن حانة أم من مراشفك الخمر
وهل ما أراه أم حادث النوى ... وهل هو شوق بين جنبي أم جمر
سلوا بعدكم وادي الحمى ما أساله ... دمي أم دموع العاشقين أم القطر
وقول ظافر بن القاسم الحداد:
يا أيها الرشأ الذي من طرفه ... سهم إلى حب القلوب نفاذه
در يلوح بفيك من نظامه ... خمر يجول عليه من نباذه
وقناة ذاك القد كيف تقومت=وسنان ذاك اللحظ ما فولاذه وقول مهذب الدين الطرابلسي:
من ركب البدر في صدر الرديني ... وموه ***** في حد اليماني
وأنزل القمر الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسرواني
وقول عمر بن أبي ربيعة:
نظرت إليها بالمحصب من منى ... ولي نظر لولا التحرج عارم
فقلت أشمس أم مصابيح راهب ... بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
بعيدة مهوى القرط أما لنوفل ... أبوها وأما عبد شمس وهاشم
ومما ورد من هذا النوع للمبالغة في التعجب, وقد نص الشاعر عليه قول نصر بين سيار:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالزندين تورى ... وإن الحرب أولها كلام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاض أمية أم نيام
ومنه للمبالغة في المدح قول ابن مليك الحموي:
أوميض برق بالحمى يتوهم ... أم ثغر صبح نواله يتبسم
وسحاب مزن أم غمام ماطر ... أم بحر جود بالمكارم مفعم
وأخو حروب عند مشتبك القنا ... أم فيلق قد سار وهو عرمرم
ومحله حرم غدا أم ملجأ ... أم كعبة الراجين حين تيمموا
وقوله:
طراز ذاك العذار من رقمه ... ودر دمعي بفيه من نظمه
وخاله فوق كنز مبسمه ... بالمسك قفلا عليه من ختمه
وقول التلعفري:
أتلك قدود أم غصون موائد ... ونور نضيد فوقها أم قلائد
وهاتيك غيد آنسات نواعم ... بدت أم ظباء نافرات شوارد
وقولي:
معاطف أم رماح سمهريات ... وأعين أم مواض مشرفيات
يا قاتل الله ألحاظا سفكن دمي ... أكان عندي لها في الحب ثارات
وقلت بعده:
سل عن دمي عندما تلقاك مسفرة ... تخبرك عنه الخدود العندميات
ما بلبل القلب من وجد ومن وله ... هواي لولا العيون البابليات
وما أبرئ نفسي إنها حكمت ... بالحب فاحتكمت فيها الصبابات
وليس بدعا فكم بالعشق قد بليت ... قبلي نفوس عن البلوى أبيات
يا عاذلي في الهوى أسرفت في عذلي ... وكأن يكفيك لو أجدت إشارات
كيف السلو وأشواقي في مضاعفة ... وبين حبي وسلواني منافات
هيهات قلبي عصاني في محبتهم ... لما غدا وله في الحب طاعات
وما ربوع الهوى يوما بدارسة ... وقد وفت لي الحسان العامريات
لي من سعاد سعادات أفوز بها ... يوم اللقاء ومن لبنى لبانات
وفي غرامي سر لا أبوح به ... وللمحبين أسرار خفيات
لا أنكرن الهوى من بعدما تليت ... علي من سور الأحباب آيات
فخذ صحيح الهوى عني ومسنده ... فكم بإسناده عندي روايات
ومن يناظرني فيه وقد نشرت ... على مفارق لهوي منه رايات
واستفرغته صباباتي فما بقيت ... بعدي لأهل الهوى إلا صبابات
(1/382)
________________________________________
ومن البديع في هذا الباب قول ابن هاني المغربي من قصيدة يمدح جعفر بن علي أمير الزاب:
أبني العوالي السمهرية والموا ... ضي المشرفية والعديد الأكثر
من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبع في حمير
يحكى أنه لما أنشدها ترجل العسكر كله, ولم يبق أحد راكبا سوى المعز, فلا يعلم بيت شعر كان جوابه نزول عسكر جرار غيره.
وقول القاضي الفاضل, يمدح الملك العادل:
أهذه سير في المجد أم سور ... وهذه أنجم في السعد أم غرر
وأنمل أم بحار والسيوف لها ... موج وافر ندها في لجها درر
وأنت في الأرض أم فوق السماء وفي ... يمينك البحر أم في وجهك القمر
وقول ابن نباتة السعدي:
والله لا أدري أكانت مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر
إذا صبها جنح الظلام وعبها ... رأيت ظلام الليل يطوى وينشر
وقول الآخر:
والله ما أدري بأي صفاته ... ملك القلوب فأوثقت في أسره
أبوجهه أم شعره أم نحره ... أم ثغره أم ردفه أم خصره
ومما ورد للتقرير قول مهيار الديلمي:
طرفك والمسحور يقسم ب***** ... أعمدا رماني أم أصاب ولا يدري
وما أحسن ما قال بعده, ولم يخرج بالاستطراد عما نحن فيه:
تعرض لي في القانصين مسدد ... الإشارة مدلول السهام على النحر
رنا اللحظة الأولى فقلت مجرب ... فكررها أخرى فأحسست بالشر
فهل ظن ما قد حرم الله من دمي ... مباحا له أم نام قومي على الوتر
ومن بديع هذا النوع في المبالغة في النحول, قول أبي العباس أحمد بن محمد النامي:
حقا أن قاتلت زرود ... وإن عهودها تلك العهود
وقفت وقد فقدت الصبر حتى ... تبين موقفي أني الفقيد
وشكت في عذالي فقالوا ... لرسم الدار أيكما العميد
ومنه قول الثعالبي:
لي فاتن سيد يعلمني ... بحسنه كيف يعبد الصنم
لما رآني وفي يدي قلم ... لم يدر مولاي أينا القلم
وقول السري الرفاء:
إذا ما الراح والأترج لاحا ... لعينك قلت أيهما الشراب
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... خمرة تترك الحليم سفيها
لست أدري لرقة وصفاء ... هي في كأسها أم الكأس فيها
وقول أبي إسحاق الصابي: تورد دمعي إذ جرى ومدامتي=فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فو الله ما أدري أبالخمر أسبلت ... جفوني أم من عبرتي كنت أشرب
وقول أحمد بن المغلس:
أبروق تلألأت أم ثغور ... وليال دجت أم شعور
وغصون تأودت أم قدود ... حاملات رمانهن الصدور
وقول القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز:
من أين للعارض الناري تلهبه ... وكيف طبق وجه الأرض صيبه
هل استعان جفوني فهي تنجده ... أم استعار فؤادي فهو يلهيه
وقول أبي الفتح المحسر بن علي البديع من أهل حمص:
بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العذابا
ما الذي قالته عينا_ك لقلبي فأجابا ومنه في المدح قول البديع الهمذاني:
تعالى الله ما شاء ... وزاد الله إيماني
أأفريدون في التاج ... أم الإسكندر الثاني
أم الرجعة قد عادت ... إلينا بسليمان
وقول مهيار الديلمي:
أتراها يوم صدت أن أراها ... علمت أني من قتلى هواها
أم رمت جاهلة ألحاظها ... لم تميز عمدها لي من خطاها
وما أحسن ما قال بعده:
لا ومن أرسلها مفتنة ... تجرح النسك بجمع وقضاها
ما رمى نفسي إلا واثق ... أنه يقضي عليها من رماها
وقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:
ليت شعري أمليك في الورى ... أنت يا إنسان عيني أم ملك
وقولي في مطلع قصيدة:
من عم طلعتك الغراء بالبلج ... وخص مبسمك الدري بالفلج
وموه ***** في جفنيك فاتفقا ... على استلاب النهى بالغنج والدعج
وضاعف الورد في خديك حين بدا ... ريحان عارضك السبكي بالضرج
وقول مهيار الديلمي:
سألت طيبة ما هذا النحول ... أسقام باح أم هم طويل
أهلالا بعد أن أقمر لي ... أم قضيبا ومشى فيه الذبول
أنت والأيام ما أنكرته ... وبلاء المرء يوم أو خليل
(1/383)
________________________________________
قتلتني وانبرت تسأل بي ... أيها الناس لمن هذا القتيل
وقول الآخر:
إنسانة الحي أن أدمانة السمر ... بالنهي رقصها لحن من الوتر
ياما أميلح غزلانا شدن لنا ... من هؤليائكن الضال السمر
تالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر
وقول شيخنا محمد الشامي:
بالله قولا لنسيم الصبا ... لا تعجلن إني كسير الجناح
وناشدا عني عيون المها ... أكان جدا كسرها أم مزاح
وقوله:
بيني وبينك يا ظباء الأجرع ... عهد أضيع وحق دين مارعي
لي عندكن وديعة وأظنها ... قلبي فإني لا أرى قلبي معي
قالت وقد خطرت بعطفيها الصبا ... هيل الكثيب على كواعب أربع
أي القلوب فإنهن كثيرة ... عندي فقلت أخفهن إذ دعي
وقول أبي فراس:
تسائلني من أنت وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى ... قتيلك قالت أيهم فهم كثر
فأيقنت أن لا عز بعدي لعاشق ... وإن يدي مما علقت به صفر
وما أحسن قول أبي الحسن علي بن محمد التهامي:
وموقف لولا التقى لالتقى ... فيه نجادي ونظام الوشاح
قلت لخلي وثغور الربى ... مبتسمات وثغور الملاح
أيهما أبهى ترى منظرا ... فقال لا أعلم كل أقاح
أبان لنا من درة ودعا ... عقودا وألفاظا وثغرا وأدمعا
وأبدى لنا من دله وجبينه ... ومنطقة ملهى ومرأى ومسمعا
فقلت أوجه لاح من تحت برقع ... أم البدر بالغيم الرقيق تبرقعا
وقوله:
أرأيت طرفك نابل أم سائف ... أم نافث للسحر أم خمار
وقوله:
لعينك وخزة في كل قلب ... أأشفار جفونك أم شفار
وقوله:
أتاني منك ذكر لو ينادي ... به الأموات كان لهم معادا
ثناء أم ثنايا أقحوان ... تبسم عن مباسمها فرادى
ومن التحقير قوله يمدح أبا نصر الكاتب:
من حاتم جودا إذا ذكر الندى ... من سيف ذي يزن من الأقوام
من قسهم نظما ومن فصحاؤهم ... نثرا ومن لقمان في الأحكام
من يوسف في عفة وصباحة ... من مثله علما من الأعلام
ولا يخفى ما في البيت الأخير من المبالغة القبيحة.
ومنه قول الآخر:
أسائل عن ثمالة كل حي ... وكلهم يقول وما ثمالة
فقلت محمد بن سعيد منهم ... فقالوا الآن زدت بهم جهالة
ومنه في المديح قول ابن قلاقس:
أكوكب بشر من جبينك لائح ... وصيب يسر من يمينك سافح
وإلا فماذا البرق والغيم مقنع ... وماذا النوال السكب والجو واضح
ومما هو للتوبيخ قول حسان بن ثابت:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
ومما هو للتقرير قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
ومما هو للذم قول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وفيه دلالة على أن (القوم) للرجال خاصة. قال تعالى "لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء".
ومما هو للتحقير قول الآخر:
يقولون هذا عندنا ليس ثابتا ... ومن أنتم حتى يكون لكم عند
وقول الباخرزي:
قالت وقد فتشت عنها كل من ... لاقيته من حاضر أو باد
أنا في فؤادك فارم لحظك نحوه ... ترني فقلت لها وأين فؤادي
وقول العميد أبي سهل محمد بن الحسن:
يا دهرنا أينا أشجى ببينهم ... أأنت أم أنا أم ريا أم الدار
وقول أبي الطيب المتنبي:
من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب
وما أحسن ما قال بعده منكرا على نفسه هذا التجاهل:
إن كنت تسأل شكا في معارفها ... فمن بلاك بتسهيد وتعذيب
ومما ورد منه للتوبيخ قول الخارجية:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
وقوله تعالى "فهل عسيتم إن توليتم أن تفيدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم".
فلو عدل عن الاستخبار المتضمن للتوبيخ إلى تصريح الأخبار, بأنكم إذا توليتم أمر الناس أفسدتم, وقطعتم الأرحام, للبسوا له جلد النمر, ولكن إذا تأملوا في الاستخبار أنصفوا وأذعنوا.
(1/384)
________________________________________
ومما ورد للتدله, ما وقع كثيرا في خطابهم للأطلال والرسوم والمنازل والأيام وغيرها, والاستفهام عنها كقول مهيار:
نشدتك يا بانة الأجرع ... متى رفع الحي من لعلع
وهل مر قلبي بالتابعين ... أم خار ضعفا فلم يتبع
وقول ذي الرمة:
أمنزلتي مي سلام عليكما ... هل الأزمن اللاتي مضين رواجع
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ... ثلاث الأثافي والديار البلاقع
ومما ورد للتحقير قوله تعالى حكاية عن الكفار"هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد" يعنون محمدا صلى الله وآله وسلم, كأن لم يكونوا يعرفون منه إلا أنه رجل ما, وهو عندهم أظهر من الشمس. قال بعضهم: وينبغي أن يسمى هذا تجهيل العارف, لأنهم جهلوهم مع كونهم عارفين به صلى الله عليه وآله وسلم لغرض فاسد لهم لعنهم الله.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين قوله:
يا ليت شعري أسحر كان حبكم ... أزال عقلي أم ضرب من اللمم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
إذا بدا البدر تحت الليل قلت له ... أأنت يا بدر أم مرأى وجوههم
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
وعارف مذ بدا بدري تجاهل لي ... وقال حبك أم ذا البدر في الظلم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وافتر عجبا تجاهلنا بمعرفة ... قلنا أبرق بدا أم ثغر مبتسم
وبيت بديعية الطبري قوله:
سراة حسن بدوا قلنا سنا قمر ... تجاهلا أم سنا برق على أضم
وبيت بديعيتي هو:
تجاهل المعارف الباغي فقال له ... أمعجز ما نرى أم سحر مجترم
لا يقال ما في هذا البيت من المدح شيء سوى أنه حكاية حال لتجاهل الكفار. لانا نقول المدح في مفهومه, وهو بيان أن من شك في معجزه صلى الله عليه وآله وسلم إنما شك عنادا, وأظهر شكه تجاهلا, فهو من باب تجاهل العارف المعاند, وإلا فمعجزه صلى الله عليه وآله قد تحقق إعجازه لكل ذي بصر, آمن من آمن, وكفر من كفر.
وبيت بديعية المقري قوله:
هل بين بدري وبين الأفق من نسب ... فالكل للجد سام قد عزي ونمي
الاعتراض
وما عليه اعتراض في نبوته ... وهو الصدق فثق بالحق والتزم
الاعتراض, هو أن يؤتى في أثناء الكلام, أو بين كلامين متصلين معنى, بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب -لنكتة- سوى دفع الإبهام, فخرج الاحتراس. وسماه قدامة -لالتفات الصاحب بن عباد - حشو اللوزينج. ومتى خلا عن نكتة سمي حشوا, فلا يعد حينئذ من البديع, بل هو من المستهجن. والنكتة في الاعتراض كثيرة: - منها التنزيه.
كما في قوله تعالى "ويجعلون لله البنات -سبحانه- ولهم ما يشتهون" فإن قوله (سبحانه) جملة لكونه بتقدير الفعل وقعت في أثناء الكلام, لأن قوله (ولهم ما يشتهون) عطف على قوله (لله البنات) , والنكتة فيه تنزيه الله وتقديسه عما ينسبون إليه.
ومنها الدعاء كما في قول الشاعر:
إن الثمانين وبلغتها ... وقد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله (وبلغتها) يفيد الدعاء, وهو جملة معترضة بين اسم إن وخبرها, والواو فيه اعتراضية ليست عاطفة ولا حالية.
ومثله قول عبد الرحيم بن عبد المالك يخاطب أخاه وهو في حبس الرشيد:
فلو بك ما بي لا يكن بك لا أغتدي ... إليك وراح البر بي والتقرب
ومنها التنبيه كما في قوله:
وأعلم فعل المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقول الشاعر:
لو أن الباخلين وأنت فيهم ... رأوك تعلموا منك المطالا
و (منها) تخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر علق بهما: كقوله تعالى: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك" فقوله (أن أشكر لي ولوالديك) وقوله (حملته) إلى آخره, اعتراض بينهما, إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا, وتذكيرا لحقها العظيم مفردا. ولذلك قيل: حق الوالد أعظم وحق الوالدة ألزم.
ومنها المطابقة والاستعطاف كما في قول أبي الطيب:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما
فقوله (يا جنتي) اعتراض للمطابقة مع جهنم وللاستعطاف.
ومنها بيان السبب لأمر فيه غرابة كما في قول الشاعر:
فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة ... ولا وصلة يصفو لنا فنكارمه
(1/385)
________________________________________
فإن كون هجر ****** مطلوبا للمحب أمر غريب, فبين سببه: بأن في اليأس راحة.
ومنها المدح كما في قول أبي محمد الخازن:
فأية طربة للعفو أن ال ... كريم وأنت معناه طروب
ومما جاء بين كلامين متصلين معنى وهو أكثر من جملة أيضاً, قوله تعالى "قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم" فإن قوله تعالى (والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) ليس من قول (أم) مريم وإنما هو اعتراض من كلام الله سبحانه, والنكتة فيه تعظيم الموضوع وتجهيلها بقدر ما وهب لها منه, ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت, وما علق به من عظائم الأمور, وجعلها وولدها آية للعالمين, وهي جاهلة بذلك لا علم لها به, ولذلك تحيرت وتحزنت. ثم زاده بيانا وإيضاحا بالجملة الثانية من الاعتراض فقال: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها.
قال السعد التفتازاني: ومثل هذا الاعتراض كثيرا يلتبس بالحال, والفرق دقيق أشار إليه صاحب الكشاف, حيث ذكر في قوله تعالى "ثم اتخذ تم العجل من بعده وأنتم ظالمون". إن قوله (وأنتم ظالمون) حال, أي عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة في غير موضعها, واعتراض, أي وأنتم قوم عادتكم الظلم. انتهى.
وحاصله أن الحال مقيد, فيراد بالظلم اتخاذ العجل, وعلى تقدير الاعتراض, لا يختص الظلم به بل يراد المطلق, وأيضا يراد الدوام على تقدير الاعتراض دون الحال, وبينهما فروق أخر تطلب من مظانها.
ولنذكر جملة من محاسن أمثلة هذا النوع على جاري عادتنا في هذا الكتاب, من غير تنبيه على النكت, اعتمادا على فهم الناظر.
فمن المستحسن منها قول العباس بن الأحنف:
قد كنت أبكي وكنت راضية ... حذار هذا الصدود والغضب
إن تم ذا الهجر يا ظلوم ولا ... ثم فمالي في العيش من أرب
وقول أبي الفتح البستي:
أراح الله قلبي من زمان ... محت يده سروري بالإساءة
فإن حمد الكريم صباح يوم ... وأنى ذاك لم يحمد مساءه
وقول الفقيه عمارة اليمني:
له راحة ينهل جود بنانها ... ووجه إذا قابلته يتهلل
ترى الحق للزوار حتى كأنه ... عليهم وحاشا قدره يتطفل
على أنه أخذه من قول أبي الطيب:
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
وأخذه أبو الحسين الجزار أيضاً فقال:
ويهتز للجدوى إذا ما مدحته ... كما اهتز حاشا وصفه شارب الخمر
وأخذه ابن الساعاتي أيضاً فقال:
يهزه المدح هز الجود سائله ... أولا وحاشاه هز الشارب الثمل
وقول ابن اللبانة في ناصر الدولة صاحب ميورقة:
وغمرت بالإحسان أفق ميورقة ... وبنيت فيها ما بنى الإسكندر
فكأنها بغداد أنت رشيدها ... ووزيرها وله السلامة جعفر
فقوله (وله السلامة) من مليح الاعتراض, مع ما فيه من التلميح إلى قصة جعفر البرمكي.
وقول أبي الوليد محمد بن يحيى بن حزم:
أتجزع من دمعي وأنت أسلته ... ومن نار أحشائي ومنك لهيبها
وتزعم أن النفس غيرك علقت ... وأنت ولا من عليك حبيبها
وقول القاسم صاحب أذربيجان:
سعاد تسبني ذكرت بخير ... وتزعم أنني ملق خبيث
وإن مودتي كرب ومين ... واني بالذي أهوى بثوت
وليس كذا ولا رد عليها ... ولكن الملول هو النكوث
رأت شغفي بها ونحول جسمي ... فصدت هكذا كان الحديث
وقول السراج الوراق:
إن عيني وهو عضو دنف ... ما على ما كابدته جلد
ما كفاها بعدها منك إلى ... أن دهاها وكفيت الرمد
ومثله قوله:
وما بي إلى ماء النيل حاجة ... ولو أنه أستغفر الله زمزم
وقول ابن النبيه:
سقيا لأيامنا التي سلفت ... كانت بطيب الحياة مقترنة
لو بيع يوم منها وكيف به ... كنت بعمري مسترخصا ثمنه
وقول الشريف الرضي رضي الله عنه:
لا تحسبيه وإن أسأت به ... يرضى الوشاة ويقبل العذلا
لو كنت أنت وأنت مهجته ... واشي هواك إليه ما قبلا
ويعجبني قول السيد عز الدين المرتضى:
أفي الحق أن يمضي ثلاث وأربع ... وخمس وسبع بعدهن ثماني
وما أن أرى شمس الضحى قمر الدجى ... ولا هو حاشاه الخسوف يراني
(1/386)
________________________________________
نأى لا نأى لما دنا الهجر لا دنا ... فيا ليت ذا ناء وذلك داني
ومنه قولي:
لاموا على كثر البكا ناظري ... ولم يروا منظره الناضرا
ولو رأى العاذل لي لا أرى ... أصبح لا أصبح لي عاذرا
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
فإن من أنفذ الرحمن دعوته ... وأنت ذاك لديه الجار لم يضم
وابن جابر لم ينظم ذلك النوع.
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
فلا اعتراض علينا في السؤال به ... أعني الرسول لكي أنجو من الضرم
وبيت ابن حجة قوله:
فلا اعتراض علينا في محبته ... وهو الشفيع ومن يرجوه يعتصم
وبيت بديعية الطبري قوله:
لي منك عهد عسى أني أكون به ... أرعى بدون اعتراض من ذوي الخدم
وبيت بديعيتي هو:
وما عليه اعتراض في نبوته ... وهو الصدوق فثق بالحق والتزم
وبيت المقري قوله:
صلى الإله ووالاها عليك كما ... صلت ظباك على القتلى ولم تضم
حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي
هو العوالم عن حصر بأجمعها ... وملحق الجزء بالكلي في العظم
هذا النوع من مستخرجات ابن الأصبع, وعرفه بان يأتي المتكلم إلى نوع ما فيجعله له جنسا بعد حصر أقسام الأنواع فيه والأجناس, كقوله تعالى "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر" فإنه سبحانه وتعالى تمدح بأنه يعلم ما في البر والبحر من أصناف الحيوان والنبات والجماد, لاحتمال أن يظن ضعيف, أنه جل جلاله يعلم الكليات دون الجزئيات, فإن المولدات وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى جملة العالم, فكل واحد منها كلي بالنسبة على ما تحته من الأجناس والأنواع والأصناف, فقال لكمال التمدح "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" وعلم أن علم ذلك يشاركه فيه كل ذي إدراك, فتمدح بما لا يشاركه فيه أحد ففال "ولا حبة في ظلمات الأرض" ثم ألحق هذه الجزئيات بالكليات حيث قال "ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين".
ومثاله من النظم قول السلامي:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر
فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
فإنه قصد تعظيم الممدوح, وداره التي قصده فيها, ويومه الذي لقيه فيه, فجعل الممدوح جميع الورى وهو جزء منه, وداره الدنيا وهي جزء منها, ويومه الدهر وهو جزء منه, فجعل الجزئي كليا وحصر أقسام الجزئي. لأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان ومكان, فقد حصر ذلك. قال الصفي وفي هذا الحصر نظر.
وقد أخذ هذا المعنى القاضي الأرجاني فقال من قصيدة:
يا سائلي عنه لما جئت أمدحه ... هذا هو الرجل العاري من العار
رأيته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار
وكرر السلامي هذا المعنى في شعره لكنه لم يكمله, فأتى ببعضه في بيت من قصيدة وهو:
أنت الأنام فمن أدعو وحضرتك ال ... دنيا فأين أقضي بعض أوطاري
واستعمله المتنبي أيضاً فقال:
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
وقوله أيضاً:
هديه ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل
وقوله:
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
والسابق إلى هذا المعنى أبو نواس في قوله يمدح الأمين والخطاب لناقته:
متى تحطي إليه الرحل سالمة ... تستجمعي الخلق في تمثال إنسان
وقوله في الفضل بن الربيع:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وقال آخر في مرثية:
فيا قبره كيف احتويت على الورى ... ويا لحده كيف اشتملت على البحر
والأصل في هذا كله قوله تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين" قال المفسرون في أحد الوجوه: أي أنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير.
وبيت بديعية الصفي قوله:
شخص هو العالم الكلي في شرف ... ونفسه الجوهر القدسي في عظم
قال في شرحه: هذا من جعل الجزئي كليا فقط, لكون البيت الواحد لا يسع جميع تلك القيود. ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
(1/387)
________________________________________
فألحق الجزء بالكلي منحصرا ... إذ دينه الجنس للأديان كلهم
هذا البيت ليس فيه من هذا النوع إلا الإشارة إلى اسمه في صدر البيت, وأما المعنى الذي تقرر له فلم يسلم به. ولا يخفى ما في النصف الأخير من المحذور معنى ولفظا.
وبيت البديعية ابن حجة قوله:
ألحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم
أطنب ابن حجة على جاري عادته في الإعجاب بكلام نفسه في وصف هذا البيت, حتى قال: وما أعلم له في هذا الباب نظيرا لتحرير هذا النوع الذي يدق عن أفهام كثيرة إيضاحه.
ومن تأمل تعريف هذا النوع الذي قرره له مخترعه زكي الدين بن أبي الأصبع, علم أن بيت ابن حجة ليس فيه جعل الجزئي كليا بوجه, فضلا عن حصر أقسام الجزئي, نعم لو قال مثلا: نبي هو الأنبياء, كما قال السلامي: ملك هو الورى, وكما قال الصفي: شخص هو العالم, كان قد جعل الجزئي كليا بالمعنى المذكور. وأما قوله (ألحق بحصر جميع الأنبياء به) فلا يدل على هذا المعنى, بل مدلوله: انك اجعل جميع الأنبياء مثله, أو أتبعهم إياه ليلحقوا به, من قولك: ألحقت هذا بهذا, أي جعلته مثله وفي رتبته. ومنه إلحاق الجزئي بالكلي أي جعله كليا, أو من ألحقت زيدا بعمرو أي أتبعته إياه فلحق, وليس في هذا ما يدل على المقصود من هذا النوع والله أعلم.
وبيت الطبري قوله:
جزئي هو العالم الكلي في رتب ... عليا فما فوقها مرقى لمستنم
وصفه صلى الله عليه وآله وسلم بالجزئي لا يخفى قبحه, وإن كان قد جعله كليا, على أنه قد فاته نصف الاسم من هذا النوع.
وبيت بديعيتي هو:
هو العوالم عن حصر بأجمعها ... وملحق الجزء بالكلي في العظم
وبيت المقري قوله:
فرد أتى سابقا وهو الورى معه ... آي هي الدين والدنيا لمعتصم
قال ناظمه في شرحه: وصف الممدوح بأنه فرد, ثم قال: وهو الورى معه آي, ثم قال: هي الدين والدنيا, فالحق الجزئي بالكلي بوصفين, بعد أن حصرهما. انتهى.
وأقول: أما إلحاق الجزئي بالكلي فمسلم, وأما حصرهما فممنوع, إذ المراد بحصر الجزئي في هذا النوع حصر الأقسام والأنواع فيه, وأين هذا المعنى في البيت؟.
التهذيب والتأديب
تهذيب فطرته أغناه عن أدب ... في القول والفعل والأخلاق والشيم
هذا النوع ليس له شاهد يخصه وإن كان من مستحسنات البديع, لأنه وصف يعم كل كلام مهذب محرر لفظيا كان أو نثرا, وهو عبارة عن تهذيب المتكلم كلامه, وتنقيحه ومراجعته بالنظر والفكر فيه, فيسقط ما يجب إسقاطه, ويصلح ما يتعين إصلاحه, ويحرر مقاصده ومباينه, ويبين أغراضه ومعانيه, بحيث لا يمكن أن يقال فيه: لو كان غير هذا لكان أحسن, ولو زيد هذا لكان يستحسن, ولو قدم هذا لكان أجمل, ولو ترك هذا لكان أفضل.
وقلما راجع الإنسان كلاما قاله إلا وعنت له هذه المقالة, كما قيل:
ما خط كف امرء شيئاً وراجعه ... إلا وعن له تبديل ما فيه
وقال ذاك كذا أولى وذاك كذا ... وهكذا إن يكن تسمو قوافيه
فإذا سلم البيت من لو, وليت, عد من مستحسنات البديع, وشمله حد التهذيب والتأديب, وإلا فهو خارج عما نحن فيه, مردود على من خرج من فيه.
وكان زهير بن أبي سلمى يضرب به المثل في تنقيح الشعر وتهذيبه, فيقال: حوليات زهير, لأنه كان يعمل القصيدة في ليلة, ثم تبقى حولا ينقحها.
وقيل: بل كان ينظمها في شهر وينقحها في أحد عشر شهرا. وقيل: بل كان ينظمها في أربعة أشهر وينقحها في أربعة أشهر, ويعرضها على علماء أصحابه أربعة أشهر, ولهذا كان عمر بن الخطاب يعتقد أنه شاعر الشعراء.
روي عن ابن عباس أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب سنة ست عشرة إذ خرج إلى الشام, وهي أول خرجة, حتى إذا كنا باشراف الشام -ولم يكن علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه خرج معه- فصلى المغرب, ثم بيت حتى صلى العشاء الآخرة, ثم وثب حتى ركبت, وأخذ كل إنسان زميله ومحدثه, وأخذت معه, فسار شيئا لا يتكلم, ثم رفع سوطه وقرع به وبسط رجله, ثم رفع صوته يتغنى بشعر أنس بن زنيم الدئلي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم.
وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
حتى أتى على الشعر, ثم قال: استغفر الله, وسكت هينهة لا يتكلم, ثم قرع وبسط رجله واندفع يتغنى بشعر أبي طالب:
(1/388)
________________________________________
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
حتى أتى على الأبيات, ثم قال: استغفر الله, هيه يا بن عباس, ما منع عليا أن يخرج في هذه الغزاة؟ قلت: أو لم تبعث إليه فجاءك وذكر عذره لك؟ قال: بلى, قلت: فهو ما أعتذر به, فقال: يا بن عباس, أبوك عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلت: بخ بخ, ما منع قومكم منكم؟ قلت: لا أدري, قال: إنهم يكرهون ولايتكم, قلت: ولم يكرهون ذلك؟ فوا لله ما زلنا لهم كالخير, قال: اللهم غفرا, يكرهون أن تكون النبوة والخلافة فيكم فتكونون خفجا خفجا. لعلكم تقولون: إن أبا بكر فعل بنا ذلك, والله ما قصده, ولكنه حضره أمر لم يكن بحضرته أحزم منه, ولو جعل لكم من الأمر نصيبا لما هناكم مع قومكم.
يابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء, قلت: من هو؟ قال: ألا تعرفه؟ قلت لا, قال: هو ابن أبي سلمى, قلت: يا أمير المؤمنين, فكيف صار شاعر الشعراء؟ قال لأنه لا يتبع حوشي الكلام, ولا يعاظل بين المنطق, ولا يقول إلا ما يعرف, ولا يمدح الرجل إلا بما يكون في الرجال, أو ليس الذي يقول:
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية ... إلى المجد من يسبق إليها يسود
سبقت إليها كل طلق مبرز ... سبوق إلى الغايات غير مجلد
كفضل جواد الخيل يسبق عفوه الس ... راع وإن يجهد ويجهدن يبعد
أنشدني له, فأنشدته حتى برق النور, ثم قال: حسبكن اقرأ علي, قلت: ما أقرأ؟ قال: اقرأ إذا وقعت الواقعة, فقرأتها.
وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المحكك, اقتداء بمذهب زهير.
وروى الحطيئة أن أبا العتاهية لقي يوما أبا نواس فقال له: كم تعمل في اليوم من الشعر؟ قال: البيت والبيتين, فقال أبو العتاهية: لكني أعمل المائة والمائتين, فقال أبو نواس: لأنك تعمل مثل قولك:
يا عتب مالي ولك ... يا ليتني لم أرك
مللكتني فانتهك ... ما شئت أن تنتهك
ولو أردت مثل هذا لعملت الألف والألفين, ولكني أعمل مثل قولي:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو منها مسها حجر مسته سراء
من كف ذات حر في زي ذي ذكر ... لها محبان لوطي وزناء
ولو أردت مثل هذا لأعجزك الدهر ومثل هذا الحكاية, ما يحكى أنه اجتمع مع مسلم بن الوليد, فجرى بينهما كلام, فقال مسلم, لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك:
الحمد والنعمة لك ... والملك لا شريك لك
لبيك إن الملك لك
لقلت في اليوم عشرة آلاف بيت, لكني أقول:
موف على رهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلا يأتي على مهل
يكسو السيوف نفوس الناكثين به ... ويجعل الروس تيجان القنا الذبل
وقال عدي بن الرفاع في تهذيبه لشعره:
وقصيدة قد بت أجمع بيتها ... حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها
وتبيت حتى ما أسائل عالما ... عن حرف واحدة لكي أزدادها
وقال أبو تمام:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة ال***اب
وقال ابن عنين:
معنى بديع وألفاظ منقحة ... عن نية وقواف كلها نخب
وما أحسن ما قال أبو محمد يحيى بن علي المنجم:
رب شعر نقدته مثلما ين ... قد رأس الصيارف الدينارا
ثم أرسلته فكانت معاني ... هـ وألفاظه معا أبكارا
لو تأنى لقالة الشعر ما أس ... قط منه حلوا به الأشعارا
إن خير الكلام ما يستعير ال ... ناس منه ولم يكن مستعارا
ولله الآخر حيث يقول:
لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغت في تهذيبها
فإذا عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه منك وساوسا تهذي بها
قيل لبشار بن برد: بم فقت أهل عصرك, وسبقت أهل أندادك في دهرك, في حسن معاني الشعر, وتهذيب ألفاظه؟ فقال: لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي, وتناجيني به طبيعتي, وتبعثه فكرتي. ونظرت إلى مغارس الفطن ومعادن الحقائق, ولطائف التشبيهات فصرت إليها بفهم جيد, وغريزة قوية فأبحت سرها, وانتقيت حرها, وكشفت عن حقائقها, واحترزت عن متكلفها, لا والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشيء مما آتي به.
(1/389)
________________________________________
وقال أبو عبادة البحتري الشاعر رحمه الله: كنت في حداثتي أروم الشعر, وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم (ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب) حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه, واتكلت في تعريفه عليه, فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة, تخير الأوقات وأنت قليل الهموم, صفر من الغموم, واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان (تأليف بيت أو حفظه أن يختار وقت *****) , وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة, وقسطها من النوم, وخف عنها ثقل الغذاء, وصفا من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء, وسكنت الغماغم, ورقت النسائم, وتغنت الحمائم (وإذا شرعت في التأليف) تغن بالشعر فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه. واجتهد في إيضاح معانيه, فإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقا, والمعنى رشيقا, وأكثر فيه من بيان الصبابة, وتوجع الكآبة, وقلق الأشواق والفراق, والتعلل باستنشاق النسائم وغناء الحمائم, والبروق اللامعة, والنجوم الطالعة, والتبرم (من العذال والوقوف على الأطلال) , وإذا أخذت في مدح (سيد) فأشهر مناقبه, (وأظهر مناسبه, وأرهف من عزائمه) , ورغب في مكارمه, واحذر المجهول من المعاني, وإياك أن تشين شعرك بالعبارة (الردية) والألفاظ الحوشية, وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام, وكن كأنك خياط يقدر الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك, ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب (ولا تنظم إلا بشهوة) فإن الشهوة نعم المعين (على حسن النظم) , وجملة الحال أن تعتبر شعرك بم سلف من أشعار الماضيين, فما استحسن العلماء فاقصده, وما استقبحوه فاجتنبه.
وقال أبو الفتح نصر الله بن الأثير: جيد الشعر ما كانت ألفاظه حلوة, ومخارجه سهلة, وقوافيه مألوفة, ووزنه حسنا تقبله النفس, سالما من الزحاف. واعلم أن اللفظ كالصورة والمعنى كالروح, فإن اتفقا وقع الكمال, وإن اختلفا وقع النقص. وأحسن الألفاظ ثلاثة: التطبيق, والتجنيس, والمقابلة. وأحسن المعاني ثلاثة: الاستعارة, والتشبيه, والمثل. فعليك بها على سبيل الاقتصاد. وينبغي أن يرغب الشاعر في الحلاوة واللطافة, والجزالة والفخامة, ويتجنب السوقي القريب, والحوشي الغريب, كما قال بعضهم:
عليك بأوساط الأمور فإنها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
وينبغي أن يحصل المعنى قبل اللفظ, والقوافي قبل الأبيات, ويكتب كل لفظ يسنح, وكل معنى يلمح, ويترنم بالشعر وهو يصنعه, ويقصد علمه وقت ***** وهو خال من الهم, لأن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة, ويجعل شهوته لقول الشعر التوصل إلى من نظمه فإنها نعم المعين, ويعرف أغراض المخاطب كأئناً من كان, لأن لكل مقام مقالا, فيخاطب الناس على قدر طبقاتهم وتعلقاتهم. فإن نسب ذل وخضع, وإن مدح أطرى وأسمع, وإن هجا أقل وأوجع, وإن فخر خب ووضع, وإن عاتب خفض ورفع, وإن استعطف حن ورجع. ويحسن الفواتح والخواتم والمطالع, ويلطف الخروج إلى المدح والهجاء, لأن حسن الافتتاح داعية الانشراح, وخاتمة الكلام أبقى في السمع, وألصق بالنفس لقرب العهد بها, فتقع من الأسماع والألقاب على حسبها, ولطافة الخروج أشد ارتياحا للممدوح, ويتفقد خاطره بالمذاكرة, فإنها زناده, وتشب أيقاده. وتفجر عيون المعاني, وتثبت قواعد المباني بمطالعة الأشعار وترنم جيدها, فإنهما يولدان الشهوة. وقيل: ما استدعي شارد الشعر بمثل الماء الجاري, والشرف العالي, والمكان الخالي, وتملي الحالي (يراد الحالي من الروض) .
وقال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع في وصية له: لا ينبغي للشاعر أن يكره الخاطر على وزن مخصوص, وروي مقصود (بل ينبغي أن يتوخى الكلام الجزل) دون الرذل, والسهل دون الصعب, والعذب دون المستكره, والمستحسن دون المستهجن. ولا تعمل نظما ولا نثرا عند الملل فإن الكثير معه قليل, والنفيس معه خسيس. والخواطر ينابيع, إذا رفق بها جمعت, وإذا كثر استعمالها نزحت. واكتب كل معنى يسنح, وقيد كل فائدة تعرض, فإن نتائج الأفكار كلمعة البرق, ولمحة الطرف إن لم تقيدها شردت وندت, وإن لم يستعطف عليها بالتكرار صدت, والترنم بالشعر مما يعين عليه, فقد قال الشاعر:
تغن بالشعر أما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار
(1/390)
________________________________________
(وقد يكل خاطر الشاعر ويعصي) عليه الشعراء زمانا. كما روي عن الفرزدق أنه قال: لقد يمر علي (زمان وقلع) ضرس من أضراسي أهون علي من أقول بيتا واحدا. فإذا كان كذلك فاتركه حتى يأتيك عفوا, وينقاد إليك طوعا. وإياك وتعفيد المعاني (وتقعير) الألفاظ, وتوخ حسن النسق عند التهذيب, ليكون كلامك بعضه آخذا بأعناق بعض. وكرر التنقيح وعاود التهذيب, ولا تخرج عنك ما نظمته إلا بعد تدقيق النقد, وإمعان النظر. انتهى.
وما أحسن ما قال أبو محمد الخازن:
لا يحسن الشعر ما لم يسترق له ... حر الكلام وتستخدم له الفكر
انظر تجد صور الأشعار واحدة ... وإنما لمعان تعشق الصور
وإذ قد ذكرنا تهذيب بن الأثير: يستحب للشاعر أن يكون حسن الأخلاق, حلو الشمائل, مأمون الجانب, طلق الوجه, طلق اليدين, وإلا هو كما قال ابن أبي فنن:
وإن أحق الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل
قان اتصف بذلك كان أملأ في العيون, وألوط بالقلوب.
ويستحب له أن يكثر من حفظ شعر العرب لاشتماله على ذكر أخبارهم وآثارهم, وأنسابهم وأحسابهم, وفي ذلك تقوية لطبعه, وبه يعرف المقاصد, ويسهل عليه اللفظ, ويتسع المذهب, فإنه إذا كان له طبع وأخل بذلك فربما طلب معنى فلا يصل إليه, وهو ماثل بين يديه لضعف آلته, كالمقعد يجد في نفسه القوة على النهوض فلا تعنيه آلته.
وسئل رؤبة عن الفحل من الشعراء فقال: هو الراوية, انه إذا روى استفحل, قال ابن حبيب: لأنه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد شعر غيره, فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة.
وقال رؤبة في صفة شاعر:
لقد خشيت أن يكون ساحرا ... راوية مرا ومرا شاعرا
فاستعظم حاله حتى قرنها ب*****.
وكان امرأ القيس راوية أبي داود الأيادي, مع فضل نخيرته, وقوة غريزته.
وكان زهير راوية أوس بن حجر, وطفيل الغنوي.
وكان الحطيئة راوية زهير.
وكان الفرزدق على فضله يروي للحطيئة كثيرا.
وكان كثير راوية جميل, ولم يكن بدون الفرزدق وجرير, بل كان يقدم عليهما عند أهل الحجاز, ولا يستغني عن تصفح أشعار المحدثين المجيدين لما فيها من حلاوة اللفظ, وقرب المأخذ, وإشارات الملح, ووجوه البديع, وأن يكون متصرفا في أنواع الشعر, من جد وهزل, وحلو وجزل, ومدح وهجاء, ورثاء وافتخار واعتذار, فإن كان كذلك لم يمل شعره, فيحكم له بالتصرف والتقدم.
وقد ادعى ذلك حبيب في القصيدة الواحدة فقال:
الجد والهزل في توشيع لحمتها ... إلا التصرف والسخف والأشجان والطرب
وقال إسماعيل بن القاسم أبو عتاهية:
لا يصلح النفس إذا كانت مركبة ... إلا التصرف من حال إلى حال
ويكره للشاعر أن يكون معجبا بنفسه, مثنيا على شعره وإن كان مجيدا, إلا أن يريد ترغيب ممدوح أو ترهيبه, وقد جوز له ذلك مسامحة. انتهى.
وقد تقدم أن هذا النوع ليس إلا شاهد يخصه, فلنكتف من شواهده على أبيات البديعيات: فبيت بديعية الشيخ صفي الدين قوله:
هو النبي الذي آياته ظهرت ... من قبل مظهره للناس في القدم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
والله هذبه طفلا وأدبه ... فلم يحل هديه الزاكي ولم يرم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تهذيب تأديبه قد زاده عظما ... في مهده وهو طفل غير منفطم
وبيت بديعية الطبري قوله:
ما ذاك باليمن محفوظ العناية من ... تهذيب تأديبه المرعي في اليتم
وبيت بديعيتي هو:
تهذيب فطرته أغناه عن أدب ... في القول والفعل والأخلاق والشيم
وبيت بديعية المقري قوله:
كلتا يديه يمين بالندى انبسطت ... فاقبض يسارك يا أخا الندم
الاتفاق
ما زال آباؤه بالحمد مذ عرفوا ... فكان أحمدهم وفق اتفاقهم
هذا النوع وإن سمي بالاتفاق إلا أنه قليل الاتفاق لعزة وقوعه, وهو عبارة عن أن يتفق للمتكلم واقعة وأسماء يطابقها, إما مشاهدة أو سماعا, كما اتفق للرضي بن أبي حصينة المصري في حسام الدين لؤلؤ حاجب الملك الناصر صلاح الدين, حين أرسله غازيا للإفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزم, فظفر بهم, فقال الشاعر المذكور يخاطب الإفرنج:
عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير
(1/391)
________________________________________
وأحسن اتفاق وقع في هذا النوع, ما اتفق للشيخ شمس الدين بن الكوفي الواعظ في الوزير مؤيد الدين بن العلقمي حيث قال:
يا عصبية الإسلام نوحي والطمي ... حزنا على ما حل بالمستعصم
دست الوزارة كان قبل أوانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي
فاتفق له أن المذكورين وزيران, وأن المورى نهران معروفان, مع المطابقة بين الفرات العذب والعلقم المر.
ومنه قول الملك الأفضل علي بن السلطان صلاح الدين يوسف لما تعصب عليه عمه أبو بكر وأخوه عثمان, فكتب إلى الإمام الناصر صاحب بغداد:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غضبا بالسيف حق علي
وهو الذي كان قد ولاه والده ... عليهما فاستقام الأمر حين ولي
فخالفاه وحلا عقد بيعته ... والأمر بينهما والنص فيه جلي
فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الأول
فاتفق له قضية طابقتها أسماء من كانت قضيتهم كقضيته حسب اعتقاده, ولما وصل كتابه إلى الإمام الناصر كتب إليه:
وافى كتابك يا بن يوسف معلنا ... بالحق يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا عليا حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر
فاصبر فإن غدا عليه حسابهم ... وابشر فناصرك الإمام الناصر
وكتب إليه ابن عنين من الهند قصيدة يقول فيها (وفيه شاهد لما نحن فيه أيضاً) :
هيهات أن آتي دمشق وملكها ... يعزي إلى غير المليك الأفضل
ومن العجائب أن يقوم بها أبو ... بكر وقد علم الوصية في علي
مهلا أبا حسن فتلك سحابة ... صيفية عما قليل تنجلي
وبيت بديعية الصفي قوله:
محمد واسمه بالاتفاق له ... وصف يشاكله في اسمه العلم
وبيت بديعية ابن حجة قوله: ووصفه لابنه قد جاء تسمية=فانه حسن حسب اتفاقهم قال في شرحه: اتفاق هذا البيت في لفظي (حسن وحسن) وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشار إلى ولده الحسن عليه السلام وقال: إن ابني هذا سيد, وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين عظمتين.
وبيت بديعية الطبري قوله:
من اسم جد أبيه وصف ساعده ... وذاك هاشم الأعدا باتفاقهم (كذا)
وبيت بديعيتي هو:
ما زال آباؤه بالحمد مذ عرفوا ... فكان أحمدهم وفق اتفاقهم
الاتفاق فيه اشتراك لفظي أحمد, الذي هو علم له صلى الله عليه وآله وأحمد هو اسم تفضيل. فإن قلت: العلم لا يضاف لأن شرط الإضافة الحقيقية تنكير المضاف, قلت قد يضاف العلم إذا جرد عن التعريف, بان يجعل واحدا من جملة من سمي بذلك اللفظ كقوله:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يماني
وبيت المقري قوله:
الرسل أحمد أوصافا وأحمدهم ... في الوصف أحمدنا فاشكر يد النعم
ومن الاتفاق أني اتفقت والشيخ في هذا الاتفاق من قبل أن أقف على بيته هذا.
الجمع مع التفريق
ضياؤه الشمس في تفريق جمع دجى ... وقدره الشمس لم تدرك ولم ترم
هذا النوع عبارة عن أن يدخل المتكلم شيئين في معنى واحد, ثم يفرق جهتي الإدخال كقوله تعالى "يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى" أدخل النفسين في حكم التوفي, ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك والإرسال, أي الله يتوفى الأنفس التي تقبض, والنفس التي لا تقبض, فيمسك الأولى ويرسل الأخرى.
ومن أمثلته في الشعر قول مروان بن أبي حفصة:
تشابه يوماه علينا فأشكلا ... فما نحن ندري أي يوميه أفضل
أيوم نداه الغمر أم يوم بأسه ... وما منهما إلا أغر محجل
فإنه أدخل يوميه في التشابه والإشكال, ثم فرق بينهما, فجعل أحدهما للبذل والسماحة, والثاني للنجدة والشجاعة.
وقول البحتري:
ولما التقيا والنقا موعد لنا ... تعجب رائي الدر حسنا ولاقطه
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
فجمع المرئي من الدر والملقوط منه في كونهما متعجبا منهما, ثم فرق بينهما, فجعل الأول مجلوا عند الابتسام وهو ثغره, وجعل الثاني مسقطا عند المحادثة وهو حديثه.
وقول الفخر عيسى:
تشابه دمعانا غداة فراقنا ... مشابهة في قصة دون قصة
(1/392)
________________________________________
فوجنتها تكسو المدامع حمرة ... ودمعي يكسو حمرة اللون وجنتي
وما ألطف قول مهيار الديلمي في هذا الباب:
جاءت تثنى بين ريحانة ... تعبق مسكا وكثيب يهال
فلا وعينيها وأردافها ... وشقوة الدعص بها والغزال
ما قدها هز نسيم الصبا ... وإنما ميل غصنا فمال
حتى إذا الليل قضى ما قضى ... خفت مع الفجر خطاها الثقال
أبكي وتبكي غيران الأسى ... دموعه غير دموع الدلال
أخذه السيد أحمد الصفوي فقال:
صه يا حمام فلست المشوق ... ولا بات حالك فيها كحالي
فما من تباكي كما من بكى ... ودمع الأسى غير دمع الدلال
ومنه قول التهامي:
قالوا تأس بجفنها في سقمه ... شتان بين سقامه وسقامي
سقم الجفون وإن تزايد صحة ... أبدا وسقمي قد أذاب عظامي
وحدث يعقوب بن بشر, قال: كنت مع إسحاق الموصلي في نزهة, فمر بنا إعرابي فوجه إسحاق خلفه فوافانا, فلما شرب وسمع حنين الدواليب قال:
بكرت تحن وما بها وجدي ... وأحن من وجد إلى نجد
فدموعها تحيا الرياض بها ... ودموع عيني قرحت خدي
وبساكني نجد كلفت وما ... يغني لهم كلفي ولا وجدي
لو قيس وجد العاشقين إلى ... وجدي لزاد عليه ما عندي
قال فما انصرف إسحاق إلا محمولا سكرا, وما شرب إلا على هذه الأبيات.
ومنه قول العفيف التلمساني:
بين فؤادي وخدها نسب ... كلاهما بالجحيم يلتهب
هما سواء والفرق بينهما ... أنهما ساكن ومضطرب
وقول الوطواط: فوجهك كالنار في ضوئها=وقلبي كالنار في حرها وقول الآخر: وسهيل كوجنة الحب في اللو_ن وقلب المحب في الخفقان وقولي في مطلع القصيدة:
ما بين قلبي وبرق المنحنى نسب ... كلاهما من سعير الوجد يلتب
قلبي لما فاته من وصل ساكنه ... والبرق إذ فاته من ثغره الشنب
وبيت بديعية الصفي قوله:
سناه كالنار يجلو كل مظلمة ... والبأس كالنار يفني كل مجترم
أدخل السناء والبأس في كونهما كالنار, ثم فرق بينهما, بأن وجه إدخال السنا فيه أنه يجلو الظلام, وإدخال البأس فيه أنه يفني المجرمين, كما تفني النار الحطب.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
فلذ بمن كفه والبحر ما افترقا ... إلا بكف وبحر في كلامهم
وبيت بديعية عز الدين الموصلي, شن فيه الغارة على بيت الشيخ صفي الدين فقال:
وعزمه النار في جمع يفرقه ... ووجهه النور يجلو ظلمة الغشم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
سناه كالبرق أن أبدوا ظلام وغى ... والعزم كالبرق في تفريق جمعهم
وبيت بديعية الطبري قوله:
كالشمس في الجمع والتفريق ملته ... وفي الضيا وجهه يا حسرة الظلم
وبيت بديعيتي هو:
ضياؤه الشمس في تفريق جمع دجى ... وقدره الشمس لم تدرك ولم ترم
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله: إن أنكروا الشمس منه فهي مقل=تعشي وفي مقل تجلو دجى الظلم قال ناظمه في شرحه: جعل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله كالشمس, ثم فرق ما جمع فقال: إنها في عيون جلاء, وفي عيون عشاء, انتهى بنصه.
الجمع مع التقسيم
وكم غزا للعدى جمعا فقسمه ... فالزوج للأيم والمولود لليتم
هذا النوع عبارة عن جمع متعدد تحت حكم, ثم تقسيمه أو بالعكس, أي تقسيم متعدد ثم جمعه.
فالأول كقوله تعالى "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات".
وكقول أبي الطيب في سيف الدولة:
قاد المقانب أقصى شربها نهل ... على الشكيم وأدنى سيرها سرع
لا يعتقي بلد مسراه عن بلد ... كالموت ليس له ري ولا شبع
حتى أقام على أرباض خرشنة ... تشفى به الروم والصلبان والبيع
للسبي ما أنكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
فجمع أولاء شقاء الروم بالممدوح, الشامل للسبي والقتل والنهب والإحراق, ثم قسم ثانيا وفصله, وذكر صاحب المقتاح (وتبعه ابن حجة) قبل البيت الأخير من هذه الأبيات قوله:
والدهر معتذر والسيف منتظر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع
(1/393)
________________________________________
وقال: انه جمع فيه أرض العدو وما فيها في كونها خالصة للممدوح, وقسم في الثاني. والمذكور فيما رأيناه من نسخ ديوان أبي الطيب ما ذكرناه وأما البيت الذي ذكره صاحب المفتاح وهو قوله (والدهر معتذر) إلى آخره فهو بعد بيت التقسيم بأبيات كثيرة.
والثاني كقول حسان:
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
فقسم في البيت الأول صفة الممدوحين إلى ضر الأعداء, ونفع الأولياء, ثم جمعهما في البيت الثاني في قوله (سجية) .
ومن لطيف هذا النوع قول بعضهم:
لو كان ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائما أبدا
لكن رأيت الليالي غير تاركة ... ما سر من حادث أو ساء مطردا
فقد سكنت إلى أني وإنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا
فقوله سنستجد جمع لطيف, ولما كان الأول أحلى في الأسماع وأعلق بالطباع, لم يعول أرباب البديعيات إلا عليه, ولا جنحوا في أبياتهم إلا إليه.
وبيت صفي الدين قوله:
أبادهم فلبيت المال ما جمعوا ... والروح للسيف والأجساد للرخم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
والمال والماء في كفيه قد جريا ... هذا لراج وذا للجيش حين ظمي
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
علم ومال على جمع تقسمه ... هذا لغمر وهذا نفع مغترم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
أثرت كرايمه جمعا فقسمها ... كالحوض للورد والعظمى لهولهم
وبيت بديعيتي هو:
وكم غزا للعدى جمعا فقسمه ... فالزوج للأيم والمولود لليتم
وبيت بديعية المقري قوله:
حوى الفضائل فالعليا لهمته ... والحسن للوجه والإحسان للشيم
الجمع مع التفريق والتقسيم لم ينظم الشيخ صفي الدين ولا غيره من أرباب البديعيات الجمع مع التفريق والتقسيم, إما اكتفاء بالجمع مع التفريق, والجمع مع التقسيم, أو لأن البيت الواحد لا يتسع لنظمه. وقد ذكره السكاكي في المفتاح, والقزويني في التلخيص والإيضاح, والطيبي في التبيان, والسيوطي في الاتقان وجماعة آخرون. وهو عبارة عن أن يجمع المتكلم متعددا تحت أمره, ثم يفرق, ثم يضيف إلى كل ما يناسبه, كقوله تعالى في سورة هود "يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق, خالدين فيها ما دامت السنوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد, وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ". فجمع الأنفس في عدم التكلم بقوله (لا تكلم نفس) لأن النكرة في سياق النفي تعم, ثم فرق بأن أوقع التباين بينها بأن بعضها شقي, وبعضها سعيد, لقوله (فمنهم شقي وسعيد) إذ الأنفس وأهل الموقف واحد, ثم قسم وأضاف إلى السعداء ما لهم من نعيم الجنة, وإلى الأشقياء ما لهم من عذاب النار.
فان قلت: ما معنى الاستثناء في قوله تعالى (إلا ما شاء ربك) قلت: هو استثناء من الخلود في عذاب النار والخلود في نعيم الجنة. فالاستثناء الأول محمول على أن فساق المؤمنين لا يخلدون في النار, والثاني محمول على أن أهل الجنة لهم سوى نعيمها ما هو أكبر وأجل وهو رضوان الله ولقاؤه عز وجل. وللمفسرين أقوال أخر في هذا الاستثناء هذا أصوبها.
وأما قوله (ما دامت السماوات الأرض) فهو كناية عن التأييد ونفي الانقطاع, كقول العرب: لا أفعله ما أقام ثبير, وما لاح كوكب.
ومن أمثلة هذا النوع من الشعر قول إبراهيم بن العباس:
لنا إبل كوم يضيق بها الفضا ... ويفتر عنها أرضها وسماؤها
فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن تستباح دماؤها
حمى وقرى فالموت دون مرامها ... وأيسر خطب يوم حق فناؤها
وقول ابن شرف القيرواني:
لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن
فللمخامل العليا وللمعدم الغني= وللمذنب العتبي وللخائف الأمن وقول ابن نباتة السعدي:
وكم لليل عندي من نجوم ... جمعت النثر منها في نظام
عتابا أو نسيبا أو مديحا ... لخل أو حبيب أو همام
المماثلة
فمن يماثله أو من يجانسه ... أو من يقاربه في العلم والعلم
(1/394)
________________________________________
المماثلة هي أن تتماثل الألفاظ أو بعضها في الرنة من غير تقفية, كقوله تعالى "وما أدريك ما الطارق, النجم الثاقب, إن كل نفس لما عليها حافظ" فالطارق والثاقب والحافظ متماثلات في الزنة بدون تقفية. ومثله قوله تعالى "فاصبر جميلا, إنهم يروونه بعيدا, ونراه قريبا".
ومن أمثلته في الشعر قول التهامي:
أهوى الحجاز وطلحه وسياله ... وأراكه وبشامة وغضاه
فسقى الإله سهوله وحزونه ... ومروجه ووهاده ورباه
وقوله أيضاً:
أهدى لنا في النوم نجدا كله ... ببدوره وغصونه وظبائه
وقول ابن الحديد يمدح عليا عليه السلام:
الصافح الفتاك والمتطول ... المناع والآخاذ والتراك
وقول أبي حصين علي عبد الملك في أبي فراس بن حمدان:
من ذا يطاوله أم من يماجده ... أم من يساجله أم من يكاثره
أم من يقاربه في كل مكرمة ... أم من يناضله أم من يساوره
أم من يبارزه أم من يوافقه ... في كل معركة أم من يصابره
وقول ابن هاني:
وكفاك من حب السماحة أنها ... منه بموضع مقلة من محجر
فغمامه من رحمة وعراصه ... من جنة ويمينه من كوثر
والفرق بين المماثلة والمناسبة اللفظية: توالي الألفاظ المتزنة في المماثلة دون المناسبة. ولا يخفى أن هذا النوع -أعني المماثلة- ليس تحته كبير أمر, لما كان أمرا زائدا على ما خلا عنه من الكلام عد من البديع.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
سهل خلائقه صعب عرائكه ... جم عجائبه في الحكم والحكم
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
يبدي مماثلة يعطي مناسبة ... يجزي مجانسة في الكلم والكلم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
فالخير رافقه والعفو جاوره ... والعدل جانسه في الحكم والحكم
وبيت بديعية الطبري قوله:
من ذا يماثله جلت فضائله ... والله مادحه في النون والقلم
ليس هذا البيت من المماثلة في شيء لما علمت من أنها تماثل الكلمات في الزنة دون التقفية, فقوله: يماثله, وفضائله, تماثلا وزنا وتقفية. وقوله: مادحه, لا يماثل ما قبله في الزنة.
وبيت بديعيتي قولي:
فمن يماثله أو من يجانسه ... أو من يشاكله في العلم والعلم
وبيت المقري قوله:
فامدح عوارفه واعرف مدائحه ... وانظم محاسنه يا حسن منتظم
التوشيع لقد تقمص بردا وشعته له=فخرا يد الأعظمين البأس والكرم التوشيع هو أن يؤتى في عجز الكلام -نظما كان أم نثراً- بمثنى مفسر باسمين, ثانيهما معطوف على الأول نحو, يشيب ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل.
قال الصفي في شرح بديعيته: هو مأخوذ من الوشيعة, وهي الطريقة الواحدة في البرد المطلق, فكأن الشاعر أهمل البيت كله إلا آخره فإنه أتى فيه بطريقة تعد من المحاسن.
وقال السعد التفتازاني: سمي توشيعا لأن التوشيع لف القطن المندوف فكأنه يجعل التعبير عن المعنى الواحد بالمثنى المفسر باسمين بمنزلة اللف, وتفسيره باسمين متعاطفين بمنزلة اللف, وتفسيره باسمين متعاطفين بمنزلة الندف فكان الأظهر أن يقول: بمنزلة ندف القطن بعد لفه.
وأجيب: بأن اللف المقصود في القطن يتأخر عن ندفه, فيكون المثنى بعمومه بحسب مفهومه وشيوعه بمنزلة المندوف, وتفسير المراد منه بالاسمين المتعاطفين بمنزلة اللف, فيكون التوشيع من قبل اللف بعد الندف, ولا حاجة إلى اعتبار القلب وغيره.
ومن أمثلته في الشعر قول الأديب (أبي) محمد بن سارة:
يا من يصيخ إلى داعي السفاه وقد ... نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ثوى ... في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاذيان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الأع ... لى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان البدو والحضر
وقول الفقيه عمارة يمدح صاحب مصر الفائز بن الظافر:
حيث الخلافة مضروب سرادقها ... بين النقيضين من عفو ومن نقم
وللخلافة أنوار مقدسة ... تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم
وللنبوة آيات تنص لنا ... على الخفيين من حكم ومن حكم
(1/395)
________________________________________
وللمكارم أعلام تعلمنا ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم
وللعلا ألسن تثني محامدها ... على الحميدين من فعل ومن شيم
وراية الشرف البذاخ ترفعها ... يد الرفيعين من مجد ومن همم
وقول الآخر:
أمسي وأصبح من تذكاركم قلقا ... يرثي لي المشفقان الأهل والولد
وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم ... وخانني المسعدان الصبر والجلد
لا غرو للدمع أن تجري غواربه ... وتحته المظلمان القلب والكبد
كأنما مهجتي شلو بمسبعه ... ينتابه الضاربان الذئب والأسد
لم يبق غير خفي الروح في جسدي ... فدى لك الباقيان الروح والجسد
وانتقد أهل الأدب قول هذا الشاعر في أول أبياته (يرثي لي المشفقان الأهل والولد) وقالوا: ان شفقة الأهل والولد, ليست أمرا عجيبا, فكان ينبغي أن يقول (يرثي لي المبغضان الضد والحسد) , كما قال الآخر:
يرثي له الشامت مما به ... يا ويح من يرثي له الشامت
وما أحسن قول الشريف ابن الهبارية في أول الصادح والباغم:
الحمد لله الذي حباني ... بالأصغرين القلب واللسان
وقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي من قصيدة:
إني منيت وما الأقدار واحدة ... بجائر طرفه أمضى من القدر
بواحد الحسن ثاني الريم في الحور ... وثالث النيرين الشمس والقمر
وبيت بديعية صفي الدين قوله:
أمي خط أبان الله معجزه ... بطاعة الماضيين السيف والقلم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
ومن عطاياه روض وشعته يد ... تغني عن الأجودين البحر والديم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ووشع العدل منه الروض فاتشحت ... بحلة الأمجدين العهد والذمم
وبيت بديعية الطبري قوله:
عمت مواهبه ما وشعت يده ... أثرى ذوي المتعبين الهم والألم
هذا البيت سكيت هذه الحلبة وبيت بديعيتي هو:
لقد تقمص بردا وشعته له ... فخرا يد الأعظمين البأس والكرم
وبيت بديعية المقري قوله:
لم يقر في كتب مقرى كتابته ... فوائد الزاخرين العلم والكرم
التكميل
تكميل قدرته بالحلم متصف ... مع المهابة في بشر وفي أضم
التكميل عبارة عن أن يأتي المتكلم بمعنى تام في فن من الفنون, فيرى الاقتصار عليه ناقصا فيكمله بمعنى آخر في غير ذلك الفصل الذي أتى به أولا, كمن مدح إنسانا بالحلم فيرى الاقتصار عليه بدون مدحه بالبأس ناقصا فيكمله بذكره.
كقول كعب بن سعد الغنوي:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
فان المدح بالحلم تم في المصراع الأول, ولكن أراد تكميله بالهيبة, فانه إذا لم يعرف منه إلا الحلم لم يهبه العدو, فقال (مع الحلم في عين العدو مهيب) . وتكلف من جعله احتراسا. نعم قوله: إذا ما الحلم زين أهله, احتراس.
وقول الفرزدق:
لعن الإله بني كليب أنهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار
وقد تقدم بيان التكميل فيه في باب الطباق. واعلم أن أكثر علماء المعاني جعلوا التكميل والاحتراس شيئا واحدا, والمحققون من المتأخرين وأصحاب البديعيات على أن كلا منهما نوع برأسه. فإن التكميل يرد على المعنى التام فيكمل أوصافه, والاحتراس يرد على المعنى الموهم خلاف المقصود, فيدفع ذلك الوهم, كما ستعرفه في بابه إنشاء الله تعالى.
ومن العجيب أن ابن حجة فرق بين الاحتراس والتكميل تبعا للصفي, ثم قال في البيت المذكور: قوله (إذا ما الحلم زين أهله) احتراس لولاه لكان المعنى في المدح مدخولا, إذ بعض التغاضي قد يكون عن عجز يوهم أنه حلم, فإن التجاوز لا يكون حلما محققا إلا عن قدرة, وهو الذي قصده الشاعر بقوله (إذا ما الحلم زين أهله) فإن الحلم ما يزين أهله إلا إذا كان عن قدرة, وهذا القدر غاية في باب التكميل. انتهى.
(1/396)
________________________________________
وهل هذا إلا تهافت؟ وقد أورد الصفي وابن حجة لنوع التكميل أمثلة هي بنوع الاحتراس أولى, منها قوله تعالى "فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين". قال الصفي وتبعه ابن حجة: انه لو اقتصر سبحانه على قوله (أذلة على المؤمنين) كان مدحا تاما بالرياضة والانقياد لإخوانهم, فوصفهم أيضاً بالعز والمنعة والغلب بقوله (أعزة على الكافرين) انتهى.
والحق أن قوله (أعزة على الكافرين) احتراس, لأنه لو اقتصر على قوله (أذلة على المؤمنين) لأوهم أن الذلة لضعفهم فدفعه بقوله (أعزة على الكافرين) تنبيها على أن ذلك تواضع منهم للمؤمنين, ولهذا عدى الذل (بعلى) لتضمنه معنى العطف. قال التفتازاني: ويجوز أن يقصد بالتعدية (بعلى) الدلالة على أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضين لهم أجنحتهم. انتهى.
ومنها قول السموأل:
وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
قال الصفي: فانه لما وصف قومه بأنهم لا يموتون موت الأذلاء والجبناء كمل مدحهم بأنهم مع ذلك لا يضيع لهم دم. انتهى.
والصحيح انه من الاحتراس أيضاً, فانه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم, لا وهم إن ذلك لضعفهم وقلتهم, فأزل الوهم بوصفهم بالانتصار.
قال ابن حجة ومن التكميل الحسن قول كثير عزة:
لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها
قال: فقوله (عند موفق) تكميل حسن, فانه لو قال: عند محكم لتم المعنى, لكن في قوله (عند موفق) زيادة تكميل بها حسن البيت, والسامع بجد لهذه اللفظة من الموقع في النفس ما ليس في الأولى, إذ ليس كل محكم موفق, فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله. انتهى.
واعترض بان الشاعر لم يقل: عند محكم حتى يكون قوله: موفق, تكميلا لذكر محكم لما تم المعنى بدونه فلا يكون من هذا النوع.
قال ابن حجة أيضاً: وقد غلط غالب المؤلفين في هذا الباب, وخلطوا التتميم بالتكميل, وساقوا في باب التتميم شواهد التكميل, فمن ذلك قول عوف الخزاعي:
إن الثمانين وبلِّغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
هذا البيت ساقوه من شواهد التتميم, وهو أبلغ شواهد التكميل, فإن معنى البيت تام بدون لفظة (وبلغتها) وإذا لم يكن المعنى ناقصا فكيف يسمى هذا تتميما؟ وإنما هو تكميل حسن. انتهى كلامه.
قلت: لئن غلط من خلط التتميم بالتكميل, فقد غلط ابن حجة فخلط التكميل بالاعتراض. والبيت المذكور أبلغ شواهد الاعتراض, وقد أنشده هو أيضاً شاهدا عليه. وليس كل زيادة جيء بها مع تمام المعنى تسمى تكميلا وإلا لم يبق بين الاعتراض والتكميل فرق. بل التكميل الزيادة التي جيء بها تكميلا للمعنى الأول الذي ذكره المتكلم, والاعتراض هو الزيادة التي جيء بها لنكتة ليس الغرض بها تكميل المعنى السابق. وكذلك قوله في البيت (وبلغتها) فإنها زيادة جاء بها الشاعر للدعاء لا لتكميل غرضه من الاعتذار الذي قصده. على ما يحكى: أن عوف بن محلم الخزاعي صاحب البيت سلم عليه عبد الله بن طاهر, فلم يسمع, فأعلم بذلك, فدنا منه وأنشده قصيدة منها البيت المذكور. وبذلك يتضح الفرق بين الاعتراض والتكميل والتتميم.
وأما الفرق بين التكميل والتتميم, فهو أن التتميم يرد على المعنى الناقص فيتم, والتكميل -كما علمت- يرد على المعنى التام فيكمله, إذ الكمال أمر زائد على التمام.
وأنشد ابن حجة ممثلا للتكميل قول الشيخ جمال الدين بن نباتة:
نفس عن الحب ما حادت ولا غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت
قال: معنى البيت تام بدون قوله (وقاك الله) ولكن التكميل بوقاك الله قبل قوله (قد قتلت) لا يصدر إلا من مثل الشيخ جمال الدين. انتهى.
وقد علمت أن هذا من باب الاعتراض لا التكميل. وأنشد أيضاً لنفسه أبياتا أكثرها من هذا القبيل.
ومن الشواهد الصحيحة للتكميل قول أبي تمام:
فتى عند خير الثواب وشره ... ومنه الإباء المر والكرم العذب
وقوله:
يتلو رضاه الغنى بأجمعه ... وتحذر الحادثات من غضبه
تزل عن عرضه العيوب وقد ... تنشب كف المغني في نشبه
وقول البحتري:
هل العيش إلا أن تساعفنا النوى ... بوصل سعاد أو يساعدنا الدهر
على أنها ما عندها لمواصل ... وصال ولا عنها لمصطبر صبر
(1/397)
________________________________________
فقوله (ولا عنها لمصطبر) من أحسن التكميل.
وبيت بديعية صفي الدين قوله:
نفس مؤيدة بالحق تعضدها ... عناية صدرت عن بارئ النسم
فقوله: تعضدها وما بعده تكميل.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
تمت محاسنه والله كمله ... فقدره في الورى في غاية العظم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
آدابه تممت لا نقص يدخلها ... والوجه تكميله في غاية العظم
وبيت بديعية الطبري قوله:
حاز المكارم تكميلا وفاز بما ... لم يؤت ذو شرف من خير مستلم
وبيت بديعيتي هو:
تكميل قدرته بالحلم متصف ... مع المهابة في بشر وفي أضم
فقولي (مع المهابة) تكميل. وقولي (في بشر وفي أضم) تكميل آخره. والأضم بالتحريك: الغضب.
وبيت بديعية المقري قوله:
نجب الرجال بحبل المصطفى اعتصموا ... من الشقاء ونالوا الفوز بالنعم
التكميل فيه قوله (ونالوا الفوز بالنعم) .
شجاعة الفصاحة
ساوت شجاعته فيهم فصاحته ... فردهم معجزا بالكلم والكلم
هذا النوع لم يذكره أحد من علماء البديع, ولا نظمه أحد من أصحاب البديعيات. وهو من مستخرجات الشيخ أبي الفتح عثمان بن جني.
قال: هو عبارة عن حذف شيء من لوازم الكلام وثوقا بمعرفة السامع به.
قال الشريف الرضي في كتاب المجازات: كان شيخنا أبو الفتح يسمي هذا الجنس شجاعة الفصاحة, لأن الفصيح لا يكاد يستعمله إلا وفصاحته جريئة الجنان غزيرة المواد.
ومثاله قوله تعالى "حتى توارت بالحجاب" أي الشمس ولم يجر لها ذكر. وقوله "ولو دخلت عليهم من أقطارها" أي المدينة, ولم يجر لها ذكر. وقوله "إذا بلغت التراقي" أي الروح, ولم يجر فها ذكر. وقوله "إننا أنزلناه في ليلة القدر" أي القرآن, ولم يجر له ذكر. وقول نبيه عليه السلام وقد تذاكر الناس عنده الطاعون وانتشاره في الأمصار والأرياف (أرجو أن لا يطلع علينا نقابها) والنقاب جمع نقب, وهو الطريق في الجبل, يريد نقاب المدينة ولم يجر لها ذكر. لكنه أقام علم المخاطبين بها مقام تصريحه بذكرها.
وقول حاتم الطائي:
لعمرك يا يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
يريد النفس وقول العباس بن عبد المطلب يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
أي في ظلال الجنة. أراد أنه كان طيبا في صلب آدم عليه السلام. وقوله: من قبلها, أي من قبل الأرض, ومثل ذلك في كلامهم كثير.
وأكثر الأمثلة المذكورة عند علماء المعاني من وضع المضمر موضع المظهر, إما لاشتهاره ووضوح أمره, أو لأن الذهن لا يلتفت إلى غيره, أو لغير ذلك من الاعتبارات. وليس من الحذف في شيء كما لا يخفى, لكن أبن جني مثل لهذا النوع بالحديث السابق, فكأنه لاحظ أن المتكلم حذف من الكلام مرجع الضمير لعلم السامع به.
إذا عرفت ذلك فالشاهد في بيت البديعية في قوله (ردهم) يريد العرب الذين لم يؤمنوا به, ولم يجر لهم ذكر, لكنه أقام معرفة السامع مقام التصريح بذكرهم والله أعلم.
التشبيه
ماضيه كالبرق والتشبيه متضح ... ينهل في أثره ما لاح صوب دم
التشبيه ركن من أركان البلاغة. قال أبو العباس المبرد: لو قال قائل: هو أكثر كلام العرب لم يبعد. ولهم في تعريفه عبارات, فعرفه جماعة: بأنه الدلالة على مشاركة أمر لأمر آخر في معنى.
وقال الزنجاني: هو الدلالة على اشتراك شيئين في وصف, هو من أوصاف الشيء في نفسه, كالشجاعة في الأسد, والنور في الشمس. وقال الطيبي: هو وصف الشيء بمشاركة الآخر في معنى.
وقال ابن أبي الأصبع: هو إخراج الأغمض إلى الأظهر.
وقال بعضهم: هو إلحاق شيء بذي وصف في وصفه.
وقال آخر: هو أن يثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن التشبيه مما اتفق العقلاء على شرف قدره, وفخامة أمره في فن البلاغة, وأنه إذا جاء في أعقاب المعاني أفادها جمالا, وزادها كمالا, وضاعف قواها في تحريك النفوس إلى المقصود بها على اختلاف فنونها, وإن أردت تحقيق ذلك, فانظر إلى.
قول البحتري:
دان على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب
كالبدر أفرط في العلو وضؤه ... للعصبة السارين جد قريب
وقول السري وفاء:
(1/398)
________________________________________
أصبحت أظهر شكرا عن صنايعه ... وأضمر الود فيه إضمار
كيانع النخل يبدي للعيون ضحى ... طلعا نضيدا ويخفي غض جمار
وقال ابن لنكك:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا ... رأيت صورته من أقبح الصور
وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفر منها إذا مالت إلى الضرر
وقول ابن الرومي:
بذل الوعد للأخاء سمحا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للعي ... ن ويأبى الاثمار كل الإباء
وقول أبي تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وقس حالك وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني, على حالك وأنت قد انتهيت إليه ووقفت عليه, تعلم بعد ما بين حالتيك في تمكن المعنى لديك. وشاهد بعد الفرق بين أن تقول: الدنيا لا تدوم وتقتصر على ذلك, وبين أن تذكر عقيبه ما روي عنه عليه السلام: من في الدنيا ضيف وما في يديه عارية والضيف مرتحل, والعارية مردودة.
أو تنشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا وديعة ... ولا بد يوما أن ترد الودائع
وبين أن تقول: أرى قوما لهم منظر وليس لهم مخبر وتسكت, وأن تتبعه.
وقول ابن لنكك:
في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وماله ثمر
وانظر في جميع ذلك في الحالة الثانية كيف يتزايد شرفه عليه في الحالة الأولى, وسببه أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي وتأتيها بصريح بعد مكني, وأن تردها فيما تعلمه إلى ما هي بشأنه أعلم ولهذا كان التمثيل بالمشاهد أوقع, ولمادة الشبه أقطع.
واعلم أن التشبيه يستدعي خمسة أشياء: أحدها: الطرفين, أعني المشبه والمشبه به ليحصل التشبيه, لأنه من الأمور النسبية المفتقرة إلى المنتسبين.
الثاني: الوجه المشترك, ليجمع الطرفين.
الثالث: الغرض, ليصح العدول إليه من أصل المعنى, فلا يعد عيبا.
الرابع: الأحوال, ليحسن التشبيه برعاية مقبولها, والاحتراز عن مردودها.
الخامس: الأداة, لتوصل أحد الطرفين بالآخر لفظا, كما يوصله الوجه معنى, ولنبين ذلك في خمسة فصول.
الفصل الأول في الطرفين وهما إما حسيان كما في تشبيه الخد بالورد, والقد بالغصن, والفيل بالجبل في المبصرات, والصوت الضعيف بالهمس, وأطيط الرجل بأصوات الفراريج في المسموعات, والنكهة بالعنبر والمسك في المشمومات, والريق بالعسل والخمر في المذوقات, والجلد الناعم بالحرير, والخشن بالمسح في الملموسات. وإما عقليا, كتشبيه العلم بالحياة, والجهل بالموت.
وإلى هذا أشار الشاعر بقوله:
أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم
وقال آخر:
رب حي كميت ليس فيه ... أمل يرتجى لنفع وضر
وعظام تحت التراب وفوق الأ ... رض منها آثار حمد وشكر
وإما مختلفان بأن يكون المشبه عقليا, والمشبه به حسيا, أو بالعكس, فالأول كتشبيه المنية بالسبع, فإن المنية وهو الموت, عقلي, لأنه عدم الحياة عما من شأنه الحياة والسبع حسي.
والثاني كما في تشبيه العطر بخلق كريم, فإن العطر -وهو الطيب- محسوس بالشم, والخلق وهو كيفية نفسانية تصدر عنها الأفعال بسهولة, عقلي.
قال الزنجاني في المعيار: وهذا القسم -أعني تشبيه المحسوس بالمعقول- غير جائر, لأن العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية إليها, ولذلك قيل: من فقد حسا فقد علما. وإذا كان المحسوس أصلا للمعقول, فتشبيهه به يكون جعلا للفرع أصلا, والأصل فرعا, وهو غير جائز. ولذلك لو حاول محاول المبالغة في وصف الشمس في الظهور, والمسك في الطيب, فقال: الشمس كالحجة في الظهور, والمسك كخلق فلان في الطيب, كان سخيفا من القول. وأما ما جاء في الأشعار من تشبيه المحسوس بالمعقول, فوجهه أن يقدر المعقول محسوسا, فيجعل كالأصل في ذلك المحسوس على طريق المبالغة, فيصح التشبيه حينئذ. انتهى.
واعلم أن المراد بالحسي المدرك -هو أو مادته- بإحدى الحواس الخمس الظاهرة, وهي البصر, والسمع, والشم, والذوق؛ واللمس. فدخل فيه الخيالي, وهو الذي فرض مجتمعا من أمور كل واحد منها مدرك بالحس.
كما في قوله:
(1/399)
________________________________________
كأن محمر الشقيق ... إذا تصوب أو تصعد
أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد
فان الأعلام الياقوتية المنشورة على الرماح الزبرجدية مما لم يدركه الحس, لأن الحس إنما يدرك ما هو موجود في المادة, حاضر عند المدرك, على هيئات محسوسة مخصوصة به لكن مادته التي تركب هو منها كالأعلام والياقوت والرماح والزبرجد, كل واحد منها محسوس بالبصر.
والمراد بالعقلي, ما لا يكون -هو ولا مادته- مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة. فدخل فيه الوهمي, أي ما هو غير مدرك بها, ولكنه بحيث لو أدرك لكان مدركا بها.
كما في امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فان الأنياب الأغوال مما لا يدركه الحس لعدم تحققها, مع أنها لو أدركت لم تدرك إلا بحس البصر. وعليه قولع تعالى "طلعها كأنه رؤوس الشياطين". ودخل فيه أيضاً ما يدرك بالوجدان كالشبع والجوع واللذة والألم الحسيين.
الفصل الثاني في الوجه أعني وجه التشبيه, وهو المعنى الذي قصد اشتراك الطرفين فيه تحقيقا كالشجاعة في الأسد, إذا قلت: زيد كالأسد, أو تخيلا, والمراد به أن لا يوجد ذلك في أحد الطرفين أو كلاهما إلا على سبيل التخييل, والتأويل.
كقول القاضي التنوحي:
وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع
فان وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم أسود, فهي غير موجودة في المشبه به إلا على سبيل التخييل, وذلك أنه لما كانت البدعة وكل ما هو جهل تجعل صاحبها كمن يمشي في الظلمة, فلا يهتدي الطريق, ولا يأمن أن ينال مكروها شبهت بها. ولزم بطريق العكس إذا أريد التشبيه أن تشبه السنة وكل ما هو علم بالنور, وشاع ذلك حتى تخيل أن الثاني مما له بياض وإشراق, نحو: أيتتكم بالحنيفية البيضاء, والأول مما له سواد وظلمة, كقولك: شاهدت سواد الكفر من ناصية فلان, فصار تشبيه النجوم بين دجاها, بسنن بين الابتداع كتشبيهها ببياض الشيب في سواد الشباب. فظهر اشتراك النجوم بين الدجى والسنن بين الابتداع, في كون كل منهما شيئا ذا بياض بين شيء ذي سواد على طريق التأويل, وهو تخييل ما ليس يتلون, متلونا. وعلم أن قوله (لاح بينهم ابتداع) على سبيل القلب, والمعنى: سنن لاحت بين الابتداع. قيل: وكانت النكتة بيان كثرة السنن, حتى كأن البدعة هي التي تلمع من بينها.
ومن التشبه التخييلي قول أبي طالب الرقي:
لقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق
فإنه لما كانت أيام المكاره توصف بالسواد توسعا فيقال: من لم يعشق في عيني, وأظلمت الدنيا علي, وكان الغزل يدعي القسوة على من لم يعشق, والقلب القاسي يوصف بالسواد توسعا. تخيل يوم النوى, وفؤاد من لم يعشق شيئين لهما سواد, وجعلهما أعرف به وأشهر من الظلام فشبهه بهما.
ومثله قول الآخر:
رب ليل كأنه أملي في ... ك وقد رحت منك بالحرمان
وقول أبي العلاء المعري:
خبرني ماذا كرهت من الشي ... ب فلا علم لي بذنب المشيب
أضياء النهار أم وضح اللؤ ... لؤ أم كونه كثغر ******
واذكري لي فضل الشباب وما ... يجمع من منظر يروق وطيب
غدره بالخليل أم حبه لل ... غي أم أنه كدهر الأديب
وقول الشيخ محمد باقشير المكي يصف سوداء:
زنجية من بنات الزنج تحسبها ... حظي تجسم جثمانا من البشر
وقول ابن طباطبا:
زاهرات كأنها زمن الجا ... هل في حندس كدهر الأديب
ومنه قول القاضي التنوخي:
أما ترى البرد قد وافت عساكره ... وعسكر الحر كيف انصاع منطلقا
فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا
فانه لما كان يقال في الحق: أنه منير واضح فيستعار له صفة الأجسام المنيرة, وفي الظلم خلاف ذلك تخيلهما شيئين لهما إنارة وإظلام, فشبه النار والفحم بهما مجتمعين.
وقول ابن بابك:
وأرض كأخلاق الكرام قطعتها ... وقد كحل الليل السماك فأبصرا
فان الأخلاق لما كانت توصف بالسعة والضيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة والضيقة, تخيل أخلاق الكرام شيئا له سعة, وجعله أصلا فيها فشبه الأرض الواسعة بها.
ثم وجه التشبيه إما واحد حقيقة, أو حكماً, وإما متعدد.
(1/400)
________________________________________
فالأول وهو الواحد حقيقة, إما حسي وطرفاه حسيان كالحمرة, والخفاء وطيب الرائحة, والحلاوة, ولين الملمس؛ في تشبيه الخد بالورد, والصوت الضعيف بالهمس, والنكهة بالعنبر, والريق بالعسل, والجلد الناعم بالحرير, كما سبق. وإما عقلي وطرفاه حسيان, كمطلق حصول النجاة في تشبيه أهل البيت عليهم السلام بسفينة نوح عليه السلام في حديث أبي ذر, مثل (أهل بيتي مثل سفينة نوح, من ركبها نجا, ومن تخلف عنها هلك) .
ومطلق الاهتداء في قول الحماسي:
هينون لينون أيسار ذوو يسر ... سواس مكرمة أبناء أيسار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
شبههم بالنجوم في مطلق حصول الاهتداء. وأما عقلي وطرفاه عقليان كالعراء عن الفائدة في تشبيه الشيء العديم النفع بعدمه, وجهة الإدراك في تشبيه العلم بالحياة.
ومنه قول الأرجاني:
أخلاقه نكت في المجد أيسرها ... لطف يؤلف بين الماء والنار
وإما عقلي والمشبه عقلي, والمشبه محسوس, كالهداية في تشبيه العلم بالنور, وتحصيل الزيادة والنقصان في تشبيه العدل بالقسطاس.
ومنه قول أبي الفراس:
كأن ثباته للقلب قلب ... وهيبته جناح للجناح
وإما عقلي والمشبه حسي, والمشبه به عقلي, كاستطابة النفس في تشبيه العطر بخلق كريم.
ومنه قول الصاحب بن عباد وقد أهدى إلى القاضي أبي الحسين عطرا:
يا أيها القاضي الذي نفسي له ... مع قرب عهد لقائه مشتاقه
أهديت عطرا مثل طيب ثنائه ... فكأننا أهدي له أخلاقه
وقول ابن المعتز:
معتقة صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل در ما لمنظومها سلك
وقد خفيت من لطفها فكأنها ... بقايا يقين كاد يذهبها الشك
تنبيه: اعلم أن الوجه الحسي يرجع إلى العقلي لأنه مشترك بين الطرفين, والمشترك كلي, فوجه الشبه كلي والكلي لا يدرك بالحس بل بالعقل, فوجه الشبه لا يكون محسوسا البتة, وإنما سمي في نحو تشبيه الخد بالورد حسيا لأنه منتزع من أمرين محسوسين, وفي التسمية تسامح, وقول صاحب الإيضاح: إن المراد بكون وجه حسيا, كون أفراده مدركة بالحس لا يدفع التسامح.
الثاني وهو كون وجه الشبه واحدا حكما, والمراد به أن يكون غير واحد, لكنه بمنزلة الواحد لكونه مركبا من أمرين أو أمور, بمعنى أن يقصد إلى عدة أشياء مختلفة أو عدة أوصاف لشيء واحد, فتنتزع منها هيئة تجعل وجه تشبيه, وهو إما حسي.
كقول أبي بركات:
ترى أنجم الجوزاء والنجم فوقها ... كباسط كفيه ليقطف عنقودا
شبه الهيئة الحاصلة من النجوم المجتمعة على هيئة الباسط كفه لقبض نجوم كهيئة العنقود. فوجه الشبه وهو الهيئة المخصوصة منتزع في المشبه من هيئة الجوزاء, وهيئة النجوم التي هي يدها, وهيئة الثريا, وكونها فوق الجوزاء قريبة من يدها. وفي المشبه به من هيئة القاطف وبسط يده, وهيئة العنقود. وكونه القاطف قريبا من يده. فهو أمر منتزع من عدة أمور.
وقول الآخر:
كأن شعاع الشمس في كل غدوة ... على ورق الأشجار أول طالع
دنانير في كف الأشل يضمها ... لقبض فتهوى من فروج الأصابع
شبه الهيئة الحاصلة من شعاع الشمس في أول طلوعها عند هبوب النسيم الذي قلما يفقد في الغدوات, لأنها حينئذ تثقب بإشراقها الكوى والفرج, بخلاف ما إذا أخذت في الاستواء على ورق الأشجار المضطربة بسبب تموج الهواء, بالهيئة الحاصلة من الدنانير المجلوة في كف الأشل, حين يهم بالقبض عليها, فتمنعه حركته الغير الإرادية, فتهوي الدنانير من فروج الأصابع متناثرة على غير نظام. فوجه الشبه -وهو أصول أشياء مستديرة لها صفرة ولمعان, تتناثر لا على نظام عقيب حركة مضطربة, هيئة مدركة بالحس- من عدة أمور كما ترى.
وقول الآخر, وهو من بديع هذا النوع:
كانت سراج أناس يهتدون بها ... في سالف الدهر قبل النار والنور
تهتز في الكف من ضعف ومن هرم ... كأنها قبس في كف مقرور
شبه الهيئة الحاصلة من حركة الخمر وانعدامها, ومنع الكأس إياها عنه من شروق أشعتها, بالهيئة الحاصلة من حركة النار الضعيفة في كف من أصابه البرد الشديد, وهو يريد أن يصونها من الإطفاء. ويحتمل أن يؤخذ مجرد الحركة فيهما مع الإشراق, فلا يكون فيه دقة.
ومنه قول الوزير المهلبي:
(1/401)
________________________________________
والشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب
كأنها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب
شبه الهيئة الحاصلة من استدارة الشمس مع الإشراق, والحركة السريعة المتصلة, وما يحصل في الإشراق بسبب تلك الحركة من التموج والاضطراب, حتى يرى الشعاع كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة, ثم يبدو له فيرجع من الانبساط إلى الانقباض, كأنه يجمع من الجوانب إلى الوسط, بالهيئة الحاصلة من البوتقة إذا حميت, وذاب فيها الذهب, وتشكل بشكلها في الاستدارة, وأخذ يتحرك فيها بجملته تلك الحركة العجيبة, كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها, لما في طبعه من النوم, ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض, لما بين أجزائه من شدة الاتصال والتلاحق. ولذلك لا يقع فيه غليان على الضفة التي تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء.
ومن لطيف هذا النوع قول سعيد بن حميد:
حفت بسرو كالقيان تحلفت ... خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنها والريح جاء يميلها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل
فان فيه تفصيلا دقيقا, وذلك انه راعى حركة التهيؤ للدنو والعناق, وحركة الرجوع إلى أصل الافتراق. وأدى ما يكون في الحركة الثانية من سرعة زائدة تأدية لطيفة, لأن حركة الشجرة المعتدلة في حال رجوعها إلى اعتدالها أسرع لا محالة من حركة من يهم بالدنو, لأن إزعاج الخوف أقوى أبدا من إزعاج الرجاء.
وما أحسن قول الجدلي:
لدى اقحوانات حففن بناصع ... من الورد مخضل الغصون نضيد
تميلها أيدي الصبا فكأنها ... ثغور هوت شوقا لعض خدود
وإما عقلي كما في قوله تعالى "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها" أي لم يعملوا بها "كمثل الحمار يحمل أسفارا" فإن وجه الشبه وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه, أمر عقلي منتزع من عدة أمور, لأنه روعي من الحمار فعل مخصوص هو الحمل, وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا وهو الأسفار التي هي أوعية العلوم, وإن الحمار جاهل بما فيها, وكذا في جانب المشبه.
تنبيه: -قد يقع بعد أداة التشبيه أمور يظن أن المقصود أمر منتزع من بعضها, فيقع الخطأ لكونه أمرا منتزعا من جميعها.
كقوله:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت
فانه ربما يظن أن الشطر الأول منه تشبيه مستقل بنفسه لا حاجة إليه ولكن التأمل بظهر أن غرض الشاعر في تشبيهه أن يثبت ابتداء مطمعا متصلا بانتهاء مؤيس, وذلك يتوقف على البيت كله.
فان قيل: هذا يقتضي أن يكون بعض التشبيهات المجتمعة كقولنا: زيد يصفو ويكدر, تشبيها واحدا, لأن الاقتصار على أحد الخبرين يبطل الغرض من الكلام, لأن الغرض منه وصف المخبر عنه بأنه يجمع بين الصفتين, وإن إحداهما لا تدوم.
قلت: الفرق بينهما أن الغرض في البيت أن يثبت ابتداء مطمعا متصلا بانتهاء مؤيس كما مر, وكون الشيء ابتداء الآخر زائد على الجمع بينهما, وليس في قولنا: يصفو ويكدر, أكثر من الجمع بين الصفتين, ونظير البيت قولنا: يصفو ثم يكدر, لإفادة ثم, الترتيب المقتضي ربط الوضعين بالآخر.
وقد ظهر بما ذكرنا أن التشبيهات المجتمعة تفارق التشبيه المركب في مثل ما ذكرنا بأمرين: أحدهما لا يجب فيها ترتيب, والثاني: إنه إذا حذف بعضها لا يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيد قبل الحذف, فإذا قلنا: زيد كالأسد بأسا, والبحر جودا, والسيف مضاء, لا يجب لهذه التشبيهات نسق مخصوص, بل لو قدم التشبيه بالسيف جاز, ولو أسقط واحد من الثلاثة لم يتغير حال غيره في إفادة معناه. قاله الخطيب في الإيضاح.
الثالث -وهو أن يكون وجه الشبه أمورا متعددة, إما حسي كلها كاللون والطعم والرائحة في تشبيه فاكهة بأخرى.
ومنه قول المطراني:
مهفهفة لها نصف قضيب ... كخوط البان في نصف رداح
حكت لونا ولينا واعتدالا ... ولحظا قاتلا سمر الرماح
وإما عقلي كله, كحدة النظر, وكمال الحذر, وإخفاء السفاد في تشبيه طائر بالغراب.
ومنه قول المعري:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
وإنما جعلناه في هذا النوع ولم نجعله من الواحد حكما, لأن كلا من الأمرين العقليين المذكورين يستقل وجها للشبه.
(1/402)
________________________________________
وإما مركب منهما, كحسن الطلعة, ونباهة الشأن في تشبيه إنسان بالشمس.
ومنه قول ابن الفارض:
لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
شبه الكأس بالبدر في الاستدارة, وهي حسية, وفي اقتباس النور واستفادة التسمية عند الكمال, وهما عقليان, وشبه المدامة بالشمس في الإشراق؛ وهو حسي؛ وفي إفاضة النور, وهو عقلي, وشبه الساقي بالهلال في سرعة الدوران, وهو حسي؛ وفي استجلاب النواظر, وهو عقلي, وشبه الحبب بالنجم في الهيئة المخصوصة من الاستعارة, والبياض والمقدار المخصوص, وذلك أمر محسوسن وفي أنه يحدث بواسطة المزج بالماء الكاسر سورتها, كما أن ضوء النجم إنما يبدو إذا حجب سلطان الشمس, وهذا الوجه العقلي.
تنبيهات الأول: الوجه الحسي لا يكون طرفاه -أعني المشبه والمشبه به- إلا حسيين, سواه كان بتمامه حسيا أو متعددا مختلفا, لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسي شيء. والعقلي أعم, فيجوز أن يكون طرفاه حسيين, وإن يكون عقليين, وأن يكون أحدهما حسيا والآخر عقليا, لجواز أن يدرك بالعقل من الحسي شيء, إذ لا امتناع في قيام المعقول بالمحسوس, بل كل محسوس, فلها أوصاف بعضها حسي وبعضها عقلي, ولذلك يقال: التشبيه بالوجه الحسي بمعنى أن كلما يصح فيه التشبيه أن يكون بالوجه الحسي يصح بالوجه العقلي دون العكس.
الثاني: من حق وجه التشبيه أن يكون شاملا للطرفين, كما إذا جعل وجه الشبه في قولهم: النحو في الكلام كالملح في الطعام, كون استعمالها مصلحا, وإهمالها مفسدا, دون كون القليل مصلحا, والكثير مفسدا, لأن النحو لا يحتمل القلة والكثرة بخلاف الملح.
ومما يتصل بهذا, ما حكي أن ابن شرف القيرواني أنشد ابن رشيق قوله:
غير جني وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم
وقال له: هل سمعت بهذا المعنى؟ فقال ابن رشيق: نعم سمعته, وأخذته أنت وأفسدته.
أما الأخذ فمن النابغة الذبياني حيث يقول:
لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوي غيره وهو رائع
وأما الإفساد, فلأن سبابة المتندم أول شيء يتألم منه, فلا يكون المعاقب غير الجاني, وهذا بخلاف بين النابغة, فإن المكوي يتألم وما به عر وصاحب العر لا يتألم جملة.
الثالث: قد يعتبر في القسم الثاني من أقسام وجه التشبيه -وهو المتعدد حقيقة- الواحد حكما مجرد الهيئة الحاصلة وقت التشبيه دون سائر الأوصاف, من اللون والشكل وغيرهما.
كما في قول ابن المعتز:
وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقا مرة وانفتاحا
فانه يشبه حركة البرق بحركة المصحف حين يتم القاري قراءة صفحته فيضم دفتي المصحف ليفتح من الورقة الأخرى, ولم ينظر فيه إلى شيء من أوصاف المشبه والمشبه به, سوى الهيئة الحاصلة من حركة انبساطية عقيب حركة انقباضية.
كما اعتبر مجرد الصفة دون المقدار أيضاً في قوله:
والليل كالحلة السوداء لاح به ... من الصباح طراز غير مرقوم
شبه الليل بالحلة, والصباح بطراز الثوب, ووجه الشبه ظهور شيء أبيض مستطيل خلال سواد شامل, من غير نظر إلى مقدار السواد والبياض, فإن تفاوت المقدار بين الليل والحلة والصبح والطراز شديد. ومنه قوله تعالى "والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم" فانه شبه الهلال في هيئة نحوله وتقوسه بالعرجون لا في المقدار, لان في مقدار الهلال عظما في الحقيقة, والعرجون في مرأى النظر أعظم منه.
ومن هذا الباب قوله تعالى "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب" من وجه, فإن تشبيه عيسى بآدم عليهما السلام في كونهما وجدا بغير أب, من غير نظر إلى أن آدم عليه السلام وجد بغير أم أيضاً بخلاف عيسى عليه السلام. وهذا القدر من المخالفة لا يمنع من إيراد التشبيه. فإن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف.
الرابع: قد يتسامح في وجه, فيسمى ملزوم الوجه وجها, تسهيلا للتناولن كما في تشبيه فصيح الكلام بالعسل في الحلاوة, وبالماء في السلاسة وبالنسيم في الرقة, وتشبيه الحجة البينة التأليف بالشمس في الظهور. فإن الوجه فيها ميل الطبع اللازم للسلاسة, والرقة, وإزالة الحجاب اللازم للظهور, فأقيمت الملزومات مقام اللوازم.
الفصل الثالث في الغرض
(1/403)
________________________________________
وهو ما يقصده المتكلم من إيراد التشبيه, وهو يعود في الأغلب إلى التشبيه, وقد يعود إلى المشبه به. فالأول على وجوه: أحدها, بيان حاله, كما في تشبيه ثوب بثوب آخر في السواد, إذا علم لون المشبه به دون المشبه. وهذا الوجه يقتضي كون المشبه أعرف بوجه الشبه.
الثاني: بيان مقدار حاله في القوة والضعف, والزيادة والنقصان.
كما إذا شبهت أسود بخافية الغراب, قال:
مداد مثل خافية الغراب ... وأقلام كمرهفة الحراب
وعليه قول الآخر:
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
أي بلغت في بوار سعيي في الوصول إليها, وأن أمنع عنها, أقصى الغايات, حتى لم أحظ بما قل ولا كثر, وهذا الوجه يقتضي كون المشبه به أخص من المشبه بوجه الشبه, مساويا له في المقدار حقيقة أو ادعاء.
الثالث: بيان وجوده, كما إذا شبه معقول في الذهن بأحد أفراده في الخارج, دلالة على وجوده, نحو الكلمة, كزيد, ويسمى مثلا.
الرابع: بيان إمكان وجوده, وذلك عند ادعاء ما لا يكون إمكانه بينا, فيمكن أن يخالف فيه ويدعى امتناعه, فيؤتى بالتشبيه لبيان إمكانه.
كقول ابن الرومي:
كم من أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان
وقول أبي الطيب:
فإن نفق الأنام وأنت منهم ... فان المسك بعض دم الغزال
فانه أراد أن يقول: إن الممدوح قد فاق الناس, بحيث لم يبق بينهم وبينه مشابهة, بل صار أصلا برأسه, وجنسا بنفسه. وهذا في الظاهر كالممتنع, لاستبعاد أن يتناهى بعض آحاد النوع في الفضائل الخاصة بذلك النوع, إلى أن يصير كأنه ليس منها, فاحتج لهذه الدعوى وبين إمكانها, بان شبه حاله بحال المسك الذي هو من الدماء, ثم أنه لا يعد من الدماء, لما فيه من الأوصاف الشريفة التي لا توجد في الدم.
فان قلت: أين التشبيه في هذا البيت؟.
قلت: يدل البيت عليه ضمنا, لأن المعنى: إن نفق الأنام مع أنك واحد منهم, فلا استبعاد في ذلك, لأن المسك بعض دم الغزال وقد فاته حتى لا يعد منه, فحالك شبيه بحال المسك. وليسم مثل هذا تشبيها ضمنيا, أو تشبيها مكنيا عنه. قاله التفتازاني في شرح التلخيص. وهذا الوجه كالذي قبله يقتضي كون المشبه به مسلم الحكم, فيكون أعرف به لا محالة.
الخامس: تقدير حاله عند السامع, وتقوية شأنه, كما إذا شبهت من لا يحصل من سعيه على طائل, بمن يرقم على الماء, فانك تجد فيه من تقرير عدم الفائدة, وتقوية شأنه ما لا تجد في غيره, وما ذلك إلا لان إلف النفس بالحسيات أتم من إلفها بالعقليات, لتقدم الحسيات على العقليات بالزمان.
ألا ترى انك إذا أردت الإشارة إلى تنافي شيئين فأشرت إلى ماء ونار, وقلت: هذا وذاك هل يجتمعان؟ كان تأثير ذلك زائدا على قولك: هل يجتمع الماء والنار؟ وكذلك لو قلت في وصف طول يوم: يوم كأطول ما يتوهم, أو كأنه لا آخر له.
أو أنشدت قول الشاعر:
في ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما ليله بالليل موصول
لم يجد فيه السامع من الأنس ما يجده في قول الآخر:
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطكاك المزاهر
وما ذاك إلا للتشبيه المحسوس, وإلا فالأول أبلغ, لأن طول الرمح متناه, وفي الأول حكمت بان الليل موصول. وكذلك إذا قلت في قصر اليوم: يوم أقصر ما يكون, وكأنه ساعة أو لمحة بصر.
لم تجد فيه ما تجده في قول القائل:
ظللنا عند دار أبي أنيس ... بيوم مثل سالفه الذباب
وقوله:
ويوم كإبهام القطاة مزين ... إلي صباه غالب لي باطله
وهذا الوجه يقتضي كون وجه الشبه في المشبه به أتم, وهو به أشهر.
السادس: تقرير تحقيقه كيلا يستبعد وقوعه كقوله تعالى "وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة" قرر ما لم تجربه العادة من نتق الجبل فوق رؤوسهم, بالتشبيه بما جرت به العادة من الظلة المحسوسة, وهي كل ما أظلك, وهذا الوجه يقتضي كون وجه الشبه في المشبه به أشهر.
والفرق بينه وبين قول المتنبي (وإن تفق الأنام) البيت, إن ذاك مستبعد عقلا, وهذا لا يستبعده العقل أصلا, لجزمه بان مثله سهل على الله جلت قدرته, لكنه خارق للعادة, وللنفس بالعادة إلف عظيم, فشبه بما هو معتاد.
السابع: إظهار التزيين للترغيب فيه, كما في تشبيه وجه أسود بمقلة الظبي.
(1/404)
________________________________________
وعليه قول القائل:
رب سواد وهي بيضاء معنى ... يحسد المسك عندها الكافور
مثل حب العيون تحسبه النا ... س سوادا وإنما ونور
الثامن: إظهار التشويه للتنفير عنه, كما في تشبيه وجه مجدور بسلحة جامدة قد نقرتها الديكة, وهذا الوجه والذي قبله يقتضيان كون الاستحسان والاستقباح, في المشبه به أتم. قال بعضهم: والتشبيه في طرفي الترغيب والتنفير أبلغ من سائر الصفات.
كقول البحتري في الورد:
أما ترى الورد يحكي خجله ظهرت ... في صحن خد من المعشوق منعوت
كأنه فوق ساق من زبرجدة ... نثر من التبر في محمر ياقوت
حيث شبهه بصورة خد المعشوق, ومثله بالتبر والياقوت والزبرجد وبضده فعل ابن الرومي لا شكر سعيه فيه حيث قال:
وقائل لم هجوت الورد مقتبلا ... فقلت من شؤمه عندي ومن سخطه
كأنه سرم بغل حين أخرجه ... عند البراز وباقي الروث في وسطه
التاسع: قصد استطرافه, وذلك أن يكون المشبه به أمرا غريبا نادر الحضور في الذهن مطلقا, فيكتسي المشبه غرابة منه, فيستطرف كما في تشبيه فحم فيه جمر متوقد, ببحر من المسك موجه الذهب لإبرازه في صورة الممتنع عادة.
وقط نظمت ذلك فقلت:
انظر إلى الفحم فيه الجمر متقد ... كأنه بحر مسك موجه الذهب
أو يكون نادر الحضور عند ذكر المشبه, كما في قول ابن المعتز في البنفسج:
ولازوردية تزهو برزقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت
فان صورة اتصال النار بأطراف الكبريت لا يندر حضورها في الذهن ندرة حضور بحر من المسك موجه الذهب, وإنما النادر حضورها عند حضور البنفسج, فإذا حضر مع صحة الشبه استطرف لمشاهدة عناق بين صورتين لا تتراءى ناراهما.
ووجه آخر: وهو أنه أثبت التماثل بين أوراق رطبة غضة ناضرة يجري فيها ماء الحسن, وجسم ذابل يابس استولى عليه لهب النار, مع أنهما لا يتعانقان في خيال أبدا, ولذلك بلغ من الاستطراف حدا يتنافس فيه.
يحكى أن جريرا قال لما أنشد عدي بن الرقاع قوله:
عرف الديار توهما فاعتادها ... من بعد ما لبس أبلادها
إلى قوله: (تزجي أغن كان إبرة روقه) رحمته, وقلت: قد وقع, ما عساه أن يقول وهو أعرابي جلف جاف.
فلما قال: (قلم أصاب من الدواة مدادها) استحالت الرحمة حسدا وما كنت رحمته أولاً, وحسده ثانياً, إلا لأنه رآه حين افتتح التشبيه بذكر ما لا يحضر له في بدء الفكر شبه, وهو أعرابي جلف ليس ممن يتعمق في الفكر, ويمعن النظر, حتى يفوز بما هو مناسب, رحمه, وحين رآه ظفر بأقرب صفة لا يجتمع معه في أبدى ذهن حسده.
ومن النادر الحضور, لتباعد الطرفين وندرة اجتماع أحدهما مع الآخر ما يحكى أن أبا تمام لما انتهى في قصيدته البائية إلى قوله:
يرى أقبح الأشياء خيبة آمل ... كسته يد المأمول حلة خائب
وأحسن من نور تفتحه الصبا ... .............................
وقف يردده ويطلب مشبها به, فإذا سائل بالباب يقول: من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا, فقال (بياض العطايا في سواد المطالب) .
والثاني, وهو كون الغرض عائدا إلى مشبه به على نوعين.
أحدهما: إيهام أن المشبه به أتم في وجه التشبيه للمبالغة, لان المشابه حقه أن يكون أعرف بوجه التشبيه وأقوى, فإذا عكس كان مبالغة.
كقول محمد بن وهيب:
وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح
فانه قصد إيهام أن وجه الخليفة أتم من الصباح في الوضوح والإنارة, وفي قوله: حين يمتدح, دلالة على إنصاف الممدوح بمعرفة حق المادح, وتعظيم شأنه عند الحاضرين بالإصغاء إليه والارتياح له, وعلى كونه كاملا في الكرم, يتصف بالبشر والطلاقة عند استماع المديح.
ويسمى هذا النوع: التشبيه المقلوب, وقد يسمى بالطرد والعكس, لأن عود الفائدة إلى ما هو مشبه حقيقة مطرد وإن عكس التشبيه. وتقرير ذلك أن الغرض العائد إلى المشبه لا يتفاوت إذا كان منعكسا إلا في بيان المبالغة, لأنك إذا قلت: الأسد كزيد, كان الغرض يعود إلى وصف زيد, لكن أبلغ من الأول, ففي كلا الحالتين الغرض عائد إلى المشبه, ومطرد في حقه.
(1/405)
________________________________________
ومنه قوله تعالى حكاية عن مستحلي الربا "إنما البيع مثل الربا" فإن مقتضى الظاهر هو أن يقال: إنما الربا مثل البيع, لان الكلام في الربا لا في البيع, فخالفوا بجعلهم الربا في الحل أقوى من البيع وأعرف به.
الثاني: بيان الاهتمام بالمشبه به, كتشبيه الجائع وجها كالبدر في الإشراق والاستدارة, بالرغيف, إظهارا للاهتمام بشأن الرغيف لا غير, وهذا يسمى: إظهار المطلوب, ولا يحسن المصير إليه إلا في مقام الطمع في تسني المطلوب.
كما يحكى عن الصاحب بن عباد, أن قاضي سجستان دخل عليه فوجده الصاحب متفننا فأخذ يمدحه, حتى قال (وعالم يعرف بالسجزي) وأشار إلى الندماء أن ينظموا على أسلوبه, ففعلوا واحدا بعد واحد, إلى أن انتهت النوبة إلى شريف في البين فقال (أشهى إلى النفس من الخبز) فأمر الصاحب أن تقدم له مائدة.
هذا كله -أعنى ما ذكرناه- من جعل أحد الشيئين مشبها, والآخر مشبها به, إنما يكون إذا أريد إلحاق الناقص بالزائد حقيقة أو دعاء. فإن أريد الجمع بين شيئين في أمر من الأمور من غير قصد إلى كون أحدهما زائدا والآخر ناقصا, سواء وجدت الزيادة والنقصان أو لم توجد, فالأحسن ترك التشبيه إلى الحكم بالتشابه, ليكون كل واحد من الشيئين مشبها ومشبها به, احترازا من ترجيح المتشابهين في وجه الشبه.
كقول ابن نباتة السعدي:
فو الله ما أدري أتلك مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر
إذا صبها جنح الظلام وعبها ... رأيت رداء الشمس يطوى وينشر
وقول الصاحب:
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وقول أبي إسحاق الصابي:
جرت الدموع دما وكأسي في يدي ... شوقا إلى من لج في هجراني
فتخالف الفعلان شارب قهوة ... يبكي دما وتشابه اللونان
فكأن ما في الجفن من كأسي جرى ... وكأن ما في الكأس من أجفاني
ويجوز التشبيه أيضاً كتشبيه غرة الفرس بالصبح, والصبح بغرة الفرس, متى أريد إظهار منير في مظلم أكثر منه, وتشبيه الشمس بالمرآة المجلوة, والدينار الخارج من السكة, وبالعكس, متى أريد استدارة متلالي متضمن لخصوص من اللون, وإن عظم التفاوت بين بياض الصبح وبياض الغرة, ولون المرآة والدينار, وبين الجرمين, فانه ليس شيء من ذلك بمنظور إليه في التشبيه.
الفصل الرابع في الأحوال وهي كيفيات يحصل بها حسن التشبيه وقبحه, وقبوله ورده. أما أحوال الحسن فعلى وجوه: أحدها: أن يكون سليما من الابتذال لا تستعمله العامة. كقولهم في السواد كالفحم, وفي البياض كالثلج, لان تجدد صورة عند النفس أحب من مشاهدة معاد, ألا ترى أن الثمرة البالغة حد الكمال في النضج لا يرغب فيها رغبة الباكورة, والبدر التام لا يلتفت إليه التفات الهلال, والشمس في الشتاء أعز منها في الصيف, ولا يتجشم للأهل والأقارب ما يتجشم للضيف.
الثاني: أن يكون أدراك وجه الشبه فيه مرتفعا عن أذهان العامة, كقول فاطمة الأنمارية في بنيها الكملة, وهم, ربيع الكامل, وعمارة الوهاب, وقيس الحفاظ, وأنس الفوارس أولا زياد العبسي -وقد سئلت أيهم أفضل- فقالت: عمارة؛ لا؛ بل أنس؛ لا؛ ثم قالت: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل؛ وهم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها؛ أي هم متناسبون في الفضل, يمتنع تعيين بعضهم فاضلا, وبعضهم أفضل منه. كما أن الحلقة المفرغة متناسبة الأجزاء في الصورة؛ يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا؛ لكونها مفرغة مصمتة الجوانب. فوجه الشبه في هذا التشبيه (وهو التناسب) لا يدركه إلا الخاصة الذين ارفعوا عن طبقة العامة.
الثالث: أن يكون التشبيه بعيدا غريبا لا يدرك في بدء الفكر. أما لندور حضور المشبه به عند حضور المشبه كما مر من تشبيه البنفسج بنار الكبريت, أو مطلقا لكونه وهميا كتشبيه نصال السهام بأنياب الأغوال, أو مركبا عقليا كتشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا, أو لقلة تكرره على الحس كقوله (والشمس كالمرآة في كف الأشل) فإن المرآة في كف الأشل قليل التكرار على الحس, بل ربما يقضي الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل.
ولهذا كان قول الصنوبري:
وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق
أفضل من قول ذي الرمة:
(1/406)
________________________________________
كحلاء في برج صفراء في دعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب
لأن الأول مما يندر وجوده, دون الثاني فإن الناس أبدا يرون في الصياغات فضة قد موهت بذهب, ولا يكاد يتفق أن يوجد درر قد نثرن على بساط أرزق.
وإما لكونه كثير التفصيل, كتشبيه المرآة بالشمس في كف الأشل, فإن وجه التشبيه فيه هو الهيئة الحاصلة من الاستدارة, مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة, مع تموج الإشراق واضطرابه, حتى يرى الشعاع كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة, ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض وهذه الهيئة لا تقع في نفس الرائي للمرآة الدائمة الانقباض إلا بعد أن يستأنف تأملا, ويكون في نظره متمهلا, فالغرابة في هذا التشبيه من وجهين: أحدهما: قلة تكرار المشبه به على الحس.
والثاني: كثرة التفصيل في وجه الشبه.
والمراد بالتفصيل أني يعتبر في الأوصاف وجودها أو عدمها, أو وجود بعضها وعدم بعضها, كل من ذلك من أمر واحد, أو أمرين أو ثلاثة أو أكثر.
ويقع على وجوه كثيرة أعرفها وأبلغها وجهان: أحدهما: أن تأخذ بعضا من الأوصاف وتدع بعضا.
كما في قول امرئ القيس:
حملت ردينيا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان
ففصل السنا عن الدخان وأثبته مجردا.
والثاني: أن يعتبر الجميع.
كما في قول الآخر:
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا
فانه اعتبر من الأنجم الشكل والمقدار, واجتماعها على المسافة المخصوصة في القرب, ثم اعتبر مثل ذلك في العنقود المنورة من الملاحية -وهي بضم الميم- وهي عنب أبيض في حبه طول.
وكلما كان التركيب من أمور أكثر كان التشبيه أبعد وأبلغ, كقوله تعالى "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس" فإنها عشر جمل فصلت. وهي وإن دخل بعضها في بعض حتى صارت كلها كأنها جملة واحدة, فإن ذلك لا يمنع من أن تشير أليها واحدة واحدة, ثم إن التشبيه منتزع من مجموعها من غير أن يكون فصل بعضها عن بعض, حتى لو أخذت منها جملة أخل ذلك بالمغزى من التشبيه.
ومن أبلغ الاستقصاء في التفصيل وعجيبه قول ابن المعتز:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابا ذا قوادم جون
شبه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصبح بأشخاص الغربان, ثم شرط أن يكون قوادم ريشها أيضاً, لأن تلك الفرق من الظلمة تقع حواشيها من حيث يلي معظم الصبح وعموده لمع نور يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض. وتمام التدقيق في هذا التشبيه, أن جعل ضوء الصبح لقوة ظهوره ورفعه ظلام الليل, كأنه يحفز الدجى ويتسعجلها, ولا يرضى منها بأن تتمهل في حركتها, ثم لما راعى ذلك في التشبيه ابتداء راعاه آخرا, حيث قال (نطير غرابا) ولم يقلك غراب يطير نحوه, لأن الطائر إذا كان واقعا في مكان فازعج وأطير منه, أو كان قد حبس في يد أو قفص فارسل كان لا محالة أسرع لطيرانه, وأدعى له أن يستمر على الطيران حتى يصير إلى حيث لا تراه العيون, بخلاف ما إذا طار عن اختيار, فانه يجوز أن لا يسرع في طيرانه وإن يصير إلى مكان قريب من مكانه الأول.
وإذا قد تحققت ما ذكرنا في التفصيل علمت أن قول امرئ القيس في وصف السنان أعلى طبقة من قول الآخر:
يتابع لا يبتغي غيره ... بأبيض كالقبس الملتهب
لخلو هذا من التفصيل الذي تضمنه قول امرئ القيس, وهو قصر التشبيه على مجرد السنا, وتصويره مقصورا عن الدخان, ومعلوم أن هذا لا يقع في الخاطر أول وهلة, بل لا بد فيه من أن يثبت وينظر في حال كل من الفرع والأصل حتى يقع في النفس أن في الأصل شيئا يقدح في حقيقة التشبيه, وهو الدخان الذي يعلو رأس الشعلة.
وكذا قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه
أعلى طبقة من قول أبي الطيب:
يزور الأعادي في سماء عجاجة ... أسنته في جانبيها الكواكب
وقول الآخر:
تبني سنابكها من فوق أرؤسهم ... سقفا كواكبه البيض المباتير
(1/407)
________________________________________
لأن كل واحد منهما وإن راعى التفصيل في التشبيه فانه اقتصر على أن أراك لمعان السيوف في أثناء العجاجة, بخلاف بشار, فانه لم يقتصر على ذلك بل عبر عن هيئة السيوف وقد سلت من أغمادها وهي تعلو وترسب وتجئ وتذهب, وهذه الزيادة زادت التفصيل تفصيلا, لأنها لا تقع في النفس إلا بالنظر إلى أكثر من جهة واحدة, وذلك أن للسيوف في حال احتدام الحرب, واختلاف الأيدي فيها للضرب اضطرابا شديدا, وحركات سريعة ثم لتلك الحركات جهات مختلفة وأحوال تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة والارتفاع والانخفاض, ثم هي باختلاف هذه الأمور تتلاقى وتتداخل ويصدم بعضها بعضا, ثم أشكالها مستطيلة, فنبه على هذه الدقائق بكلمة واحدة هي قوله (تهاوى) فإن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها, وكان لها في تهاويها تدافع وتداخل, ثم إنها بالتهاوي تستطيل أشكالها.
وأبلغ التشبيه ما كان من هذا النوع لغرابته, ولان نيل الشيء بعد طلبه والاشتياق إليه ألذ, وموقعه من النفس ألطف, وبالمسرة أولى, ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف ببرد الماء على الظماء.
كما قال:
وهن ينبذن من قول يصير به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
لا يقال عدم الظهور ضرب من التعقيد, والتعقيد مذموم, لانا نقول التعقيد له سببان: سوء ترتيب الألفاظ, واختلال الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو المراد باللفظ, وهذا هو المذموم المردود. والمراد بعدم الظهور في التشبيه ما كان سببه لطف المعنى, ودقته, أو ترتيب بعض المعاني على بعض, كما يشعر بذلك قولنا في بدء الفكر, فإن المعاني الشريفة قلما تنفك عن بناء ثان على أول, ورد تال إلى سابق. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم (إن من الشعر لحكمة, وإن من البيان لسحرا) فمن الذي بأول وهلة ينفذ *****, ويهجم على حكمة الشعر؟ ثم هل شيء أحلى من الفكر إذا صار فيه نهجا قويما وطريقا مستقيما يوصل إلى المطلوب ويظفر بالمقصود؟.
الرابع: من وجود الحسن, أن يكون المشبه به معقولا, والمشبه محسوسا, لما تقدم من أن وجهه أن يقدر المعقول محسوسا, ويجعل كالأصل في ذلك المحسوس على طريقة المبالغة, وذلك لا يخلو من غرابة وبعد تناول.
وما أحسن قول أبي نواس في هذا النوع:
وندمان سقيت الراح صرفا ... وسر الليل منسدل السجوف
صفت وصفت زجاجتها عليها ... كمعنى دق في ذهن لطيف
ولمؤلفه عفا الله عنه من أبيات:
رقت فلولا الكأس لم تبصر لها ... جسما ولم تلمس براحة لامس
فكأنها عند المزاج لطافة ... وهم يخيله توهم هاجس
وقال الآخر:
كأن القلب والسلوان ذهن ... يلوح عليه معنى مستحيل
وقال جحظة البرمكي:
ورق الجو حتى قيل هذا ... عتاب بين جحظة والزمان
وإلى هذا البيت أشار من قال: بيننا عتاب لحظة, كعتاب جحظة.
وقال ابن الهبارية:
كم ليلة بت مطويا على شجن ... أشكوا إلى النجم حتى كاد يشكوني
والصبح قد مطل الشرق العيون به ... كأنه حاجة في نفس مسكين
وقال أبو القاسم أسعد بن إبراهيم:
تنفس الصهباء في لهواته ... كتنفس الريحان في الآصال
كأنما الخيلان في وجناته ... ساعات هجر في زمان وصال
وهو من قول الآخر:
أسفر ضوء الصبح في وجهه ... فقام خال الخد فيه بلال
كأنما الخال على خده ... ساعة هجر في زمان الوصال
والأصل في هذا المعنى قول المعتمد بن عباد:
أكثرت هجرك غير أنك ربما ... عطفتك أحيانا علي أمور
فكأنما زمن التهاجر بيننا ... ليل وساعات الوصال بدور
وقال ابن طباطبا:
كأن انتصار البدر من تحت غيمة ... نجاة من البأساء بعد وقوع
وزعم بعضهم ان هذا أعلى مراتب التشبيه طبقة, لأنه يفتقر إلى لطف ذوق, وسلامة فطرة, وصحة تخيل, فهو صعب على من يرومه, متقاعس عمن جذب إليه زمامه.
الخامس: أن يكون مستحلى عند الذوق, تهش النفس عند سماعه, ويميل الطبع إليه.
كقول القائل في الورد:
كأنه وجنة ****** وقد ... نقطه عاشق بدينار
وقول ابن المعتز:
على عقار صفراء تحسبها ... شيبت بمسك في الدن مفتوت
للماء فيها كتابة عجب ... كمثل نقش في فص ياقوت
وقوله في الهلال:
(1/408)
________________________________________
أنظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وقول بان طباطبا:
أما والثريا والهلال جلتهما ... لي الشمس إذ ودعت كرها نهارها
كأسماء إذ زارت عشاء وغادرت ... دلالا لدينا قرطها وسوارها
وإذا علم أحوال الحسن, علم أحوال خلافه بالتقابل, فيقابل السليم عن الابتذال المبتذل العامي كما مر من تشبيه السواد بالفحم والبياض بالثلج ويقابل ما ارتفع عن أذهان العامة إدراك وجهه ما هو ظاهر يدركه كل أحد نحو زيد كالأسد, ويقابل البعيد القريب المبتذل, كتشبيه العنبة الكبيرة السوداء بالإجاصة في الشكل والمقدار, والجرة الصغيرة بالكوز كذلك. وهذا يقابل الخامس أيضاً وهو تشبيه المحسوس بالمعقول, لأن وجه الحسن فيه غرابته وبعد تناوله, لا تشبيه المعقول بالمحسوس, ويقابل المستحلى عند الذوق المكروه الذي ينفر عنه الطباع.
كقول النابغة:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر المريض إلى وجوه العواد
فان الأصمعي عاب عليه هذا التشبيه بين يدي الرشيد فقال: يكره تشبيه المحبوب بالمريض.
وقول أبي محجن الثقفي:
ترجع العود أحيانا وتخفضه ... كما يظن ذباب الروضة الغرد
فانه ما زاد على أن شبه هذه المطربة بالذبابة.
وقول جعفر المصحفي:
صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت ... في الجسم دبت مثل صل لاذع
قال الثعالبي: لم يحسن في تشبيه دبيب الخمر في جسم شاربها بدبيب الحية اللاذعة, بل تباغض, ومن يعجبه دبيب الحية في جسمه؟.
قلت: وأين هو عن قول أبي نواس:
وتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
ومثله قول ابن عون في الخمرة الممزوجة:
وتزيد من تيه عليه كأنها ... عزيزة خدر قد يحبطها المس
فان بشاعة هذا التشبيه مما تنفر عنه الطباع, ومن الذي يطيب له أن يشرب شيئا يشبه زبد المصروع.
قالوا: ومن التشبيه المستبشع قول الآخر:
أن شقائق النعمان فيه ... ثياب قد روين من الدماء
فإن الثياب المضرجة بالدماء مما تعاف الأنفس رؤيتها.
وانتقدوا على الحاجري قوله:
وما اخضر ذاك الخد نبتا وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر
فان شق المرائر على خد المحبوب مما تشمئز منه القلوب. قالوا: ما زاد على أن جعل خد محبوبه مسلخا.
وما اكتفى الآخر بشق المرائر على خد محبوبه حتى سفك عليها الدماء فقال:
وما احمر ذاك الخد واخضر فوقه ... عذارك إلا من دم ومرائر
وما أحسن قول الصنوبري في شق المرارة:
أتت في لباس لها أخضر ... كما لبس الورق الجلناره
فقلت لها ما اسم هذا اللبا ... س فأدت جوابا لطيف العبارة
شققنا مرارة قوم به ... فنحن نسميه شق المراره
هذا إذا لم يكن الغرض من التشبيه التشويه والتنفير. أما إذا كان غرض المتكلم التنفير فلا يستهجن ذلك, وكذلك إذا كان الغرض الهجو فانه لا يستهجن فيه ما يستهجن في الغزل.
كما قال الثعالبي في قول الرقي:
لقد جل حظي في التي رق خصرها ... وأسهر جفني جفنها وهو نائم
إذا كان أصداغ الخدود عقاربا ... فإن ذوابات الرؤوس أراقم
هذا البيت صعب عندي إذ جمع بين العقارب والحيات في الغزل, والطبع يأنف منها, ولو كان في الهجاء كان جيدا.
كما قال ابن الرومي في هجاء قينة:
فقرطها بعقرب شهرزور ... إذا غنت وطوقها بأفعى
وأما أحوال القبول فهي أن يكون التشبيه وافيا بأداء الأغراض المتقدم ذكرها, بان يكون المشبه به أعرف بالوجه إذا قصد بيان حال المشبه, ومع العلم به مساويا له إذا قصد بيان مقداره, ومسلم الحكم إذا قصد بيان إمكان وجوده, وأتم معنى فيه إذا أريد زيادة التقرير, أو إلحاق الناقص بالكامل, أو قصد الترغيب أو التعبير, ونادر الحضور إذا قصد غرابته واستطرافه كما مر. والمردود بخلافه.
قال الزنجاني: ومن فساد التشبيه أن يكون منكوسا كقول الفرزدق:
والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
فذكر أن الشيب يبدو في الشباب, ثم ترك ما ابتدأ به, ووصف الشباب بأنه كالليل والذي تقتضيه المقابلة الصحيحة أن يقول: كمنا ينهض نهار في جانبي الليل. انتهى.
قلت: وقريب من ذلك قول الصلاح الصفدي في تشبيه إشراق القمر من خلال الأغصان:
(1/409)
________________________________________
كأنما الأغصان لما انثنت ... أمام بدر التم في غيهبه
بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت منه على موكبه
قال البدر الدماميني: ظاهر عبارته تشبيه الأغصان في حالة انثنائها أمام البدر في الدجى ببنت مليك تطل من شباكها للنظر في موكب أبيها, وذلك عن مظان التشبيه بمعزل, ومقصوده أن البدر في حالة ظهوره من خلال الأغصان المنثنية على الصفة المذكورة, يشبه بنت مليك على تلك الحالة تمثيلا للهيئة الاجتماعية, لكن اللفظ لا يساعده على ذلك المطلوب, فانه جعل الأغصان مبتدأ وأخبر عنه بقوله: بنت مليك, فلم يتم له المراد.
على انه مع ما فيه مأخوذ من قول ابن قرناص الحموي:
وحديقة عناء ينتظم الندى ... بفروعها كالدر في الأسلاك
والبدر يشرق من خلال غصونها ... مثل المليح يطل من شباك
ومما عابوه من التشبيه قول ابن وزير في تشبيه الماء الجاري على الرخام:
لله يوم بحمام نعمت به ... والماء ما بيننا من حوضه جار
كأنه فوق شفاف الرخام ضحى ... ماء يسيل على أثواب قصار
وإياه عنى ابن الذروي بقوله:
لشاعر أوقد الطبع الذكاء له ... فكاد يحرقه من فرط الذكاء
أقام يجهد أياما قريحته ... فشبه الماء بعد الجهد بالماء
وبلغ الآخر من السخافة أقصى غاياتها حيث قال:
كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء
وقد يتصرف في التشبيه القريب المبتذل بما يجعله غريبا, ويخرجه من الابتذال, كقول أبي الطيب:
لم تلق هذا الوجه شمس نهارها ... إلا بوجه ليس فيه حياء
فان تشبيه الوجه الحسن بالشمس قريب مبتذل, لكن حديث الحياء أخرجه نم الابتذال إلى الغرابة, لاشتماله على زيادة دقة وخفاء.
ومثله قول الآخر:
إن السحاب لتستحي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها
وكقول رشيد الدين الوطواط:
عزماته مثل النجوم ثواقبا ... لو لم يكن للثاقبات أفول
وقول البديع الهمذاني:
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر ذهبا
والبدر لو لم يغب والشمس لو انطلقت ... والأسد لو لم تصد والبحر لو عذبا
فان الشروط المذكورة أخرجت التشبيهات المبتذلة إلى الغرابة. وهذا يسمى التشبيه المشروط, وقد يتصرف في القريب الإجمالي بما يخرجه إلى الغريب التفصيلي.
كقول ابن بابك:
ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى ... نسيمك مسروق ووصفك منتحل
حكيت أبا سعد فنشرك نشره ... ولكن له صدق الهوى ولك الملل
فان تشبيه نشر الرياض بنشر الممدوح قريب إجمالي, ولكن ادعاء كونه مسروقا من نشر الممدوح, والاستدراك المذكور, أخرجه إلى الغرابة والتفصيل.
ومثله قول الآخر:
فو الله ما أدري أزهر خميلة ... بطرسك أم در يلوح على نحر
فإذا كان زهرا فهو صنع سحابة ... وإن كان درا فهو من لجة البحر
فإذا نظرت إلى تشبيه الخط الحسن بالزهر والدر, كان قريبا إجماليا, وإذا قيد بقوله: خميلة, المفيدة لنضارة الزهر الموجبة لزيادة الحسن, وقوله: على نحر, المفيد لملاحظة بياض الطرس خرج إلى الغرابة والتفصيل, لكن يقرب تعاطيها, فإذا أخذ معهما معنى حسن التحليل الذي يلوح من قوله: صنع سحابة, ولج البحر, بعدا وزاده في الحسن.
وقد يعتبر الحسن بالجمع بين عدة تشبيهات, وإن كان كل واحد منها منفردا غير مستحق للتحسين, لأن الواحد منها قد يسبق إليه كل ذهن, وأما الجمع بينها فيتوقف على فكر وهو على نوعين: أحدهما, أن يؤتى لمشبه واحد بتشبيهات كثيرة كقول البحتري:
كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضد أو برد أو أقاح
الثاني, أن تؤخذ أعضاء أو أحوال الشخص, فيشبه كل منها بشيء على الترتيب كقول ابن سكرة:
أنا من خده وعينيه والثغ ... ر ومن ريقه البعيد المرام
بين ورد ونرجس وتلالي ... أقحوان وبابلي المدام
الفصل الخامس في الأداة.
(1/410)
________________________________________
وهي ما يتوصل به إلى وصف المشبه بمشاركته للمشبه به في الوجه وهي (الكاف) نحو قولك: زيد كالأسد, و (كأن) نحو زيد كأنه أسد, و (مثل) نحو قولك: هو مثل الأسد, وما في معنى (مثل) كلفظة (نحو) وما يشتق من لفظة (مثل) و (شبه) من المسائلة والمشابهة وما يؤدي معنى ذلك: كالمضاهاة, والمحاكاة, والمساواة, والمناظرة.
والأصل في الكاف ونحوها أن يليها المشبه به, وقد يليها مفرد لا يتأتى التشبيه به, وذلك إذا كان المشبه به مركبا, كقوله تعالى "مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح" إذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء, بل المراد تشبيه حالها في نضرتها وبهجتها, وما يتعقبها من الهلاك والفناء, بحال النبات الحاصل من الماء, يكون أخضر ناضرا شديد الخضرة ثم ييبس فتطيره الرياح كأن لم يكن.
وأما قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله" فليس من هذا القبيل, أعنى مالا يلي المشبه به (الكاف) لأن التقدير: كونوا كالحواريين أنصارا لله وقت قول عيسى: من أنصاري إلى الله, على أن (ما) مصدرية, والزمان مقدر, كقولهم: آتيك خفوق النجم؛ أي زمان خفوقه, فالمشبه به وهو كون الحواريين أنصارا لله مقدر يلي الكاف, حذف لدلالة ما أقيم مقامه عليه, إذ لا يخفى أن ليس المراد تشبيه كون المؤمنين أنصارا بقول عيسى للحواريين: من أنصاري إلى الله. وقد يذكر فعل ينبئ عن حال التشبيه من القرب والبعد, كما في (علمت زيدا أسدا) , إن قرب التشبيه أو أريد أنه مشابه للأسد مشابهة قوية لما في العلم من التحقيق, وكما في (حسبت) أو (خلت زيدا أسدا) أن بعد التشبيه أدنى بعد, لما في الحسبان من الدلالة على الظن دون التحقيق.
وهذا تمام الكلام في الأشياء الخمسة التي يستدعيها التشبيه. وبقى الكلام في أقسامه, فإن له تقسيما باعتبار طرفيه, وآخر باعتبار الغرض, وآخر باعتبار الأداة.
وأما تقسيمه باعتبار طرفيه فهو أربعة أقسام: الأول - تشبيه المفرد بالمفرد.
وهما غير مقيدين, كتشبيه الخد بالورد, أو مقيدان كقولهم: هو الراقم على الماء, فإن المشبه هو الساعي المقيد بان لا يحصل من سعيه على شيء, والمشبه به هو الراقم المقيد بكون رقمه على الماء, لان وجه الشبه فيه هو التسوية بين الفعل وعدمه, وهو موقوف على اعتبار هذين القيدين. أو مختلفان, أي أحدهما غير مقيد والآخر مقيد, كقوله: والشمس كالمرآة في كف الأشل, فإن المشبه وهو الشمس غير مقيد, والمشبه به وهو المرآة مقيد بكونه في كف الأشل, وعكسه كتشبيه المرآة في كف الأشل بالشمس.
الثاني -تشبيه المركب بالمركب.
وهو ما طرفاه كثرتان مجتمعان, كما في قول البحتري:
ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق في الغيم الجهام
لا يريد به تشبيه بياض الحجول على الانفراد بالبرق, بل مقصوده الهيئة الخاصة الحاصلة من مخالفة أحد اللونين بالآخر, ومنه بيت بشار السابق ذكره.
الثالث -تشبيه المفرد بالمركب.
كما مر من تشبيه الشقيق بأعلام ياقوت منشورة على رماح من زبرجد.
الرابع -تشبيه المركب بالمفرد.
كقول أبي تمام:
يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور
تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربى فكأنما هو مقمر
شبه النهار المشمس الذي اختلط به أزهار الربوات, فنقصت باخضرارها من ضوء الشمس حتى صارت تضرب إلى السواد, بالليل المقمر, فالمشبه مركب, والمشبه به مفرد. وأيضا أن تعدد طرفاه فهو إما ملفوف أو مفروق فالملفوف أن يؤتى على طريق العطف أو غيره بالمشبهات أولا, ثم بالمشبه به.
كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
والمفروق أن يؤتى بمشبه ومشبه به, ثم آخر وآخر.
كقول ابن سكرة: الخد ورد والصدغ غالية=والريق خمر والثغر من برد وإن تعدد طرفه الأول (أعني المشبه) دون الثاني سمي تشبيه التسوية.
كقول الآخر:
صدغ ****** وحالي ... كلاهما كاليالي
وثغره في صفاء ... وأدمعي كاللآلي
وإن تعدد طرفه الثاني -أعني المشبه به- دون الأول, سمي تشبيه الجمع.
كقول الصاحب بن عباد:
(1/411)
________________________________________
أتتني بالأمس أبياته ... تعلل روحي بروح الجنان
كبرد الشباب وبرد الشراب ... وظل الأمان ونيل الأماني
وعهد الصبا ونسيم الصبا ... وصفو الدنان ورجع القيان
وأما تقسيمه باعتبار وجهه فهو: إما تمثيل, وإما مجمل أو مفصل, وإما قريب أو بعيد.
فالتمثيل: ما وجهه وصف منتزع من متعدد أمرين, أو أمور, كما مر من تشبيه الثريا, والتشبيه في بيت بشار, وتشبيه الشمس بالبوتقة المحماة, وتشبيهها بالمرآة في كف الأشل, إلى غير ذلك, وغير التمثيل ما كان بخلاف ذلك كما سبق في الأمثلة المذكورة.
كقول أبي بكر الخالدي:
يا شبيه البدر حسنا ... وضياء ومنالا
وشبه الغصن لينا ... وقواما واعتدالا
أنت مثل الورد لونا ... ونسيما وملالا
زارنا حتى إذا ما ... سرنا بالقرب زالا
والقريب: هو الذي ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير تدقيق نظر لظهور وجهه.
والبعيد بخلافه, وقد سبق بيانهما في الفصل الرابع.
وأما تقسيمه باعتبار الغرض فهو: إما مقبول أو مردود, وقد مر بيان ذلك في الأحوال.
وأما (تقسيمه) باعتبار الأداة فهو: إما مؤكد أو مرسل.
فالمؤكد: ما حذفت أداته كقوله تعالى "وهي تمر مر السحاب".
وقول الحماسي:
هم البحور عطاء حين تسألهم ... وفي اللقاء إذا تلقاهم بهم
والمرسل: ما ذكرت أداته كقوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" وقوله تعالى "عرضها كعرض السماء والأرض" إلى غير ذلك.
واعلم أن المشبه قد ينتزع من نفس التضاد, لاشتراك الضدين فيه, ثم ينزل منزلة بواسطة تمليح أو تهكم, فيقال للجبان: ما أشبهه بالأسد, وللبخيل: هو حاتم.
ولنقتصر من الكلام على التشبيه على هذا المقدار, فقد طال بنا السرح وخرجنا عن شرط الاختصار, على أننا قد جاوزنا مخدراته في منصات الظهور, وأوردنا ما لا يسعى الأديب عن معرفته في المنظوم والمنثور, ولم نقتد بشراح البديعيات في طي الكلام على عزته في هذا الباب, فإن مقام التشبيه أشرف قدرا من أن يطوى عنه كشحا, ويضرب صفحا عند أولي الألباب.
ولنذكر الآن جملة من محاسن التشبيهات على جاري عادتنا في هذا الكتاب.
فمنها قول محمد بن عبد الله الكاتب:
كأن الثريا صدر باز محلق ... سما حيث لا يبدو له غير جؤجؤ
حكت طبقا فيروزجيا أديمه ... نثرن عليه سبع حبات لؤلؤ
وقول ابن المعتز: كأن الثريا في أواخر ليلها=تفتح نور أو لجام مفضفض وقوله:
وأرى الثريا في السماء كأنها ... قدم تبدت من ثياب حداد
وقوله:
كأن الثريا فيه در تقاربت ... جمان وهي من سلكه فتبددا
وقول التهامي:
وللثريا ركود فوق أحلنا ... كأنها قطعة من فروة النمر
(وقال) آخر:
كأن الثريا والصباح يكدها ... قناديل رهبان دنت لخمود
وقول ابن هاني الأندلسي من قصيدة:
كأن رقيب النجم أجدل مرقب ... يقلب تحت الليل في ريشه طرفا
كأن بني نعش ونعشا مطافل ... بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا
كأن سهيلا في مطالع أفقه ... مفارق ألف لم يجد بعده ألفا
كأن سهاها عاشق بين عواد ... فآونة يبدو وأونة يخفى
كأن معلى قطبها فارس له ... لواءان مركوزان قد ذكره الزحفا
كأن قدامى النسر والنسر واقع ... قصصن فلم تسمو الخوافي به ضعفا
كأن أخاه حين دوم طائرا ... أتى دون نصف البدر فاختطف النصفا
كأن الهزيع الآبنوسي لونه ... سرى بالنسيج الخسرواني ملتفا
كأن ظلام الليل إذ مال ميلة=صريع مدام بات يشربها صرفا
كأن عمود الصبح خاقان معشر ... من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى
كأن لواء الشمس غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا
أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجني من قصيدة عارض بها قصيدة ابن هاني:
كأن الدجى لما تولت نجومه ... مدبر حرب قد هزمنا له صفا
أن عليه للمجرة روضة ... مفتحة الأنوار أو نثرة زغفا
كأنا وقد ألقى إلينا هلاله ... سلبناه جاما أوب قصمنا له وقفا
كان السها إنسان عين غريقة ... من الدمع يبدو كلما ذرفت ذرفا
كأن سهيلا فارس عاين الوغى ... ففر ولم يشهد طرادا ولا زحفا
(1/412)
________________________________________
كأن سنا المريخ شعلة قابس ... تخطفها عجلان يقذفها قذفا
كأن أفول النسر طرف تعلقت ... به سنة ما هب منها ولا أغفى
وقول مؤلفه عفا الله عنه من قصيدة أولها:
سرت سحرا والنجم للغرب مائل ... ولون الدجى من رهبة الصبح حائل
وقد همت الظلماء بالأفق بالسرى ... كماهم بالسير الخليط المزائل
كأن النجوم الزهر عيس نوافر ... كأن الدجى ركب من الزنج قافل
كأن الثريا إذ تجلت خواتم ... تحدثت بها من كف خود أنامل
كأن سهيلا للنجوم مراقب ... كأن السها صب من العشق ناحل
كأن عري الأفق بيداء سملق ... كأن مبادي الصبح فيه مناهل
فوافت يباريها الصباح مماثلا ... وهل يستوي مثلان حال وعاطل
وله أيضاً من أخرى أولها:
أحباي من الود مني فراسخ ... وإن حال دوني عن لقاكم فراسخ
كأن نهاري بعدكم ناب حية ... وليلي إذا ما جن أسود سالخ
نأيتم فما حر الفراق مفارق ... فؤادي ولا جمر الصبابة بايخ
وكيف وأنفاسي من الشوق والجوى ... لنار الأسى بين الضلوع نواقح
لئن نسخ البين المشت وصالنا ... فما هو للحب المبرح ناسخ
وليل كيوم الحشر طولا أرقته ... وبين جفوني والمنام برازخ
وكم ليلة مدت دجاها كأنما ... كواكبها فيها رواس رواسخ
أرقت بها والصبح قد حالف الدجى ... فما نسرها سار ولا الديك صارخ
كأن نجوم الأفق غاصة لجة ... توحلن فالأقدام منها سوائخ
كأن حناديس الظلام أداهم ... لها غرر ملء الجباه شوادخ
كأن سهيلا راح قابس جذوة ... فوافى وأنضاء النجوم روابخ
كأن صغار الشهب في غسق الدجى ... فراخ نسور والبروج مفارخ
كأن معلى القطب فارس حومة ... على قرنه في ملتقى الكر شامخ
كأن رقيق الجو برد مفوف ... له موهن الظلماء بالمسك ضامخ
كأن ذكا باعت من المشتري ابنها ... فلم تستقل بيعا ولا هو فاسخ
ابن نباتة السعدي:
وخطه ضيم قد أبيت وليلة ... سريت فكان المجد ما أنا صانع
هتكت دجاها والنجوم كأنها ... عيون لها ثوب السماء براقع
ابن طبا طبا:
وقد لاحت الشعرى العبور كأنها ... تقلب طرف بالدموع هموع
أبو نواس:
ويمين الجوزاء تبسط باعا ... لعناق الدجى بغير بنان
وكأن النجوم أحداق روم ... ركبت في محاجر السودان
هارون العلمي دليل بن المهلب حين هرب من سجن عمر بن عبد العزيز:
وقوم هم كانوا الملوك هديتهم ... بظلماء لم يؤنس بها المعين كوكب
ولا قمر إلا ضئيل كأنه ... سوار حناه صائغ السور مذهب
ابن المعتز:
انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا
كمنجل قد صيغ من عسجد ... يحصد زهر الدجى نرجسا
وله:
قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشر سقم الهلال بالعيد
قال آخر:
يتلو الثريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود
السري الرفاء:
ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبات زرقاء اللباس
وله:
أما رأيت الهلال يرمقه ... قوم أن رأوه أهلال
كأنه قيد فضة حرج ... فض عن الصائمين فاختالوا
علاء الدين النابلسي:
هلال شوال ما زالت مطالعه ... يرنو إليه الورى من شدة الفرح
كأصبعي كف ندمان أشار إلى ... ساق لطيف يروم الأخذ للقدح
وقد جمع بعض الأفاضل في تشبيه الهلال ما يقارب السبعين.
بديع الزمان الهمذاني:
سماء الدجى ما هذه الحدق النجل ... أصدر الدجى حال وجيد الفصحى عطل
لك الله من حزم أجوب جيوبه ... كأني في أجفان عين الردى كحل
كأن الدجى نقع وفي الجو حومة ... كواكبها جند طوائرها رسل
كأن القرى سكرى ولا سكر بالقرى ... كأن الثرى ثكلى وما بالثرى ثكل
كأن مطايانا سماء كأننا ... نجوم على أقتابها برجها الرحل
كأن السرى ساق كأن الكرى طلى ... كأنها لها شرب كأن المنى نقل
كأنا جياع والمطي لنا فم ... كأن الفلا زاد كأن السرى أكل
كأن ينابيع الثرى ثدي مرضع ... وفي حجرها مني ومن ناقتي طفل
(1/413)
________________________________________
كأن فمي قوس لساني لها يد ... مديحي له نزع به أملي نبل
كأن دوائي مطفل حبشية ... كأني لها بعل ونقشس لها نسل
كأن يدي في الطرس غواص لجة ... له كلمي در به قيمي تغلو
السكب المازني:
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل
الصاحب بن عباد في الثلج: وكأن السماء صاهرت الأر_ض فكان النثار من كافور بعض شعراء المغرب في كوكب منقض:
وكوكب أبصر العفريت مسترقا ... للسمع فانقض يذكي أثره لهبه
كفارس حل أعصار عمامته ... فجرها كلها من خلفه عذبه
سيف الدولة بن حمدان في قوس قزح:
وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام في أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فما بين منفض علينا ومنقض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... على الجو دكناء الحواشي على الأرض
يطرزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في أخضر أثر مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض
قال الثعالبي: هذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها السوقة.
والبيت الأخير أخذ معناه أبو علي المؤدب البغدادي فقال في فرس أدهم محجل:
لبس الصبح والدجنة بردي ... ن فأرخى بردا وقلص بردا
الأديب أبو بكر بن بقي المغربي:
وفتية لبسوا الأدراع تحسبها ... سلخ الأراقم إلا أنها رسب
إذا الغدير كسا أعطافهم حلقا ... طفا من البيض في هاماتهم حبب
المعتمد بن عباد:
ولما اقتحمت الوغى دارعا ... وقنعت وجهك بالمغفر
حسبنا محياك شمس الضحى ... عليها سحاب من العنبر
بعضهم:
وفحم كأيام الوصال فعاله ... ومنظره في العين يوم صدود
كأن لهيب النار بين خلاله ... بوارق لاحت في غمائم سود
الصنوبري في الشمعة:
مجدولة في قدها ... حاكية قد الاسل
كأنها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل
غيره فيها:
كأنها نخلة بلا سعف ... تحمل جمارة من النار
وقول الآخر:
كأن دخان الند من فوق جمرها ... بقايا ضباب في رياض شقيق
أبو علي الصنعي في المجمرة:
هذي الشقائق قد أبصرت حمرتها ... مع السواد على قضبانها الذلل
كأنها دمعة قد غسلت كحلا ... حارت بها وقفة في وجنتي خجل
بعضهم في باكورة الورد:
كم وردة تحكي بسبق الورد ... طليعة تسرعت من جند
قد ضمتها في الغصن قرص البرد ... ضم فم لقبلة من بعد
مجير الدين بن تميم:
سيقت إليك من الحدائق وردة ... وأتتك قبل أوانها تطفيلا
طمعت بلثمك إذ رأتك فجمعت ... فمها إليك كطالب تقبيلا
أيدمر المحيوي في النرجس:
وكأن نرجسه المضاعف خائض ... في المياه لف ثيابه في رأسه
القاضي التنوخي:
ورياض حاكت لهن الثريا ... حللا كان غزلها للرعود
نثر الغيث در دمع عليها ... فتحلت بمثل در العقود
أقحوان معانق لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود
وعيون من نرجس تتراءى ... كعيون موصولة التسهيد
وكأن الشقيق حين تبدى ... ظلمة الصدغ في خدود الغيد
وكأن الندى عليها دموع ... في جفون مفجوعة بفقيد
السري الرفاء:
وبكر شربناها على الورد بكرة ... فكانت لنا وردا إلى ضحوة الغد
إذا قام مبيض اللباس يديرها ... توهمته يسعى بكم مورد
أبو بكر الخالدي وهو نهاية في الخلاعة والظرف:
كأنما من ثناياها ومبسمها ... أيدي الغمام سرقن البرق والبردا
وقوله:
ومدامة صفراء في قارورة ... زرقاء تحملها يد بيضاء
فالراح شمس والحباب كواكب ... والكف قطب والأناء سماء
أخوه أبو عثمان الخالدي:
إن شهر الصيام إذ جاء في فص ... ل ربيع أودى بحسن وطيب
فكأن الورد المضعف في الصو ... م حبيب يمشي بجنب رقيب
بعضهم في (تشبيه) النار:
انظر إلى النار وهي مضرمة ... وجمرها بالرماد مستور
شبه دم من فواخت ذبحت ... وفوقه ريشهن منثور
ابن نباتة السعدي في فرس محجل:
تختال منه على أغر محجل ... ماء الدياجي قطرة من مائه
(1/414)
________________________________________
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه
ابن القيرواني:
وأسرى نعاس يمموا كعبة الندى ... فهم سجد فوق المذاكي وركع
على كل نشوان العنان كأنما ... جرى في وريديه الرحيق المشعشع
شكائمها معقودة بسياطها ... تخال بأيدينا أراقم تلسع
والبيت الآخر مأخوذ من قول أبي الطيب:
تجاذب فرسان الصباح أعنة ... كأن على الأعناق منها أفاعيا
ظافر الحداد:
أنظر لقرن الشمس بازغة ... في الشرق تبدو ثم ترتفع
كسبيكة الزجاج ذائبة ... حمراء ينفخها فتتسع
ابن المعتز في الشمس والغيم:
تظل الشمس ترمقنا بلحظ ... مريض مدنف من خلف ستر
تحاول فتق غيم وهو يأبى ... كعنين يريد نكاح بكر
ابن خفاجة الأندلسي:
والنقع يكسر من سنا شمس الضحى ... فكأنه صدأ على دينار
ابن النبيه:
والظل يسبح في الغدير كأنه ... صدأ يلوح على حسام مرهف
بعضهم:
صل الراح بالراحات واغنم مسرة ... بأقداحها واعكف على لذة الشرب
ولا تخش أوزارا فأوراق كرمها ... أكف غدت تستغفر الله للذنب
آخر في مصلوب, وهو من الغايات:
كأنه عاشق قد مد ساعده ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل
أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مواصل لتمطيه من الكسل
وأما أحسن قول ابن حمديس فيه أيضاً:
ومرتفع في الجذع إذ حط قدره ... أساء إليه ظالم وهو محسن
كذي غرق مد الذراعين سابحا ... من الجو بحرا عومه ليس يمكن
وتحسبه من جنة الخلد دانيا ... يعانق حورا لا تراهن أعين
ولعمر الخياط فيه أيضاً:
انظر إليه كأنه متظلم ... في جذعه لحظ السماء بطرفه
بسط اليدين كأنه يدعو على ... من قد أشار على الأمير بحتفه
ابن خفاجة:
وأسود يسبح في لجة ... لا تكتم الحصباء غدرانها
كأنها في شكلها مقلة ... زرقاء والأسود إنسانها
الماموني في كوز أخضر:
وبديعة للريم منها جيدها ... تتحير الأبصار في إبداعها
كخريدة في مرط خز أخضر ... رفعت يدا لترد فضل قناعها
بعضهم:
بأبي حبيب زارني متنكرا ... فبدأ الوشاة له فولى معرضا
فكأنني وكأنه وكأنها ... أمل ونيل حال بينهما القضا
العناياتي:
قلبي على قدك الممشوق بالهيف ... طير على الغصن أو همز على الألف
الشيخ جمال الدين العصامي:
فنجان قهوة ذا المليح وعينه ال ... كحلاء حارت فيهما الألباب
فسوادها كسوادها وبياضها ... كبياضها ودخانها الأهداب
ابن المعتز:
كأنه وكأن الكأس في فمه ... هلال أول شهر غاب في الشفق
ابن المنير الطرابلسي في النواعير:
لنواعيرها على الماء ألحان ... تهيج الشجى لقلب المشوق
فهي مثل الأفلاك شكلا وفعلا ... قسمت قسم جاهل بالحقوق
بين عال خال ينكسه الده ... ر ويعلو بسافل مرزوق
المفجع البصري في مغن جميل جدر فازداد حسنا:
يا قمرا جدر حين استوى ... فزاده وزادت هموم
كأنما غنى لشمس الضحى ... فنقطته طربا بالنجوم
أبو جعفر الأعمى المغربي:
هل استمالك جسم ابن الأمير وقد ... سالت عليه من الحمام أنداء
كالغصن باشر حر النار من كتب ... فظل من أعطافه الماء
وقول الأبيوردي:
بأبي ريم تبلج لي ... عن رضى في طية غضب
وسعى بالكأس مترعة ... كضرام النار تلتهب
فهي شمس في يدي قمر ... وكلا عقديهما الشنب
وما أحسن قوله بعده:
ولها من ذاتها طرب ... فلهذا يرقص الحبب
آخر:
وكأنه والكأس في يده ... فلهذا يرقص الحبب
ابن المعتز في إبريق في فمه قطرة:
كأن أبريقها والراح في فمه ... ديك تناول ياقوتا بمنقار
ابن مكنسة:
إبريقنا عاكف على قدح ... كأنه الأم ترضع الولدا
أو عابد من بني المجوس إذا ... توهم الكأس شعلة سجدا
أبو منصور البغوي:
تراءت لنا من خدرها بسوالف ... كما لاح بدر من خلال سحاب
وهز الصبا صدغا لها فوق خدها ... كما روحت نار بريش غراب
أبو الفرج الببغاء:
(1/415)
________________________________________
والتهب نارها فمنظرها ... يغنيك عن كل منظر
إذا رمت بالشرار واضطرمت ... على ذراها مطارف اللهب
رأيت ياقوتة مشبكة ... تطير منها قراضة الذهب
أبو الفضل الميكالي:
تصوغ لنا كف الربيع حدائقا ... كقعد عقيق بين سمط لآلي
وفيهن أنوار الشقائق قد حكت ... خدود عذارى نقطت بغوالي
ابن المعتز:
زارني والدجى أحم الحواشي ... والثريا في الغرب كالعنقود
وهلال السماء طوق عروس ... بات يجلى على غلائل سود
الصابي:
قبلت منه فما مجاجته ... تجمع معنى المدام والشهد
كأن مجرى سوكه برد ... وريقه ذوب ذلك البرد
وتشبيه الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:
كأنما حلق السعدي منتثر ... على الثرى بين منفض ومنفصم
حروف خط على طرس مقطعة ... جاءت بها يد غمر غير مفتهم
ومن الغريب أن ابن جابر لم ينظم نوع التشبيه في بديعيته.
وبيت بديعيتي العز الموصلي قوله:
وقيل للبدر تشبيه إليه نعم ... نجم الثريا له كالنعل في القدم
وبيت بديعية ابن حجا قوله:
والبدر في التم كالعرجون صار له ... فقل لهم يتركوا تشبيه بدرهم
الذي أراه أن هذا التشبيه غير صحيح, فإن القمر لا يطلق عليه اسم البدر إلا ليلة كماله, فتشبيهه بالعرجون لا وجه له. نعم لو قال: والقمر, كان صحيحا, كما قال تعالى "والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم". ثم قوله: في التم, حشو قبيح, لما علمت أن البدر اسم القمر ليلة تمامه.
وبيت بديعية المقري قوله:
أذكى مصابيح أنوار الهدى فمشت ... في ظلمة الشرك مشي النار في الظلم
وبيت بديعية السيوطي قوله:
وكم له معجزات لم يشن كسف ... شموسها لا كتشبيه بسحرهم
وبيت بديعية العلوي:
كأنه الموت أو كالشهد مطعمه ... في الحرب والسلم للأعداء والحشم
وبيت بديعية الطبري:
فاق الأنام فلا تشبيه بينهما ... صغرى عزائمه تزكو على الهمم
هذا البيت ليس من التشبيه في شيء كما هو في الظاهر, ولا أعلم كيف خفي عليه ذلك مع ظهوره.
وبيت بديعيتي هو قولي:
ماضيه كالبرق والتشبيه متضح ... يلوح في أثره ما لاح صوب دم
الفرائد
إذا فرائد جيش عنده اتسقت ... مشى العرضنة والشعواء في ضرم
هذا النوع يختص بالفصاحة دون البلاغة, لأنه عبارة عن الإتيان بلفظة فصيحة, تتنزل منزلة الفريدة من القصيدة, وهي الجوهرة التي لا نظير لها, تدل على عظم فصاحة المتكلم وقوة عارضته, وجزالة غريبته, بحيث لو أسقطت من الكلام عري من الفصاحة, كقوله تعالى "الآن حصحص الحق" فلفظة (حصحص) فريدة, يعسر على الفصحاء الإتيان بمثلها في مكانها. ومثلها لفظة (الرفث) في قوله تعالى "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم". ولفظة (فزع) في قوله تعالى "حتى إذا فزع عن قلوبهم". و"خائنة" في قوله تعالى "خائنة الأعين".
ومثاله في الشعر قول أبي بكر الهدلي:
ومبرء من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
فقوله: غبر, بضم الغين المعجمة وتشديد الباء الموحدة وبعدها راء مهملة, بمعنى بقايا الحيض, أنصح لفظ لمثل هذا المكان, وقوله: مغيل, اسم فاعل من أغيلت المرأة ولدها, إذا أرضعته وهي حامل, ويقال: أغالته أيضاً فهي مغيل, كمفيد, والولد مغال ومغيل. وفي حديث (لقد هممت أن أنهي عن الغيلة, ثم ذكرت أن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يضرهم) .
وقول حسان:
كم قد ولدنا من نجيب قسور ... دامي الأظافر أو ربيع ممطر
سدكت أنامله بمرهف باتر ... وتثير فائدة وذروة منبر
الشاهد, في قوله: سدكت أنامله, فإن لفظة (سدكت) فريدة لا يقوم مقامها غيرها. يقال: سدك به كف, أي لزمة.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
ومن له حاور الجذع اليبيس ومن ... بكفه أورقت عجراء من سلم
الشاهد في قوله: عجراء وهي العصا المعقدة. قال في شرحه: ولا يعبر عن صلابة العصا وتعقدها بمثلها.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
وشم وميض بروق من فرائده ... وانظم حنانيك عقدا غير منفصم
(1/416)
________________________________________
قال في شرحه الفرائد في هذا البيت ثلاثة, هي, شم وحنانيك ومنفصم.
وأنا أقول: أما قوله: شم, فمسلم على أنها لفظة فصيحة في نفسها, إلا أنها وقعت في غير موقعها, لأن معناها -على ما في القاموس- تحنن علي مرة بعد مرة, وهذا المعنى لا يناسب المقام كما لا يخفى. وأما قوله: منفصم, فليس بتلك المثابة من الفصاحة, والفصم -على ما في الصحاح- كسر الشيء من غير أن يبين, فجعله صفة للعقد إنما هو على طريق التوسع, فلو لم تكن القافية ميمية إذا أسقطت عري الكلام عن الفصاحة. والفرائد في بيت ابن حجة جرى على العكس من ذلك في اللفظين المذكورين والله أعلم.
وبيت بديعية المقري قوله:
لقد سما في تضاعيف السما رتبا ... حديثها كان قبل الكون في القدم
قال في شرحه: الفريدة فيه: تضاعيف.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فالقبض والبسط للأكوان قد جمعا ... في كفه ونمير مقنع لظمي
الفريدة فيه: نمير مقنع.
وبيت بديعيتي قولي:
إذا فرائد جيش عنده اتسقت ... مشى العرضنة والشعواء في ضرم
الفرائد فيه: اتسقت, والعرضنة, والشعواء. يقال: هو يمشي العرضنة: إذا مشى مشية في شق من نشاطه, وهي بكسر العين وفتح الراء المهملتين وبعدها ضاد معجمة ساكنة ثم نون مفتوحة, والشعواء: الغارة الغاشية المتفرقة.
ولم ينظم السيوطي, ولا الطبري, هذا النوع والله أعلم.
التصريع
كفاه نصرا على تصريع جيشهم ... رعب تراع له الآساد في الأجم
التصريع عبارة عن استواء آخر جزء في صدر البيت وعجزه, في الوزن والروي والإعراب, ولا يعتبر فيه قاعدة العروضيين في الفرق بين المصرع والمقفى باصطلاحهم.
قال قدامه: الفحول والمجيدون من الشعراء, من القدماء والمحدثين, يجعلون قافية المصراع الأول من القصيدة مثل قافيتها, وربما صرعوا أبياتا أخر من القصيدة بعد البيت الأول, وذلك يكون من اقتداء الشاعر, وسعة تبحره.
كقول أوس بن حجر في قصيدة أولها:
ودع لميس وداع الصارم اللاحي ... قد فنكت في فساد بعد إصلاح
ثم أتى بأبيات أخر وقال:
إني أرقت ولم تأرق معي صاحي ... لمستكف بعيد النوم نواح
وقال ابن الأثير: التصريع ينقسم إلى سبع مراتب: الأولى: أن يكون كل مصراع مستقلا بنفسه في فهم معناه, ويسمى التصريع الكامل.
كقول امرئ القيس:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرما فأجملي
الثانية: أن يكون الأول غير محتاج إلى الثاني, فإذا جاء, جاء مرتبطا به.
كقوله أيضاً:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
الثالثة: أن يكون المصراعان بحيث يصح وضع كل واحد منهما موضع الآخر.
كقول ابن الحجاج:
من شروط الصبوح في المهرجان ... خفة الشرب مع خلو المكان
الرابعة: أن لا يفهم معنى الأول إلا بالثاني.
كقول أبي الطيب:
مغاني الشعب طيبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان
الخامسة: أن يكون التصريع بلفظة واحدة في المصراعين, ويسمى التصريع المكرر, وهو ضربان, لأن اللفظة إما متحدة المعنى في المصراعين.
كقول عبيد بن الأبرص:
فكل ذي غيبة يؤب ... وغائب الموت لا يؤب
وإما مختلفة المعنى لكونه مجازا كقول أبي تمام:
فتى كان شربا للعفاة ومرتعا ... فأصبح للهندية البيض مرتعا
السادسة: أن يكون المصراع الأول معلقا على صفة يأتي ذكرها في أول الثاني, ويسمى التعليق.
كقول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل إلا انجلي ... بصبح وما الاصباح منك بأمثل
وهذا معيب جدا.
السابعة: أن يكون التصريع في أول البيت مخالفا لقافيته (ويسمى التصريع) المشطور.
كقول أبي النواس:
أقلني قد ندمت الذنوب ... وبالإقرار عذت من الجحود
فصرع بالباء, ثم قفاه بالدال. انتهى. ولا يخفى أن هذه خارجة عما نحن فيه.
وبيت بديعية الصفي قوله:
لاقاهم بكماة عند كرهم ... على الجسوم دروع من قلوبهم
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
لا زال بالعزمات الغر والهمم ... يصرع الضد بالتشطير للقمم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
(1/417)
________________________________________
تصريع أبواب عدن يوم بعثهم ... يلقاه بالفتح قبل الناس كلهم
وبيت بديعية المقري:
يسطو بكف يد كفت يد العدم ... تجلو الخطوب وتمحو البؤس بالنعم
وسيأتي بيتا بديعيتي السيوطي والطبري في نوع التصريع, فإنهما جمعا بين النوعين في بيت واحد.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فاق النبيين في فضل وفي كرم ... وفي فخار وفي عز وفي شيم
وبيت بديعيتي قولي:
كفاه نصرا على تصريع جيشهم ... رعب تراع له الآساد في الاجم
مثل ضربة في الاستعمال, فجعل لها قافية مثل قافيته, ولوازم كلوازمه من الحروف والحركات, سمي البيت مقفى, وإن كان عروضه مخالفا لضربه في الاستعمال, فجعلت في البيت كالضرب, فيلزمها ما يلزم الضرب, سمي البيت مصرعا. وكل بيت مصرع فعروضه على زنة ضربه, أو على ما يجوز أن يكون ضربه عليه, وإذا لم يكن مقفى ولا مصرعا سمي مصمتا. والعروض آخر المصراع الأول من البيت, والضرب آخر المصراع الثاني منه, والله أعلم.
الاشتقاق
لم تبق بدر لهم بدرا وفي أحد ... لم يبق من أحد عند اشتقاقهم
هذا النوع استخرجه أبو هلال العسكري في كتابه المعروف بالصناعتين, وذكره في آخر أبواب البديع منه, وعرفه بأن قال: هو أن يشتق من الاسم العلم معنى في غرض يقصده المتكلم من مدح, أو هجاء, أو غير ذلك.
كقول ابن زيد في نفطويه النحوي:
لو أوحي إلى نفطويه ... ما كان هذا النحو يعزى إليه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخا عليه
ومنه قول ابن الرومي:
كأن أباه حين سماه صاعدا ... رأى كيف يرقى في المعالي ويصعد
وقول أبي العلاء المعري:
وقد سماه سيده عليا ... وذلك من علو القدر فال
وهو مأخوذ من قول أبي الطيب:
في رتبة حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا
واستأذن الحاجب يوما على الصاحب لإنسان يعرف بالطرسوسي, فقال: الطرفي لحيته والسوس في حنطته.
وكتب ابن سكرة إلى ابن العصب الملحي:
يا صديقا أفادنيه زمان ... فيه ضن بالأصدقاء
بين شخص وبين شخصك بعد ... غير أن الخيال بالوصل سمح
إنما باعد التآلف منا ... إنني سكر وانك ملح
فأجابه بأبيات منها:
هل يقول الأخوان يوما لخل ... شاب منه محض المودة قدح
بيننا سكر فلا تفسدنه ... أو يقولون بيننا وبينك ملح
ومنه قول أبي الحسن الباخرزي:
غيداء أغوى وأودى حبها وكذا ال ... غيداء غي وداء لفقا لقبا
وبيت صفي الدين قوله:
لم يلق مرحب منه مرحبا ورأى ... ضد اسمه عند هد الحصن والأطم
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
ميم وحا في اشتياق الاسم محو عدى ... والميم والدال مد الخير للأمم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
محمد أحمد المحمود مبعثه ... كل من الحمد تبيين اشتقاقهم
وبيت السيوطي قوله:
وأحمد الناس والمحمود شق له ... من وصفه الحمد وصفا غير منهضم
وبيت العلوي قوله:
بالوضع كسرى التقى كسرا بدولته ... وقيصر قصرت عنه علا الهمم
وبيت الطبري قوله:
محمد المصطفى المحمود في خلق ... أكرم بمشتق حمد مفرد علم
وبيت بديعيتي قولي:
لم تبق بدر لهم بدرا وفي أحد ... لم يبق من أحد عند اشتقاقهم
الاشتقاق في هذا البيت ظاهر, وهو في موضعين, أحدهما: اشتقاق بدر, بمعنى القمر ليلة كماله من بدر بمعنى الموضع الذي كان فيه الوقعة المشهورة, التي نصر الله فيها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. والثاني: اشتقاق أحد, بمعنى واحد من أحد بضمتين: اسم جبل بقرب المدينة المنورة, وكانت به الوقعة المشهورة أيضاً في أوائل شوال سنة ثلاث من الهجرة.
(1/418)
________________________________________
فان قلت: إن وقعة أحد لم ينتصر فيها المسلمون, بل انكسر فيها عسكر الإسلام, فكيف قلت: وفي أحد لم يبق من أحد؟ قلت: قال الواقدي: قالوا: ما ظفر الله نبيه في موطن قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد, حتى عصوا الرسول, وتنازعوا الأمر. لقد قتل أصحاب لواء المشركين, وانكشف المشركون لا يلوون, ونساؤهم يدعون بالويل والثبور, بعد ضرب الدفاف والفرح. وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحدا قال كل واحد: إني لأنظر إلى هند وصواحبها ينهزمن ما دون أخذهن شيئا لمن أراده, ولكن لا مرد لقضاء الله. والواقعة مشهورة مسطورة في كتب السير, والله أعلم.
السلب والإيجاب
لا يسلب القرن إيجابا لرفعته ... ويسلب النقص من أفضاله العمم
هذا النوع, زعم ابن أبي الأصبع انه من مستخرجاته, وهو موجود في كتب القدماء الذين نقل عنهم ككتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري, وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي, وبديع شرف الدين التيفاشي, وذكره عز الدين الزنجاني في معيار النظار.
قال العسكري: هو أن يتبنى الكلام على نفي الشيء من جهة, وإثباته من جهة أخرى, أو الأمر به من جهة, والنهي من جهة أخرى, وما أشبه ذلك, كقوله تعالى "فلا تخشوا الناس واخشون".
ومن النظم قول امرئ القيس:
هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها ... وتملأ منها كل حجل ودملج
وقول الحماسي:
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن
وقوله:
وننكر أن شيئاً على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حيث نقول
وقال ابن أبي الاصبع في تقرير هذا النوع: هو أن يقصد المادح أفراد ممدوح بصفة لا يشركه فيها غيره, فينفيها في أول كلامه عن جميع الناس, ويثبتها لممدوحه بعد ذلك.
كقول الخنساء:
وما بلغت كف امرئ متناول ... من المجد إلا والذي نلت أطول
ولا بلغ المهدون للناس مدحة ... وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل
وهذا التقرير داخل في حد العسكري لهذا النوع.
ومن أمثلته قول الآخر:
خلقوا وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوا
وقول ابن عياش الأندلسي:
ولله سيف ليس يكهم حده ... على أنه إن لم تقلده يكهم
وبيت بديعية الصفي قوله:
أغر لا يمنع الراجين ما طلبوا ... ويمنع الجار من ضيم ومن حرم
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع.
وأما الشيخ عز الدين الموصلي, فرأيت ابن حجة أورد له في هذا النوع بيت نفي الشيء بإيجابه بعينه, وهو:
لم ينف ذما بإيجاب المديح فتى ... إلا وعاقدت فيه الدهر بالسلم
وقد مر الكلام على هذا البيت في النوع المذكور, وأسلفنا أنه ليس فيه معنى غير لفظتي النفي والإيجاب. وإما كونه يصلح شاهدا لهذا النوع -أعني السلب والإيجاب- كما تقتضيه إعادته في هذا النوع, فمنعه أظهر.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
إيجابه بالعطايا ليس يسلبه ... ويسلب المن منه سلب مخترم
وبيت بديعية المقري قوله:
ما مل حرب أعادي الله صارمه ... ومل أحشاءهم في كل مضطرم
قال في شرحه: الإيجاب فيه بلفظة مشتركة حملها لمعنى آخر, فإن قوله (ما مل حرب أعادي الله) من الملالة, وقوله (ومل أحشاءهم) يعني, أحرقها بالنار, ولا يخفى أنه خرج بهذا الحمل عما نحن فيه.
ولم ينظم السيوطي, ولا الطبري هذا النوع.
وبيت بديعية العلوي قوله:
ولا يمن ولو أعطى الوجود فتى ... لكن يمن على الأسرى بفكهم
وبيت بديعيتي قولي:
لم يسلب القرن إيجابا لرفعته ... ويسلب النقص من أفضاله العمم
المشاكلة
يجزي العداة بعدوان مشاكلة ... والفضل بالفضل ضعفا في جزائهم
المشاكلة في اللغة: المشابهة والموافقة, وفي الاصطلاح: ذكر الشيء بلفظ غيره, لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا.
فالأول: كقوله تعالى "وجزاء سيئة سيئة مثلها" فإن الثانية لكونها حقة لا تكون سيئة, لكن لوقوعها في صحبة الأولى عبر عنها بالسيئة. وقوله تعالى "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" أي تعلم ما أخفيه من معلوماتك فلما عبر عن الأول بما في نفسي, عبر عن الثاني بما في نفسك مشاكلة, لأن الحق تعالى وتقدس لا يستعمل في حقه لفظة النفس.
وقول الشاعر:
(1/419)
________________________________________
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخة ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
ذكر خياطة الجبة بلفظ الطبخ لوقوعها في صحبة الطعام, ولا يلزم تقديم الصاحب لمجيئه متأخرا, كقوله عليه السلام (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ فعليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا) فعبر عن قطع الثواب بالملل لوقوعه في صحبته وهو متأخر عنه.
وقول أبي تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلها ... إني بنيت الجار قبل المنزل
فبناء الجار إنما سوغه بناء المنزل وهو متأخر عنه.
وأحسن ما اعتذر به عن قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
انه من هذا الباب, وإن إثبات الماء للملام بمشاكلة ماء البكاء المتأخر عنه.
واستشهد كثير لهذا النوع بقول ابن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
قالوا: سمى جزاء الجهل جهلا مشاكلة. واعترض بأنه إنما كان جهلا للزيادة على جهل الأول, فهو أيضاً جاهل متعد كالأول, وغاية ما يمكن أن يقال في جوابه: إن الزيادة على جهل الظالم في مكافأة ظلمه ليس ظلما في اعتقاد الشاعر, لأن الجهل عنده ما لا يكون له سبب يحال عليه عادة, والأول كذلك, وأما الثاني وإن زاد فيصح أن يحال على الأول.
والثاني: وهو ما يكون وقوعه في صحبة غيره تقديرا, كقوله تعالى "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون" فقوله: صبغة الله, مصدر مؤكد منتصب عن قوله: آمنا بالله, لأن الإيمان يطهر النفوس, فعبر عن الإيمان بالصبغة وإن لم يقع في الصبغ. لأن سبب النزول دال عليه, وذلك أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم, فعبر عن مقابله من تطهير القلوب بالإيمان بصبغة الله مشاكلة, لوقوعه في صحبة صبغة النصارى تقديرا وإن لم يذكر ذلك لفظا, وهذا كما تقول لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان, تريد رجلا يصطنع الكرام ويحسن إليهم, فتعبر عن الاصطناع بلفظ الغرس للمشاكلة, وقرينة الحال, حيث كان مشغولا بالغرس وإن لم يكن له ذكر في المقال.
حكي أن فقيراً وقف على بعض الولاة وهو يغرس فسيلا فأنشده:
إن الولاية لا تدوم لواحد ... إن كنت تنكره فأين الأول
فاغرس من الفعل الجميل غرائسا ... فإذا عزلت فإنها لا تعزل
وأرباب البديعيات إنما بنوا أبياتهم على النوع الأول, وهو ما يكون وقوعه في صحبة غيره تحقيقا لأنه الأشهر والأكثر في الاستعمال.
وبيت بديعية الصفي قوله:
يجزي إساءة باغيهم بسيئة ... ولم يكن عاديا منهم على ارم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
سقاهم الغيث واستسقى لهم ذهبا ... فغير كفيه إن أمحلت لا تشم
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
يجزي بسيئة للضد سيئة ... معنى مشاكلة من خير منتقم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
من اعتدى فبعدوان يشاكله ... لحكمة هو فيها خير منتقم
وبيت بديعية المقري قوله:
يضاعف الأجر والحسنى ويردع عن ... ظلم بظلم ويعفو عن كثيرهم
وبيت بديعية العلوي قوله:
إن الرحيم جزى بالسوء سيئة ... قطيعة العفو للأصحاب والرحم
وبيت بديعية الطبري قوله:
جازى بالإحسان إحسانا مشاكلة ... وألف اللفظ بالمعنى لملتئم
وبيت بديعيتي قولي:
يجزى العداة بعدوان مشاكلة ... والفضل بالفضل ضعفا في جزائهم
ما لا يستحيل بالانعكاس
ألم يفد أجر بر جاد في ملأ ... لم يستحل بانعكاس عن عطائهم
هذا النوع سماه السكاكي مقلوب الكل, وبعضهم المقلوب المستوي, وعرفه الحريري في مقاماته بما لا يستحيل بالانعكاس, وهو أن يكون الكلام بحيث إذا قلبته أي ابتدأت به من حرفه الأخير إلى حرفه الأول كان إياه, وهو قد يقع في النثر وقد يقع في النظم.
أما وقوعه في النثر فكقوله تعالى "كل في فلك" وقوله "ربك فكبر" وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارقا) .
وقول الحريري: كبر أجر ربك.
وقول القاضي الفاضل: أبدا لا تدوم إلا مودة الأدباء.
وقال العماد الكاتب للقاضي الفاضل وقد مر عليه راكبا فرسا: سر فلا كبابك الفرس, فقال له القاضي الفاضل: دام علا العماد.
(1/420)
________________________________________
وقال ابن البارزي: سور حماة بربها محروس.
وقول الصفي الحلي: كن كما أمكنك.
وقول آخر: كبرت آيات ربك.
وقوله: مودتي يحيى تدوم.
وقوله: حوت فمه مفتوح.
وقوله: عقرب تحت برقع.
وقول مؤلفه: أمحمد دم حما.
وأما وقوعه في النظم فقد يكون في شطر البيت كقوله (أرانا الإله هلالا أنارا) , وقد يكون في البيت بتمامه.
كقول الأرجاني:
مودتي تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم
وقول الآخر:
أراهن نادمنه ليل لهو ... وهل ليلهن مدان نهار
وقول الآخر:
عج تنم قربك دعد آمنا ... إنما دعد كبرق منتجع
وقول البحتري:
أس أرملا إذا عرا ... وارع إذا المرء أسا
وبيت بديعية صفي الدين الحلي قوله:
هل من ينم بحب من ينم له ... إذا رموه بمن لم يدر كيف رمي
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
لم يستحل بانعكاس في سجيته ... مدن أخا طعم معط أخا ندم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
بحر وذو أدب بدا وذو رحب ... لم يستحل بانعكاس ثابت القدم
وبيت بديعية المقري قوله:
معط أخا كرم مرض أخا ندم ... مدن أخا ضرم مرك اخا طعم
تبجح الشيخ بهذا البيت فقال: إن تكلف هذا البيت وركة ألفاظه ومعناه مما لا تسيغه الأسماع, ولا تقبله الطباع, ولاسيما الشطر الأخير, فإن الحرس عن مثله أفضل من النطق بكثير.
وبيت بديعية العلوي قوله:
أنلتنا موئلا واليوم أنت لنا ... حصن منيع به ننجو من السقم
وبيت بديعية الطبري قوله:
لم يستحل بانعكاس في مودته ... مسر أخا دهم مهد أخا رسم
الذي أراه أن الطبري إنما لاحظ في هذا البيت عكس الألفاظ فقط, ولم يلتفت إلى أنه يفيد معنى أم لا.
وبيت بديعيتي قولي:
ألم يفد اجر بر في ملأ ... لم يستحل بانعكاس عن عطائهم
أشرت في هذا البيت إلى ما صنعه صلى الله عليه وآله وسلم مع هوزان لما أسرهم, وأصاب من أموالهم وهم أظآره عليه السلام, لأن هوزان جد سعد بن بكر الذين هم قبيلة حليمة السعدية ظئره صلوات الله عليه, وهو سعد بن بكر بن هوزان.
روى ابن فارس في كتابه في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: أن في يوم حنين جاءته امرأة فأنشدته شعرا تذكره أيام رضاعته في هوزان, فرد عليهم ما أخذ, وأعطاهم عطاء كثيرا, حتى قوم ما أعطاهم ذلك اليوم فكأن خمسمائة ألف أوقية, وهذا نهاية الجود الذي لم يسمع بمثله.
وروي عن زهير بن صرد الجشمي أنه قال: لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين ويوم هوزان, وذهب يفرق السبي, قمت بين يديه وقلت: يا رسول الله, إنما في الحظائر خالاتك, وحواضنك اللاتي كفلنك, ولو أنا صافحنا ابن أبي شمر, أو النعمان بن المنذر, ثم أصابنا منهما مثل ما أصابنا منك, رجونا عفوهما وعطفهما, ثم أنشدته أبياتا منها:
أمنن علينا رسول الله عن كرم ... فانك المرء نرجوه وننتظر
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملؤه من محضها الدرر
إذ أنت طفل كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
وألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم, وقالت قريش كذلك, وقالت الأنصار كذلك. وأطلقهم جميعهم.
إذا عرفت ذلك, فقولي: ألم يفد, استفهام إنكار, معناه: أفاد, أي أعطى, لأن الإنكار نفي وقد دخل على النفي, ونفي النفي إثبات.
ومثل ذلك قوله تعالى "ألم نشرح لك صدرك" أي شرحنا.
وقولي: أجر بر, أي جزاء بر, فإن الأجر معناه الجزاء على العمل, والبر: الصلة. وقولي: جاد, أي مطر, من قولهم: جادت السماء جودا بالفتح, أي أمطرت, والضمير فيه راجع إلى الأجر أفاده. وقولي: في ملأ, أي في قوم, والمراد بهم أظآره المذكورون الذين أعطاهم أجر برهم له صلوات الله وسلامه عليه, والله أعلم.
التقسيم
إن مد كفا لتقسيم النوال فهم ... ما بين معطى ومستجد ومستلم
التقسيم في اللغة: التجزئة والتفريق, وفي الاصطلاح على نوعين: أحدهما: أن يذكر قسمة ذات جزئين أو أكثر, ثم يضيف إلى كل واحد من الأقسام ما يليق به.
كقول المتلمس:
(1/421)
________________________________________
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان غير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد
ذكر العير والوتد, ثم أضاف إلى الأول الربط مع الخسف, وإلى الثاني الشج.
وقول ربيعة الرقي:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم
يزيد سليم سالم المال والفتى ... فتى الأزد للأموال غير مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
وقول أبي الفتيان ابن حيوس:
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شفر
يقينك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وسيفك والنصر
الثاني: أن يتقصى تفصيل ما ابتدأ به, ويستوفي جميع الأقسام الذي يقتضيها ذلك المعنى, كقوله تعالى "هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا" إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الغيث ولا ثالث لهذين القسمين, وقوله تعالى "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم" استوفى جميع هيئات الذاكر, وقوله تعالى "يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكوراً, ويزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما" استوفى جميع أحوال المشروحين ولا خامس لها.
وكان الحسن البصري يقول: لا توبة لقاتل المؤمن متعمدا, فدس إليه عمرو بن عبيد رجلا وقال: قل له: لا يخلو من أن يكون مؤمنا أو كافرا أو منافقا (أو فاسقا) . فإن كان مؤمنا, فإن الله سبحانه يقول "يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا", ويقول "توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون", وإن كان كافرا فانه تعالى يقول "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف", وإن كان منافقا فانه تعالى يقول "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا", وإن كان فاسقا فانه يقول "أولئك هم الفاسقون إلا الذين تابو".
فقال الحسن للرجل: من أين لك هذا؟ قال: شيء اختلج في صدري, قال: محال: أصدقني, فقال: عمرو بن عبيد, فقال عمرو وما عمرو, إذا قام بأمر قعد به, وإذا قعد بأمر قام به. ورجع عن قوله.
وحكي أنه قدم وفد من العراق على هشام بن عبد الملك وفيهم رجل من بني أسد, فقال: يا أمير المؤمنين, أصابتنا سنون ثلاث. أما الأولى فأذابت الشحم, وأما الثانية فنخست اللحم, وأما الثالثة, فهاضت العظم, وفي أيديكم فضول أموال, فإن كانت لله فبثوها في عباد الله, وإن كانت لهم فلا تمنعوهم إياها, وإن كانت لكم فتصدقوا إن الله يجزي المتصدقين.
فقال هاشم: ما ترك لنا في واحدة عذرا, ثم قال له: قد قلت في حاجة العامة فقل في حاجة نفسك, فقال: ما لي حاجة في خاصة دون عامة.
ولما ورد قتيبة من مسلم خراسان قال: بلغني أن لعبد الله بن حازم بهذه البلدة مالا فمن كان في يده شيء منه فلينبذه, ومن كان في فمه فليلفظه, ومن كان في صدره فلينفثه, فتعجبوا من حسن تفصيله.
ومثاله في الشعر قول نصيب:
فقال فريق الحي لا وفريقهم ... نعم وفريق قال ويحك لا ندري
وقول زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم
وقوله:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو شهود أو جلاء
وروي أن عمر لما سمع هذا البيت قال: لو أدركت زهيراً لوليته القضاء.
وقول الشماخ يصف صلابة سنابك الحمار:
متى ما تقع أرساغه مطمئنة ... على حجر يرفض أو يتدحرج
فليس في أقسام ما وطي الوطي الشديد إلا أن يوجد إما رخوا فيرفض, أو صلبا فيتدحرج.
وقول عمرو بن الأهتم:
اشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل أو هارب أو أسير
وقول أبي تمام في مجوسي أحرق بالنار:
صلى لها حيا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجار
وقول الآخر:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
فان المشكو إليه إما أن يواسي الشاكي وهي الرتبة العليا, وإما أن يسليه وهي الرتبة الوسطى, وإما أن يتوجع وهي الرتبة السفلى.
وفساد التقسيم يكون إما بالتكرار كقوله:
فما برحت تومي إليك بطرفها ... وتومض أحيانا إذا خصمها غفل
فتومي بطرفها وتومض متساويان في المعنى.
أو بدخول أحد القسمين في الآخر كقول عدي:
(1/422)
________________________________________
غير ما أن أكون نلت نوالا ... من نداها عفوا ولا مهنيا
فيجوز أن يكون العفو مهنيا وبالعكس.
وقول البحتري:
قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا ... أو مغيثا أو عاذرا أو عذولا
قال ابن الأثير في المثل السائر: وهذا من فساد التقسيم, فإن المشوق يكون حزينا, والمسعد يكون مغيثا, وكذلك قد يكون المسعد عاذرا.
أو بترك بعض الأقسام كقول جرير:
صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها
وقال بواب المأمون يوما للوقوف على الباب: كم تقفون على الباب؟ اختاروا واحدة من ثلاث: إما أن تقفوا ناحية الباب, وإما أن تجلسوا في المسجد, ثم سكت, فقالوا: فالخصلة الثالثة؟ فلم يحسن أن يثلث, فقال: جئتمونا بكلام الزنادقة؟. فحدث به المأمون فضحك وأمر له بألف درهم, وقال: لولا أنها نادرة جهل لاستحق بها أكثر.
وبيت بديعية الصفي قوله:
أفنى جيوش العدى غزوا فلست ترى ... سوى قتيل ومأسور ومنهزم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
عيثان أما الذي من فيض أنمله ... فدائم والذي للمزن لم يدم
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
تقسيمه الدهر يوما أمسه كغد ... في الحلم والجود والأيفاء للذمم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
هداه تقسيمه حالي به صلحت ... حيا وميتا ومبعوثا مع الأمم
رأيت في شرح بديعية ابن حجة مكتوبا على الهامش بإزاء هذا البيت ما نصه: شكر الله فضل أبي تمام, وجزاه عن المصنف خيرا. انتهى. يشير إلى أن التقسيم فيه مأخوذ من بيت أبي تمام المقدم ذكره, وهو:
صلى لها حيا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجار
وبيت بديعية المقري قوله:
في الله أعطى وهل أبقت يد سمحت ... بالنفس والمال والأهلين والحشم
هذا البيت فيه فساد التقسيم, فإن الأهل يدخلون في الحشم. قال في القاموس: حشم الرجل: خاصته الذين يغضبون له من أهل, وعبيد, وجيرة, وهو عيالة والقرابة أيضاً. انتهى.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
تقسيمه الخزي في الكفار يوم وغى ... قتلا وسبيا وتشريدا لمنهزم
وبيت بديعية العلوي قوله:
مرآه كالبرق ترجوه وترهبه ... والقبض في كفه والبسط للاضم
وبيت بديعية الطبري قوله:
تقسيم آياته كالضب كلمه ... والجذع حن ونبع الما لريهم
قال الشيخ صفي الدين في شرح بديعيته: اشترط البديعيون في التقسيم أن يستوفي أقسام القسمة, فلا يغادر منها قسما. انتهى. وعلى هذا فبيت الطبري خارج عن شرط البديعيين, لأنه لم يستوف أقسام الآيات.
وبيت بديعيتي قولي:
إن مد كفا لتقسيم النوال فهم ... ما بين معطى ومستجد ومستلم
هذه الأقسام الثلاثة لا رابع لها, لأن العفاة عند مد الكف للعطاء, إما معطى, أو سائل, أو مستلم. لا يقال: قد يكون كل من هذه الأقسام داخلا في الآخر, لانا نقول: المراد في تلك الحالة الراهنة, فلا تداخل, والله أعلم.
الإشارة
درى إشارة من وافاه مجتديا ... فجاد ما جاد مرتاحا بلا سأم
هذا النوع من مستخرجات قدامة. وهو عبارة عن أن يشير المتكلم إلى معان كثيرة بكلام قليل يشبه الإشارة باليد. فإن المشير بيده يشير دفعة واحدة إلى أشياء لو عبر عنها لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة.
ومن شواهدها في الكتاب العزيز قوله تعالى "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين". قال بعضهم: جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على وصف ما فيها على التفصيل لم يخرجوا عنه. وقوله تعالى "أخرج منها ماءها ومرعيها" دل بهاتين الكلمتين على جميع ما أخرجه من الأرض, قوتا ومتاعا للأنام, من العشب والشجر والحب والثمر, والعصف والحطب واللباس, والنار والملح. لأن النار من العيدان, والملح من الماء. وقوله تعالى "فأصدع بما تؤمر". قال ابن أبي الأصبع: المعنى: صرح بجميع ما أوحي إليك, وبلغ كل ما أمرت ببيانه وإن شق بعض ذلك على بعض القلوب فانصدعت كالزجاجة.
والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصريح في القلوب, فيظهر ذلك على ظاهر الوجوه من التقبض والانبساط, ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة. فانظر إلى جليل هذه الاستعارة وعظم أيجازها, وما انطوت عليه من المعاني الكثيرة.
(1/423)
________________________________________
وقد حكي: إن بعض الأعراب لما سمع هذه الآية سجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. انتهى.
وقوله تعالى "فغشيهم من اليم ما غشيهم" أي غشي آل فرعون وجنوده من البحر ما لا يدخل تحت العبارة, ولا يحيط به إلا علم الله تعالى من العذاب, والهلاك, والغضب والانتقام, والاستئصال إلى غير ذلك. دل على ذلك كله كلمة (ما) في قوله (ما غشيهم) . ومثل ذلك قوله تعالى "فأوحى إلى عبده ما أوحى".
ومن الشعر قول امرئ القيس:
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كز ولا وان
فانه أشار بقوله: أفانين جري, إلى جميع صنوف عدو الخيل المحمودة التي لو عبر عنها لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة, واحترز بنفي الكزوزة والونى من الحران, والجمام والعثور.
وقوله:
تظل لنا يوم لذيذ بنعمة ... فقل في مقيل نحسه متغيب
فدل باليوم اللذيذ على جميع ما احتوى عليه من المآكل والمشارب اللذيذة, والملاذ السماعية, وسرور النفس والارتياح, إلى غير ذلك مما لا يتسع له الحصر. وكذا في قوله: تحسه متغيب, من ذهاب الغموم والهموم, والمكاره والمخاوف ونحو ذلك.
وبيت بديعية الصفي قوله:
يولي الموالين من جدوى شفاعته ... ملكا كبيرا عدا ما في نفوسهم
قال في شرحه: الإشارة فيه قوله: ملكا كبيرا.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
ما تشتهي النفس يهدى في إشارته ... تعطى فنونا بلا من ولا سأم
وبيت بديعية المقري قوله:
محرم قعدة لا في ربيع ندى ... أصب ما فيه لم يخطر على الهمم
قال في شرحه: الإشارة فيه قوله: ما فيه لم يخطر على الهمم.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
يا أكرم الرسل يا من في إشارته ... حوز المنى وبلوغ القصد من أمم
وبيت بديعية العلوي قوله:
يفيد بعض نوال أمته ... عزاً وذاماً عظيماً غير منصرم
وبيت بديعية الطبري قوله:
حوى فصائل لا حد يشار لها ... به فيفصح عنه واصف بفم
وبيت بديعيتي قولي:
درى إشارة من وافاه مجتدياً ... فجاد ما جاد مرتاحا بلا سأم
الإشارة فيه قولي: فجاد ما جاد, على حد قوله تعالى "فأوحى إلى عبده ما أوحى" و"فغشيهم من أليم ما غشيهم" والله أعلم.
تشبيه شيئين بشيئين
شيئان شبههما شيئان منه لنا ... نداه في المحل مثل البرء في السقم
هذا النوع عبارة عن أن يأتي المتكلم بشيئين, ويقابلهما بشيئين لأجل التشبيه, وهو على نوعين: أحدهما, أن يكون المقصود تشبيه كل جزء من جزء أحد طرفي التشبيه بما يقابله من الطرف الآخر.
كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
شبه الرطب والطري من قلوب الطير بالعناب, واليابس بالحشف البالي. وليس تحت هذا أمر كبير, إذ ليس لاجتماعهما هيئة مخصوصة يعتد بها ويقصد تشبيهها, ولذا قال الشيخ في أسرار البلاغة: إنه إنما يستحق الفضيلة من حيث اختصار اللفظ وحسن الترتيب فيه, لا لأن للجمع فائدة في عين التشبيه.
الثاني, أن يكون المقصود تشبيه هيئة حاصلة من مجموع جزئي أحد الطرفين بالهيئة الحاصلة من مجموع الطرف الآخر وإن كان الظاهر فيه تشبيه شيئين بشيئين, وهذا النوع هو الذي تعقد عليه الخناصر, ويعز وقوعه, لا مطلق تشبيه شيئين بشيئين, كما يقتضيه إطلاق شراح البديعيات, وهو على قسمين: أحدهما, ما يكون بحيث يحسن تشبيه كل جزء من جزئي أحد طرفيه بما يقابله من الطرف الآخر كقوله:
وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق
فانك لو قلت: كأن النجوم درر, وكأن السماء بساط أزرق, كان تشبيها مقبولا حسنا, ولكن أين هو من المقصود من التشبيه وهو الهيئة التي تملأ القلوب سرورا وعجبا من طلوع النجوم صغارها وكبارها, مؤتلفة ومفترقة في أديم السماء وهي زرقاء رزقتها الصافية.
الثاني, ما لا يكون بهذه الحيثية.
كقول القاضي:
أنما المريخ والمشتري ... قدامه في شامخ الرفعه
منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجت قدامه شمعه
(1/424)
________________________________________
فانك لو قلت: كأن المريخ منصرف بالليل عن دعوة, وكأن المشتري شمعة, لم يكن شيئا, إذ المقصود تشبيه الهيئة الحاصلة من المريخ حال كون المشتري أمامه بالهيئة الحاصلة من المنصرف عن الدعوة مسرجا الشمعة قدامه.
وإلى هذا أشار صاحب الكشاف حيث قال: أن العرب تأخذ شيئاً فرادى معزولا بعضها عن بعض وتشبهها بنظائرها, وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاءمت وتلاصقت, حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها. وهذا النوع يسميه أرباب البيان: تشبيه المركب بالمركب, وإنما أطلق عليه البديعيون: تشبيه شيئين بشيئين, باعتبار تعدد طرفيه.
حكي عن بشار أنه قال: ما زلت منذ سمعت قول امرئ القيس يصف العقاب:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
لا يأخذني الهجوع حسدا له, إلى أن نظمت في وصف الحرب قولي:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وقد تقدم الكلام على هذا البيت في نوع التشبيهن ومرت لهذا النوع شواهد كثيرة هناك.
وبيت بديعية الصفي قوله:
تلاعبوا تحت ظل السمر من مرح ... كما تلاعبت الأشبال في الأجم
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
شيئان تشبيه شيئين أتنبه لهما ... حلم وجهل هما كالبرء والسقم
الشيخ عز الدين جهل في هذا التشبيه جهلا لا يسعه حلم, فانه وقع في القصيدة من جملة المديح النبوي, وفيه الإيهام القبيح ما لا يخفى. نعوذ بالله من آفة الغفلة.
وبيت بديعية ابن حجة:
شيئان قد أشبها شيئين فيه لنا ... تبسم وعطا كالبرق في الديم
وبيت بديعية المقري قوله:
تراه في جيشه كالبدر في شهب ... بالبلق قد جال في الهيجاء بالدهم
وبيت بديعية السيوطي قوله:
شيئان قد أشبها شيئين منه على ... وجه وشعر كمثل البدر في الظلم
وبيت بديعية العلوي قوله:
فحوصه ولواه شافيان كما ... قدما شفى كفه والنفث من ألم
وبيت بديعية الطبري قوله:
تشبيه شيئين بالشيئين فيه هما ... النور والفيض مثل البدر والديم
وبيت بديعيتي قولي:
شيئان شبههما شيئان منه لنا ... نداه في المحل مثل البرء في السقم
الكناية
سامي الكناية مهزول الفصيل إذا ... ما جاءه الضيف أبدى بشر مبتسم
الكناية في اللغة: مصدر قولك: كنبت بكذا عن كذا, وكنوت: إذا تركت التصريح. وفي الاصطلاح: ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر لازمه المساوي, لينتقل الذهن منه إلى اللزوم المطوي ذكره, كما يقال: فلان طويل النجاد, أي طويل القامة, فترك التصريح بطول القامة إلى ذكر لازمه المساوي وهو طول النجاد, لينتقل الذهي منه إلى طول القامة. وقولهم: فلان كثير الرماد, كناية عن أنه كثير القرى, لأن القرى إذا كثر كثر الرماد, وهي أبلغ من التصريح أجماعا, لأنك إذا أثبت كثرة القرى مثلا بإثبات شاهدها ودليلها, وما هو علم على وجودها, فهو كالدعوى التي معها شاهد ودليل, وذلك أبلغ من إثباتها بنفسها وأن كان لا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم. ألا ترى أنك تقول: فلان طويل النجاد, وإن لم يكن له نجاد قط, ولكن تجد اطمئنان النفس حينئذ أكثر.
ومن أمثلتها في الشعر قول عمر بن أبي ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم
كني عن طول جيدها ببعد مهوى القرط.
وقول امرئ القيس:
ويضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
أي أنها مرفهة مخدومة, غير محتاجة إلى السعي بنفسها في أصلاح المهمات. وذلك أن وقت الضحى وقت سعي نساء العرب في أمر المعاش, وكفاية أسبابه, وتحصيل ما يحتاج أليه من تهيئة المتناولات وتدبير إصلاحها, فلا ينام فيه من نسائهم إلا من يكون لها خدم ينوبون عنها في السعي لذلك.
وإنها في بيتها متفضلة لا تشد نطاقها للخدمة.
وقول ليلى الأخيلية:
ومخرق عنه القميص تخاله ... بين البيوت من الحيا سقيما
كنت عن الجود بخرق القميص لجذب العفاة له عند ازدحامهم عليه لأخذ العطاء.
وقول الحضرمي:
قد كاد بعجب بعضهن براعتي ... حتى سمعن تنحنحي وسعالي
كنى عن كبر السن بالتنحنح والسعال.
وقول زهير:
(1/425)
________________________________________
ومن يعص أطراف الزجاج فانه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم
أراد أن يقول: من لم يرض بأحكام الصلح, فكنى عنه بقوله: ومن يعص أطراف الزجاج, وذلك أنهم كانوا إذا طلبوا الصلح قلبوا زجاج الرماح وجعلوها قدامها مكان الأسنة, وإذا أرادوا الحرب أشرعوا الأسنة وأخروا الزجاج.
وقد تجمع في البيت كنايتان الغرض منهما واحد, ولكن لا تكون إحداهما كالنظير للأخرى, بل كل واحدة منهما أصل بنفسه كقوله:
وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل
فقوله: جبان الكلب مهزول الفصيل, كنايتان, الغرض منهما واحد, وهو كونه كثير الأضياف, لأن كثرة ترددهم على داره تجبن الكلب عن الهرير في وجوههم, وكثرتهم لديه تقتضي أن لا يبقى في ضرع المتلية إذا حلبها ما يغتذي به فصيلها.
قال بعضهم: ولا يعدل عن التصريح إلى الكناية إلا لسبب, ولها أسباب: أحدها: قصد المدح, كأكثر الأمثلة المذكورة.
الثاني: قصد الذم, كقولهم كناية عن الأبله: عريض القفا, فإن عرض القفا وعظم الرأس مما يستدل به على بلاهة الرجل.
الثالث: ترك اللفظ إلى ما هو أجمل كقوله تعالى "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة" فكنى بالنعجة عن المرأة كعادة العرب في ذلك, لأن ترك التصريح بذكر النساء أجمل, ولهذا لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا مريم عليها السلام. قال السهيلي: وإنما ذكرت مريم باسمها على خلاف عادة الفصحاء لنكتة وهي: أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ, ولا يبتذلون أسمائهن, بل يكتفون عن الزوجة بالعرس, والعيال ونحو ذلك, فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسمائهن عن الذكر. فلما قالت النصارى في مريم ما قالوا صرح الله باسمها ولم يكن تأكيدا للعبودية التي هي صفة لها, وتأكيدا لأن عيسى لا أب له وإلا لنسب إليه.
ومن ذلك قول الشاعر:
ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام
كنى بالنخلة عن المرآة.
الرابع: أن يكون التصريح مما يستهجن ذكره, كما كنى الله سبحانه عن الجماع بالملامسة, والمباشرة, والإفضاء, والسر, والدخول, والغشيان. وكنى عنه أو عن المعانقة باللباس في قوله "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن". وكنى عن البول ونحوه بالغائط في قوله "أو جاء أحد منكم من الغائط" وأصله المطمئن من الأرض. وكنى عن قضاء الحاجة بأكل الطعام في قوله في مريم وابنها "كانا يأكلان الطعام" وكنى عن الاستاه بالأدبار في قوله "يضربون وجوههم وأدبارهم".
أخرج ابن أبي حاتم في هذه الآية عن مجاهد قال: يعني أستاهم, ولكن الله يكني. حكي أن عبد الله بن الزبير قال لامرأة عبد الله بن حازم: أخرجي المال الخفي الذي وضعته تحت أستك, فقالت: ما ظننت أن أحدا يلي شيئا من أمور المسلمين يتكلم بهذا. فقال بعض الحاضرين: أما ترون الخلع الخفي الذي أشارت إليه.
ومن الحجاج أنه لام عبد الرحمن بن الأشعث: عمدت إلى مال الله فوضعته تحت ذيلك. فكنى لئلا يعاب بما عيب به ابن الزبير.
ومنه قول امرئ القيس:
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال
كنى بالذلة عن إسعافها وتمكينها إياه من قضاء وطره.
لخامس: قصد المبالغة كقوله تعالى "ولما سقط في أيديهم" كناية عن اشتداد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل, لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها, لأن فاه قد وقع فيها. السادس: قصد الاختصار, كالكناية عن ألفاظ متعددة بلفظ فعل نحو "لبئس ما كانوا يفعلون" "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا" "فأتوا بسورة من مثله", إلى غير ذلك من الأسباب التي لا يكاد يضبطها الحصر.
ثم الكناية أن لم يكن الانتقال منها إلى المطلوب بواسطة فقريبة, كقولهم كناية عن طول القامة: طويل النجاد, وإن كان بواسطة فبعيدة, كقولهم كناية عن المضياف: كثير الرماد, فانه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدر, ومنها إلى كثرة الطبائخ, ومنها إلى كثرة الأكلة, ومنها إلى كثرة الضيفان, ومنها إلى المقصود. وبحسب قلة الوسائط وكثرتها تختلف الدلالة على المقصود وضوحا وخفاء.
وبيت بديعية الصفي قوله:
كل طويل نجاد السيف يطربه ... وقع الصوارم كالأوتار والنغم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
(1/426)
________________________________________
داع كثير رماد القدر إن وصفت ... كناية بطنها والظهر بالدسم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قالوا طويل نجاد السيف قلت لهم ... لناره السن تكني عن الكرم
تبجح ابن حجة على جاري عادته بهذا البيت وقال: إن الناس كنوا بطول النجاد عن طول القامة, ولكن الكناية بألسن النيران عن كثرة الكرم والقرى لا يخفى استعارتها التي كادت تقوم مقام الحقيقة من المحاسن الظاهرة. انتهى.
وأنا أقول: كلامه يفهم أن هذه الكتابة والاستعارة هو أبو عذرها, وليس كذلك, فانه سرقهما من قول صردر الشاعر وأخل بكثير من محاسنه, حيث يقول:
قوم إذا حيا الضيوف جفانهم ... ردت عليهم ألسن النيران
فما زاد ابن حجة على أن نقص محاسن هذه الاستعارة, ونظمها في بيته, ثم جعل يتبجح المخترع المبتكر, وما أشبه حاله بما حكي أن رجلا كان واقفا بين الناس ينظر إلى خيل تتسابق, فسبق منها جواد, فصفق بيديه وكاد يطير فرحا, فقيل له: أهذا الجواد لك؟ فقال ولكن اللجام لي.
وبيت بديعية المقري قوله:
بيض تركن وجوه الضاربين بها ... كمثلها وقنا أجرت قناة دم
قال في شرحه: الكناية فيه قولها: كمثلها, أي تركن وجوههم بيضا, كنى بذلك عن كونها قاطعة, لأن الضارب إذا قطع سيفه أبيض وجهه, وإذا خانه سيفه أخجله.
وبيت بديعية العلوي قوله:
إذ شاهد الآية الكبرى بمقلته ... خصيصة دون خلق الله كلهم
وبيت بديعيتي قولي:
سامي الكناية مهزول الفصيل إذا ... ما جاءه الضيف أبدى بشر مبتسم
الكناية في قولي: مهزول الفصيل, وهو كناية عن المضياف, وفسرت على وجهين: أحدهما ما تقدم من أنه يستفرغ للضيفان جميع ما في ضروع أبله من اللبن, بحيث لا يبقى لفصالها ما تغتذي به, فلا تزال مهزولة. والثاني أنه ينجز المتليات من الإبل للضيفان, فتفقد الفصال أمهاتها فتهزل بسبب ذلك, وهذا الوجه أحسن من الأول لما فيه من المبالغة في المدح, فإن العرب لكمال عنايتها بالنوق قلما تنحر المتليات منها, والله أعلم.
الترتيب
شمس وبدر ونجم يستضاء به ... ترتيبه ازدان من فرع إلى قدم
هذا النوع استخرجه شرف الدين التيفاشي, وسماه بهذا الاسم وقال: هو إيراد أوصاف شتى لموصوف واحد, في بيت أو أكثر, على ترتيبها في الخلقة الطبيعية, من غير إدخال وصف زائد عما يوجد علمه في الذهن, أو في العيان.
كقول مسلم بن الوليد:
هيفاء في فرعها ليل على قمر ... على قضيب على حقف النقا الدهس
فان الأوصاف الأربعة فيه على ترتيب خلق الإنسان من الأعلى إلى الأسفل.
وبيت بديعية صفي الدين الحلي:
كالنار منه رياح الموت قد عصفت ... روى صرى مائه أرض الوغى بدم
قال في شرحه: هو على ترتيب العناصر الأربعة: النار والهواء والماء والتراب.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
له الملائك والإنسان أجمعهم ... والجن والوحش في الترتيب كالخدم
قال في شرحه: على ترتيب المخلوقات: الملائك والأنس والجن والوحش.
وبيت بديعية ابن حجة قوله: ترتب الحيوانات السلام له=والنبت جماد الصخر في الأكم قال في شرحه: هو على ترتيب الموجودات, وهي الحيوان والنبات والجماد.
وبيت بديعية المقري قوله:
في وجهه قمر في درعه زأر ... في كفه قدر فيه ضرى الضرم
قال في شرحه: الترتيب فيه ظاهر, فإن ما في الوجه مقدم على ما فيه من الضرم, لأن الصفة تابعة للموصوف. هذا نصه, ولا أعجب من دعوى الظهور مع هذا الخفاء.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فالرأس مغمدها والحلق موردها ... والقلب مسلكها والترب في القدم
ولم ينظم السيوطي ولا الطبري هذا النوع.
وبيت بديعيتي قولي:
شمس وبدر ونجم يستضاء له ... ترتيبه ازدان من فرع إلى قدم
الترتيب فيه ظاهر, فانه شبهه صلى الله عليه وآله وسلم بالنيرات الثلاث, ورتبها في الذكر على ترتيبها في الخلقة الطبيعية, فإن الشمس أعظم من البدر وصفا وجرما, والبدر أعظم من النجم كذلك, والله أعلم.
المشاركة
جلت معاليه قدرا عن مشاركة ... وهو الزعيم زعيم القادة البهم.
(1/427)
________________________________________
هذا النوع -ويسمى الاشتراك أيضاً- عبارة عن أن يأتي الشاعر بلفظة مشتركة بين معنيين اشتراكا أصليا وعرفيا, فيسبق ذهن السامع إلى المعنى الذي لم يقصده الشاعر, فيأتي بما يبين قصده.
كقول كثير عزة:
فأنت التي حببت كل قصيرة ... إلي ولم تعلم بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطى شر النساء البحاتر
فان قوله في البيت الأول: قصيرة, مشترك بين قصيرة القامة, وبين المقصورة بمعنى المحبوسة, ومنه قوله تعالى "حور مقصورات في الخيام" وهو المعنى الذي قصده, فلولا بيانه بقوله في البيت الثاني: عنيت قصيرات الحجال, أي المقصورات في الحجال, لتوهم السامع أنه أراد القصار بالمعنى الأول. والبحاتر جمع بحترة, وهي القصيرة المجتمعة الخلق. والفرق بين هذا النوع وبين التوهيم, أن هذا النوع يكون باللفظة المشتركة فقط, والتوهيم يكون بها وبغيرها, كتصحيف أو تحريف, أو تبديل, أو سبق الذهن لغير المطلوب. والفرق بينه وبين الإيضاح, إن الإيضاح في المعاني لا الألفاظ وهذا بالعكس.
وبيت بديعية الصفي قوله:
شيب المفارق يروي الضرب من دمهم ... ذوائب البيض بيض الهند لا اللمم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
وللغزالة تسليم به اشتركت ... مع التي هي ترعى نرجس الظلم
هذا البيت غير منطبق على حد هذا النوع كما لا يخفى, وقد أطال الكلام عليه ابن حجة بما لا طائل تحته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
بالحجر ساد فلا ند يشاركه ... حجر الكتاب المبين الواضح اللقم
وبيت بديعية المقري قوله:
كم سد بالفتح من ثغر وأضحكه ... فتح المدائن أعني لا ثغورهم
وبيت بديعية السيوطي قوله:
والصهر من شارك الصديق في قدم ... في سبق الإسلام لا في الفضل من قدم
وبيت بديعية العلوي قوله:
صدر المجلس يخشى الصدر سطوته ... صدر الكتائب ماضي السيف والقلم
وبيت بديعية الطبري قوله:
له الوسيلة أعني في الجنان بما ... قد خص نفيا لإبهام اشتراكهم
قال في شرحه: الاشتراك في الوسيلة, لأنها اسم لما يتوسل به, واسم لأعلى درجة في الجنة مخصوصة بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
وبيت بديعيتي قولي:
جلت معاليه قدرا عن مشاركة ... وهو الزعيم زعيم القادة البهم
الاشتراك فيه في لفظة (زعيم) فإنها مشتركة بين معنيين, أحدهما بمعنى الكفيل, ومنه قوله [تعالى] "ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم" أي كفيل, والثاني بمعنى سيد القوم ورئيسهم وهو المعنى المقصود الذي بينه بقوله: زعيم القادة البهم, لئلا يسبق ذهن السامع إلى أنه أراد المعنى الأول. والقادة جمع قائد وهو أمير الجيش الذي يقوده, والبهم جمع بهمة بالضم, وهو الشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى لشدة بأسه, والله أعلم.
التوليد
للواصفين علاه كل آونة ... توليد معنى به الألفاظ لم تقم
التوليد في اللغة: مصدر ولدت القابلة المرأة, إذا تولت ولادتها, وولدت الشيء عن غيره: أنشأته عنه, وهو المنقول عنه إلى الاصطلاح. وفي الاصطلاح على ضربين: أحدهما لفظي, وهو التوليد من الألفاظ ولا يعد من المحاسن, بل هو إلى السرقة أقرب, لأنه عبارة عن أن يستحسن الشاعر ألفاظا من شعر غيره فيسلبها منه, ويضمنها معنى غير معناها الأول, ويوردها في شعره.
كقول امرئ القيس في وصف الفرس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قبد الأوابد هيكل
فاستحسن أبو تمام استعارته في قوله: قيد الأوابد, فنقله إلى الغزل فقال:
لها منظر قيد النواظر لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب
والأوابد في بيت امرئ القيس: الوحوش, من أبدت: إذا نفرت من الأنس, وجعل الفرس قيدها, لأنه يدركها ويمنعها المضي والخلاص من الطالب, كما يمنعها القيد.
الثاني معنوي, وهو التوليد من المعاني, وهذا يعد من المحاسن, وهو الغرض هنا, وذلك بأن ينظر الشاعر إلى معنى لمتقدم ويكون محتاجا إلى استعماله, لكونه آخذا في ذلك الغرض فيورده ويزيد فيه.
كقول القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
أخذه السالم الشاعر ونقص في الألفاظ وزاده تذييلا وتمثيلا وتأكيدا فقال:
(1/428)
________________________________________
عليك بالقصد فيما أنت طالبه ... أن التخلق يأتي بعده الخلق
فمعنى صدر هذا البيت معنى بيت القطامي بكماله, ومعنى عجزه زائد عليه لأنه تذييل, حيث أتى بعد تمام الكلام بجملة تشتمل على معناه تجري مجرى المثل السائر لتوليد المتقدم وتحقيقه.
وكقول ابن المعتز (فالشمس نمامة والليل قواد) أخذه أبو الطيب وكساه من شرف الألفاظ وبراعة النسج مالا مزيد عليه, وزاد فيه من حسن الطباق وملاحة التقسيم ما لم يسبق إلى مثله فقال:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قال ابن جني: حدثني المتنبي وقت القراءة عليه قال: قال لي ابن خنزابة وزير كافور: أعلمت أني أحضرت كتبي كلها, وجماعة من الأدباء, يطلبون لي من أين أخذت هذا المعنى فلم يظفروا بذلك -وكان أكثر من رأيت كتبا-. قال ابن جني ثم إني عثرت على الموضوع الذي أخذه منه وهو قول ابن المعتز المذكور.
وكقول أبي تمام:
يمدون بالبيض القواطع أيديا ... فهن سواء والسيوف القواطع
أخذه أبو الطيب أيضاً وزاده مبالغة بتجاهل العارف فقال:
همام إذا ما فارق الغمد سيفه ... وعاينته لم تدر أيهما النصل
وقول النابغة الذبياني:
وعيرني بنو ذبيان خشيته ... وهل علي بأن أخشاه من عار
أخذه الأخطل وزاده تشبيها وتذييلا فقال:
وأن أمير المؤمنين وفعله ... لكا لدهر لا عار بما صنع الدهر
وأمثلة هذا النوع أكثر من أن تحصى.
وبيت بديعية الصفي قوله:
من سبق لا يرى سوط لها سملا ... ولا جديد من الأرسان واللجم
قال في شرحه: أنه مولد من قول ابن الحجاج:
خرقت صفوفهم بأقب نهد ... مراح السوط متعوب العنان
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
مالي بتوليد مدحي في سواه هدى ... لمعشر شبهوا الهندي بالجلم
قال في شرحه: انه ولده من قول أبي الطيب:
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما يراه من الإحسان عميانا
ثم قال في شرحه: ما شبه السيف بالمقص إلا أعمى. انتهى. وهو نوع من التعمية غريب, فإن بيت أبي الطيب بمعزل عن معنى بيته كما هو ظاهر.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
توليد نصرتهم يبدو بلطعته ... ما السبعة الشهب ما توليد رملهم
قال في شرحه: هذا المعنى ولدته من قول أبي تمام:
والنصر من شهب الأرماح طالعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أقول: إن ابن حجة لم يستحسن نوع التوليد من البديع, وقال